قدم معهد الدوحة الدولي للأسرة دراسة بعنوان حالة الزواج في العالم العربي في عام 2019 حول مسألة سن الزواج وتأثيرها من النواحي القانونية والاجتماعية في دول الخليج، حيث كان هناك تفضيل واضح للزواج المبكر، خاصة للفتيات، إذ كان سن الزواج يتراوح بين 14 و16 سنة.
ولكن مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، شهد المجتمع الخليجي تغيراً في اتجاهات الزواج، حيث أصبح الشباب يؤيدون الزواج في سن متأخرة.
فقد أظهرت دراسة عام 2007 على عينة من الشباب الكويتي والعماني أن السن المناسب للزواج المفضل لديهم يتراوح بين 26 و30 سنة للذكور، و20-25 سنة للإناث، مما يعكس تحولًا نحو الزواج المتأخر.
وفي قطر، أظهر المسح السنوي الشامل لمعهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية عام 2012 أن السن المفضل للزواج هو 21 سنة للإناث و25 سنة للذكور، بينما أشار تقرير وزارة التخطيط التنموي والإحصاء لعام 2017 إلى أن متوسط سن الزواج للقطريين بلغ 26 سنة للذكور و24 سنة للإناث.
وتقول الدراسة إن ارتفاع سن الزواج للإناث يعود إلى إقبالهن على الدراسة الجامعية، بينما يؤجل الذكور الزواج لحين الحصول على وظيفة وتأمين متطلبات الزواج المالية.
وهذي المشكلة ليست حديثة العهد، حيث أشار إليها غيثان بن جريس قبل أربعة عقود في دراسة بعنوان الحياة الاجتماعية في عسير في العصر الحديث، وعرض المشكلات نفسها التي لا تزال المجتمعات الخليجة تعاني منها حتى اليوم.
يقول جريس “صار بعض الناس يبالغون في مهور بناتهم وأخواتهم ، وكذلك في الكسوة التي تقدم للزوجة، والأثاث الذي يجب أن يؤثث به بيتها، والولائم التي تقدم أثناء زواجها، ونوعية الحفلات والهدايا التي تقدم يوم الزواج، وجميعها باهظة، فتثقل كاهل الزوج وأسرته، وبالتالي تؤدي إلى عزوف الكثير من الشباب عن الزواج، الأمر الذي يترتب عليه انتشار الرذيلة في المجتمع، وارتفاع نسبة العنوسة بين الفتيات”.
فجلست أفكر في حلول لهذه المشاكل التي يعاني منها المجتمع، حتى استمعت إلى مقابلة مع المتخصص التربوي والاجتماعي هاني العبد القادر في برنامج بودكاست أصدقاء بترولي بعنوان الزواج عند البلوغ في ظل التحديات المهنية والمالية.
سخر العبدالقادر حياته منذ قرابة ثلاثة عقود إلى دعوة غريبة، بل صادمة للكثيرين في هذا الزمان، يدعو فيها إلى تزويج المراهقين والمراهقات، فور بلوغهم، الذي كان يتساءل في بداية كلامه قائلاً “هل يريد الله سبحانه وتعالى أن يَبقى الإنسان غير مكتمل الشخصية وغير مكتمل العقل ويريده أن يبقى أعزباً لعشرة أو خمسة عشر عاماً، تحت ظل شهوة هائلة متدفقة؟”
ورغم أن حديث رسول الله ﷺ الذي رواه عنه أبو سعيد الخدري “من وُلِدَ له مولودٌ فَلْيُحْسِنْ أدبَه واسمَه، فإذا بلغ فَلْيُزَوِّجْهُ، فإن بلغ ولم يُزَوِّجْهُ فأصاب إثماً باء بإثمِه” يُصَدِّق ما ذهب إليه العبد القادر ، إلا أن مجتمعاتنا اليوم لا تؤمن بهذا القول نهائياً، مدعية أضرار نفسية واجتماعية وصحية على الفتاة، مواكبة الحركات العالمية العلمانية التي تدعو إلى مخالفة هذا القول.
