يروي أبو بكرة نفيع بن الحارث أن الله نفعه بكلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكرها في أيام الجمل، بعدما كاد أن يلحق بأصحاب الجمل ليقاتل في حزب طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم.
فيخبر أبو بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى- وهو لقب لملكهم- أي: جعلوها ملكة عليهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، ففسر بعضهم هذا الحديث بأنهم لن يفوزوا بما يطلبون إذا ولوا وملكوا أمرهم امرأة؛ وذلك لنقص المرأة وعجزها على حد تصورهم، فهي في نظرهم عورة لا تصلح للقيام بأمور الرعية، ولا يصح أن تولى الإمامة، ولا القضاء.
ولكن القرآن الكريم من جانب آخر سلط الضوء على حكمة وفعالية قيادة ملكة سبأ، مما يدعو إلى إعادة النظر في التفسير التقليدي للحديث الذي يشير إلى أن قوماً تقودهم امرأة لن يفلحوا، موضحاً أن ملكة سبأ أثبتت أن النساء يمكنهن أن ينجحن في القيادة ويحققن الازدهار لشعوبهن.
فالقرآن يروي القصص للعبرة لا للتسلية، وفي هذه الحالة، العبرة هي إمكانية نجاح القيادة النسائية، وكذلك يعلمنا من خلالها الشورى والحكمة والتدبير الجيد في الحكم.
ذُكرت قصة ملكة سبأ في سورة النمل، وهي المرأة التي حكمت هذه الدولة في اليمن جنوب شبه الجزيرة العربية، وحكمتها بحكمة وكياسة وحسن سياسة وحسن تدبير، وقادت قومها إلى خيري الدنيا والأخرة.
وتشير القصة إلى أن هذه امرأة عاقلة، فعندما جاءها كتاب سليمان عليه السلام، “أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” جمعت قومها واستشارتهم “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ”، أي يا كبراء القوم “أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ”، فكانت امرأة شورية، أو بالتعبير الحديث تأخذ بالديمقراطية، ولا تستبد بالرأي.
ومع هذا قومها فوضوا لها الأمر، “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”، فكبار القوم أسلموا زمامهم لهذه المرأة، فكانت عند حُسن الظن.
ثم أشار القرآن إلى أنها حكيمة عندما “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ”، فلخصت ما يفعله المستعمر إذا دخل بلداً، يفسدها ويذل أهلها.
ثم أرادت أن ترى مدى جدية النبي سليمان عليه السلام، فقالت “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ ..”، من الجواهر والتحف، لتختبر ما إذا كان هؤلاء أهل دنيا أم هم أهل دين حقاً، فرفض سليمان عرضها “قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا”.
فرأت المرأة أن من الحكمة أن تُسلِم مع سليمان لله رب العالمين، فأسلمت واستفادت واستفاد قومها في الدنيا والآخرة، وأنجت قومها بحكمتها.
فالقرآن حينما يذكر لنا هذه القصة ليخبرنا أن من النساء من أفلح قومهن بملكهن، لذلك لا يجب أن يؤخذ نص الحديث ” لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة”على إطلاقه، كما قال الإمام الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق عن علم الأصول.
وفي مقابلة مع الدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة، ذكر رأياً لدى العديد من الفقهاء الذين وضعوا شروطاً لمن يتولى القضاء؛ منها الإسلام والبلوغ والعقل والعدل وسلامة الحواس، ومن ضمن هذه الشروط الذكورة، على اعتبار أن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي، والمرأة ناقصة الرأي، ويحتاج القضاء إلى عدم التأثر بالعواطف، والمرأة عاطفية.
لكن القرضاوي قال أيضاً أنه لا يوجد نص واضح جلي المعنى قاطع الدلالة لا يجوز الخروج عليه أو تأويله، بدليل أن الظاهرية يرون أنه من حق المرأة أن تتولى القضاء، والظاهرية هم أناس حرفيون يتمسكون بظواهر النصوص، ويستميتون دونها، فلو كان عند الظاهرية أو عند ابن حزم نصٌ ظاهر قطعي يمنع المرأة من تولي القضاء، لتمسك به وحارب من أجله، ولذلك هناك من أجاز للمرأة أن تتولى القضاء.
وفي مداخلة للدكتور علي محيي الدين القره داغي في الحلقة نفسها وضح أن أبا حنيفة أجاز لها أن تتولى القضاء فيما تشهد فيه، أي في غير النواحي الجنائية، وإنما في النواحي المدنية والمالية والأحوال الشخصية، بينما الإمام أبو جعفر الطبري رأى أن من حق المرأة أن تتولى القضاء في كل شيء.

استمر الجدل على مدار القرون الماضية حول تولي المرأة للقضاء، ولكنها تمكنت أخيراً أن تفرض نفسها في القرن العشرين.
يقول الدكتور أنس سعدون في موقع المفكرة القانونية إن المرأة المغربية كانت “سباقة لاعتلاء كرسي القضاء في العالم العربي، إذ عُينت أول امرأة قاضية بالمغرب سنة 1961، واستطاعت منذ ذلك التاريخ أن تثبت كفاءتها وجدارتها في القيام بهذه المهمة الصعبة، وهو ما أهلها للتدرج في مراتب المسؤولية بالسلك القضائي.”
ويضيف سعدون أنه “يبلغ عدد النساء حالياً في سلك القضاء 896 قاضية في مقابل 3154 قاضياً، أي بنسبة 22.12%، وهي نسبة آخذة في الارتفاع”.