على سبيل المثال، يشير د.غسان عبد الخالق في كتابه المرأة التجليات وآفاق المستقبل (2015) إلى أن الزواج المبكر يسبب العديد من المشكلات الصحية، بحجة أن الفتاة الصغيرة لا تستطيع تحمل أعباء الحمل والولادة، اللذان قد يسببان وفيات الأمهات والأطفال.
ومن الناحية النفسية، يرى أن الفتاة لا تستطيع تحمل مسؤوليات تفوق سنها، خاصة مع تسلط الزوج أو أسرته، وقد تواجه صدمة نفسية عند فض غشاء البكارة، أما من الناحية الاجتماعية، فالزواج المبكر يجبر الفتاة على تحمل مسؤوليات زوج وأبناء قبل نضجها الكافي، مما يؤدي إلى مشكلات زوجية قد تنتهي بالطلاق في سن صغيرة، ومن ثم لا مفر أمامها من مسؤولية تربية أطفال لا تستطيع تحملها.
ونرى كذلك ضغوطاً اجتماعية ونفسية على الزوج تذكرها نهال لعميمش على مدونات الجزيرة نت فتقول أسباب تخوف الرجال من خطوة الزواج تعود إلى أن الرجل بطبيعته يسعى للظهور بمظهر المسيطر والقادر على تحمل المسؤوليات، مما يجعله يخشى الفشل في إدارة الحياة الزوجية، وإذا خاض التجربة وفشل بها، فقد يؤثر ذلك سلباً على مستقبله، وسيبقى يعاني من عقدة لن يستطيع أن يتخلص منها، وترجع ذلك إلى التوقعات العالية من الشريك والمجتمع التي تزيد منها، فيبقى الرجل تحت هذه الضغوط متجنباً إظهار عجزه وظهوره بصورة الغير كفء.
لم ينكر هاني العبد القادر هذه التخوفات المثارة من قبل الناس، فهو يرى أن الخشية من الفقر المستقبلي هو مؤامرة شيطانية هدفها منع الزواج أو على الأقل تأخيره، مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة والعلاقات الجنسية المحرمة خارج الزواج، فتنهار مؤسسة الأسرة، وينهار معها المجتمع.
وهو ما فهمه من قوله تعالى في سورة البقرة “الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.
وحتى من يخشى من الفقر الآني ويعتبره مبرراً لعدم الزواج – يرى العبد القادر – أن أولياء الأمور مأمورون من الله بأن يزوجوه، مع وعد رباني بأن يغنيه، استناداً إلى قوله تعالى في سورة النور “وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”

الحاصل اليوم أن العالم أصبح مادياً بشكل فظيع، وغير مؤمن البتة بوعود الله تعالى في كتابه، وتعاليم ونصائح رسوله ﷺ، فجميعها لم تعد لها مصداقية عند الكثيرين.
فبحسب مقال الإمام الشيرازي على موقع شبكة النبأ المعلوماتية، هناك عدة عوامل أدت إلى تحول الناس نحو المادية، أولها السعي المحموم وراء المال والجمال ومباهج الحياة، حتى بطرق غير شرعية، وهنا يبرز ضعف القيم الأخلاقية المؤدي إلى تراجع الأخلاق وزيادة النزاعات والصراعات بين الأفراد، وحينها يسعى كل شخص لتحقيق مصالحه المادية دون مراعاة لحقوق الآخرين.
كذلك أثار الإمام النزعة الاستهلاكية المفرطة بفعل الإعلانات والإعلام، مما يؤدي إلى الابتعاد عن القيم المعنوية، والانغماس في الماديات المؤدية إلى تراجع الاهتمام بالقيم الروحية والمعنوية، وبذلك يتأثر توازن المجتمع والأفراد سلباً.
يضيف العبد القادر أن الزواج في بلاد المسلمين كان إلى وقت غير بعيد يتم في سن البلوغ أو قريباً منه، لكن مع دخول الاستعمار البريطاني إلى مصر في عام 1882، بدأ يسعى لإضعاف مؤسسة الأسرة، من خلال التلاعب بالنطاق الزمني للتعليم، فأعاد ترتيب أولويات المجتمع وتوقيت الزواج، وهو ما انتقل تدريجياً إلى بقية العالم الإسلامي بدرجات متفاوتة.
فأصبح التعليم الديني الذي كان يحظى باحترام كبير لدى معظم الناس بلا قيمة، بل بتنا نرى في الأفلام القديمة بداية من أربعينيات القرن العشرين مشاهد الاستهزاء الكوميدية بمدرس اللغة العربية والشيخ والمأذون مع تشدق وتقعر في كلامهم لإضحاك الجمهور عليهم وعلى مظهرهم.
وأصبح التركيز في هذا النوع المستورد من التعليم على المواد العلمية وتهميش مواد القرآن ومواد الدين، وعدم إعطائها القيمة التي تستحقها، فمثلاً في مصر، لا تدخل نتيجة امتحان مادة التربية الدينية في المجموع الكلي للطالب.
وباتت الوظائف الجيدة صعبة المنال أمام خريجي معاهد اللغة العربية أو التعليم الديني، وإن وجدوا وظيفة ما، فبرواتب ضعيفة لا تسد الرمق.
وما يجري في الخليج ليس ببعيد، فمع تبني الحداثة، بدأت الحياة الأسرية تتعقد، حيث ارتفعت تكاليف الزواج وزادت متطلبات الحياة، مما أدى إلى تأخر سن الزواج وتغيرت الأدوار التقليدية داخل الأسرة، وتأثرت العلاقات الاجتماعية بقيم أكثر فردية ومادية.
في عام 2006، أقرّت قطر قانون الأسرة الذي يحدد سن الزواج بـ18 عامًا للذكور و16 عامًا للإناث، وذلك بعد نقاشات بدأت منذ عام 2000، وهذا التحديد جاء كحل توافقي بين رجال الدين الذين رأوا إمكانية زواج الفتاة عند بلوغها، والمجتمع الذي يعارض زواج القاصرات.
وفي مقابلة مع د. عبد الحميد الأنصاري، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون بجامعة قطر، في جريدة البيان أشار إلى أن هذا القانون يوازن بين هذه الآراء، ورغم ذلك، لا تزال هناك مفارقة في القوانين القطرية، حيث تُعتبر الفتاة في سن 16 عامًا قاصرًا قانونيًا، غير قادرة على الحصول على بطاقة هوية أو رخصة قيادة، بينما يُسمح لها بالزواج في هذا العمر.
الأنصاري يرى أن زواج القاصرات يُعتبر انتهاكاً لبراءة الطفولة، ويُمارس بتواطؤ مجتمعي وتشجيع من بعض رجال الدين بناءً على موروث ثقافي يربط الزواج المبكر بالحماية الأخلاقية.
من جانبه يدعو فهد بن محمد الغفيلي للزواج المبكر، ومن ذلك ما ورد في كتابه الزواج المبكر وتحديد سن الزواج (2014) أن الشريعة الإسلامية لم تحدد “لا من بعيد ولا من قريب سناً محدداً للزواج، ولم يُشرع الخالق الحكيم، والخبير العليم، تشريعاً على عباده في هذا الخصوص بالنصوص”.
ولا يمكن التغاضي عما يجري لجسم الإنسان عند البلوغ من رغبة جنسية متأججة، بحاجة ماسة إلى ترويض، إذ يقول د. طه حسن في كتابه أسرار الرغبة والسلوك الجنسي (2010) إنه مع بداية مرحلة البلوغ، يبدأ المراهقون في مناقشة الموضوعات ذات الطابع الجنسي، مما قد يوقظ لديهم الغريزة الجنسية ويعزز الخيال والميول في هذا الجانب.