ولكن نوه أن “تكليف النساء القاضيات سواء بالنيابة العامة أو القضاء الجالس بأنواع معينة من القضايا، خاصة قضايا الأسرة، والأحداث، والعنف ضد النساء، والقضايا المدنية والاجتماعية والتجارية، بينما يندر تكليفهن بالقضايا الجنائية أو الجنحية”.
فرغم أن الدول العربية استطاعت التغلب على عقدة الذكورة في تولي منصب القضاء، إلا أنهن ما زلن يتولين القضاء بشكل محدود.
ففي تقرير نشرته مجلة المرسال حول وضع النساء في السلك القضائي وعددهن في عدد من الدول العربية، ينوه أن على الرغم من أن الفلسطينيين بدأوا في تولية المرأة للقضاء منذ2009 ، “إلا أن عدد النساء القضاة منذ ذلك التاريخ وحتى 2023 لم يتجاوز خمس نساء ممن تقلدن هذا المنصب” لاعتبارات اجتماعية ذكورية.
أما نسبة القاضيات في العراق فهو أقل من 10% مقارنة بعدد القضاة من الرجال، رغم أن العراق يعتبر من الدول العربية الأولى التي سمحت للنساء بتولي منصب القضاء في عام 1959، وكانت زكية إسماعيل حقي أول من عينن من النساء خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم.
وأشاد التقرير بلبنان الذي “منذ بداية التسعينيات يشهد القضاء اللبناني تزايداً ملحوظاً في نسبة القاضيات النساء حتى بلغن اليوم المناصفة من مجموع القضاة العام وبحسب الجهات الدولية، فإن نسبة القاضيات النساء في لبنان هي الأعلى في المنطقة.”
تمكنت النساء في الخليج كذلك من تولي منصب القضاء بالرغم من كل التحديات السياسية والاجتماعية والدينية التي تواجههن.
وفي مقال على منصة ثمانية لمحمد جمال اليوسف برز تطور تعيين النساء في ىسلك القضاء، إذ يقول إن البحرين تعتبر أول دولة خليجية “فتحت أبواب القضاء أمام نساء الخليج العربي”، ففي عام 2006 تم تعيين منى الكواري كأول قاضية بأمر ملكي.
وفي الإمارات عُينت القاضية الماليزية تان داتو يعقوب في عام 2008، لعدم وجود امرأة مؤهلة للمنصب، إلا أنه في العام نفسه عُينت خلود الظاهري، لتصبح ثاني قاضية خليجية، “وتترافع حالياً أمام كافة المحاكم بدرجاتها المختلفة المدينة والتجارية والشرعية والجنائية والعليا” كما ذكر ذلك في مقال على موقع أريبيان بزنس.
أما في قطر فقد بدأ تعيين النساء في القضاء في عام 2010، وكانت حصة السليطي أول قاضية قطرية.
وفي كلمة للسليطي لخريجي جامعة قطر عام 2015 بينت فيها أن “النظرة العامة للمجتمع تجاه المرأة القاضية قد تغيرت بشكل كبير مما كان عليه في السابق، فقد أصبح الباب مفتوحاً للجميع للالتحاق بالسلك القضائي”.
لم تتمكن المرأة بعد من اعتلاء القضاء في عُمان والسعودية، ولكنها استطاعت أن تتولى مناصب قانونية عديدة فيهما كمحامية وفي الإدعاء العام والنيابة العامة وغيرها.

هناك توجه في الأمم المتحدة لدفع دول العالم نحو تعيين قاضيات، حتى أن المنظمة حددت يوماً دولياً للقاضيات في 10 مارس لتعزيز دور المرأة في هذا الحقل، ولكن مازالت الدول العربية تخضع لضغوطات اجتماعية وشرعية تحد من هذا التوجه.
استطاعت المرأة اليوم مشاركة الرجل على جميع الأصعدة، وأن تُدرِّس في الكليات والجامعات وأن تُخرِّج أجيالاً، وأن تنال أعلى الشهادات، ونُصبت كسفيرة وكوزيرة وكرئيسة وزراء في بعض الدول، وتولت مناصب عليا تتطلب القدرة على اتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات، فلا يمنعها أن تتولى القضاء وأن تحكم وتفصل في حقوق الناس.
فالإمكانيات تتوفر في كلا الجنسين من الرجال والنساء، وكلاهما يتلقان مستوى التعليم والتأهيل نفسه، بل هناك قضايا عديدة متعلقة بالنساء لن يستطيع الرجال استيعابها، وستبقى معلّقةً ما لم تبت فيها آراء نسائية.
يقول اليوسف إن “المرأة القاضية أكثر أهلية لمعرفة الضرر الواقع على النساء أكثر من الرجال، والذي يضفي صبغة إنسانية على بعض الأحكام التي قد يقصر عن تفهمها وإدراكها بعض القضاة الرجال.”
ويضيف أنه “أمر مطلوب لأنه يعطي المرأة المجني عليها الثقة بأن هناك نساء قد وُضعن لإيصالها إلى العدالة، ويعزز الوعي لدى النساء بحقوقهن لأنهن محميات بوجود نساء متخصصات لإدارة قضاياهن.”
فرغم أن نسبة القاضيات في الدول العربية متدنية باستثناء لبنان، إلا أنها تشهد في الأعوام الأخيرة تغيراً ملحوظاً في مشاركة المرأة في شتى المجالات وفي المجالات القانونية المتمثلة في السلطة القضائية كذلك، وهذا دليل على أن مجتمعاتنا بدأت في استيعاب هذه الثقافة المجتمعية واحتواءها بكل أشكالها.
[…] […]