هذه المرحلة تتسم بفضول متزايد، يسعى خلالها المراهقون إلى فهم التغيرات الجسدية والنفسية التي يمرون بها. ومع ذلك، قد يواجهون صعوبة في طرح الأسئلة حول هذه التغيرات أو التحدث عنها بشكل مباشر، مما يجعل من الضروري توفير التوعية المناسبة لهم من خلال الوالدين والمدرسة.
ويضيف د. طه حسن إلى أنه يجب أن تتضمن هذه التوعية معلومات دقيقة حول التغيرات الفسيولوجية التي تحدث في هذه المرحلة، مثل تضخم الثدي والدورة الشهرية عند الفتيات، والانتصاب والاحتلام عند الفتيان.
يدفع غياب التوجيه الصحيح لبعض المراهقين إلى استقاء المعلومات من الأقران أو من مصادر غير موثوقة، مما قد يؤدي إلى سوء فهم هذه التغيرات الطبيعية، بل في بعض الحالات، يمكن أن تؤدي هذه المعلومات الخاطئة إلى انحرافات سلوكية أو معتقدات غير صحيحة عن الجنس والصحة الإنجابية.
لذا، من الضروري أن يتبنى الأهل والمؤسسات التعليمية دوراً فاعلاً في تقديم الإرشاد المناسب، لضمان تربية متوازنة قائمة على المعرفة السليمة.

وهنا ينبه العبد القادر إلى إن تأخير الزواج لِما بعد البلوغ بما لا يقل عن عشرة أو خمس عشرة سنة يُفْرِغ الزواج من معناه كوسيلة للإعفاف والإحصان، بل يفرغ مرحلة المراهقة من معناها وقيمتها التي خلقت خصيصاً من أجلها، وبما توفره من مناخ ذهبي للزواج.
ثم يتساءل العبد القادر، لماذا خلق الله هذه الطاقة الجنسية الهائلة التي تجذب المرء إلى الجنس الآخر مع سن البلوغ، وذلك قبل اكتمال الشخصية ونضوجها بسنوات طويلة؟
ثم يجيب على تساؤلاته بأن سن البلوغ محطة بين الطفولة والنضج، ولذلك هو أنسب سن للزواج، لأن كلا الطرفين ما زالا شبه أطفال، يلعبان معاً في أجواء من البراءة والمرح، وحتى لو وقع بينهما خلاف أو خصام، فسرعان ما يصطلحان بتركيبتهما الطفولية تلك، مما يجعلهما يبنيان معاً في هذه السن المبكرة صداقة عميقة كفيلة برسوخها ومتانتها أن تصنع بينهما ثقة قوية وذكريات من الحنين المتبادل.
يرى العبد القادر أن هذه التغيرات الفسيولوجية المبكرة التي وضعها الله أمام الأهل بشكل ملفت وواضح هدفها أن تكون بمثابة جرس إنذار ينبههم إلى أن ابنهم أو ابنتهم باتت لديهما احتياجات جنسية وعاطفية ملحة، وأن عليهم الإسراع في إشباع هذه الاحتياجات بتزويج كل منهما فور البلوغ، مع ضرورة تحمل الأهل لمسؤولية احتضان هذا الزواج المبكر ورعايته نفسياً ومادياً، في إطار ما أطلق عليه مفهوم الأسرة الممتدة، لحين وصول الزوجين الصغيرين لمرحلة النضج والاعتماد على النفس.
ويحذر العبد القادر من فترات التعارف الطويلة بين الجنسين قبل الزواج، لأنه يرى أن الجماع بعد الزواج دون تعارف عميق سابق، كفيل في حد ذاته بالتمهيد لعلاقة ودودة بينهما، وذلك خلافاً للتعارف لفترة طويلة قبل الزواج الذي يفتح الباب أمام الخلافات في غياب علاقة جنسية تربط بينهما.
ولذلك يرى أن مفهوم “السكن” سبق “المودة والرحمة” في قوله تعالى في سورة الروم “وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ”.
حيث يرى أن السكن في الآية الكريمة إشارة إلى تفريغ الشهوة الجنسية بين الزوجين، وهو ما يؤدي تباعاً إلى المودة والرحمة بينهما.
يكمن الحل في تجنب تكوين أسر نووية، كونها كما قال د. عبدالوهاب المسيري في كتابه الفردوس الأرضي (1979) “في اطار الأسرة النووية يحدث مصادرة جزئية لحرية الرجل ومصادرة كاملة لحرية المرأة ، هذا على عكس الاسرة الممتدة حيث يمكن للزوجة أن تنشىء علاقات مع اختها أو أمها وحتى حماتها ويمكن للرجل ان ينشىء علاقات مع معارفه من الرجال، وكما ان مجتمع الاطفال يفيد في تبادل الخبرات وفي الانضاج الانساني. “
والأمر الجلل في وصف العبد القادر للأسرة النووية الشائعة في هذا العصر، انها أسرة لا تنساب فطرة البشر، وأشبه ما تكون بالأسرة الحيوانية على حد قوله، التي لا يَرعى فيها الصغار سوى الوالدين أو ربما أحديهما، بعيداً عن الأجداد والأقارب.
بينما يرى أن الأسرة الممتدة التي تشمل الزوجين الصغيرين وأطفالهما وجديهم، أسرة مثالية، يقدم فيها الجدان الأمان المادي والنصح بإخلاص نتيجة تجربة حياتية طويلة، وتقديم الرعاية المتكاملة للصغار، مؤكداً على ما قاله المسيري.
كما أن هذه الأسرة الممتدة في بيت العائلة الكبيرة تساهم مادياً في دفع المجتمع اقتصادياً للأمام، فبدلاً من أن يتورط الزوجان الصغيران في القروض لبناء بيت الزوجية، أو بدلاً من أن يُنفق جزء كبير من دخل هذه الأسرة الصغيرة على إيجار مسكن الزوجية، تتجه الميزانية نحو الادخار الاستثماري في مشروع يفيد هذه الأسرة ويفيد المجتمع.
ثم إنه مع مرور العمر سيجد الأجداد من يرعاهم من أبنائهم وأحفادهم، وهنا يلفت العبد القادر النظر لتأمل العندية في كلمة “عندك” في قوله تعالى في سورة الإسراء “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”، حيث يعتبر العبد القادر أن الفطرة السليمة تقتضي أن يكون الوالدان الكبيران أو من مازال منهما على قيد الحياة في رعاية أبنائهما عندهم، وليس عن بعد.
ويضرب العبد القادر مثلاً بأسرة ممتدة تزوج فيها مراهقان عند سن بلوغهما، أو بعده بقيل، وليكن في سن الخامسة عشر، ورزقا بإبن تزوج هو بدوره عندهما في بيتهما عندما بلغ الخامسة عشر، وبالتالي سيرزقان بحفيد في سن الثلاثين تقريباً، فإذا تزوج حفيدهما في سن الخامسة عشر، سيرعيان ابن حفيدهما وهما في سن الخامسة والأربعين تقريباً، فإذا تزوج ابن حفيدهما في سن الخامسة عشر، سيريان حفيد حفيدهما في سن الخامسة والستين تقريباً.
عندها سيتحول البيت إلى بناية من عدة طوابق تعيش فيها خمسة أجيال متعاقبة ومتجاورة.
هذا النموذج من العائلة الممتدة الذي يدعو إليه العبد القادر يحظى من وجهة نظره بدفء رابطة الدم والرعاية الممتدة عبر الأجداد والأباء والأعمام.
في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم الإسلامي، تبدو قضية الزواج المبكر والتحديات التي تواجهها الأسرة الحديثة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فقد أضحى الإنسان رهينة لمنظومة مادية لا ترى في الزواج سوى التزامات مالية مرهقة، متناسية أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تقتضي تيسير الزواج بدلاً من تعقيده.
وبينما تتعالى الأصوات المحذرة من مخاطر الزواج المبكر، يغفل الكثيرون عن المخاطر الأكبر الناجمة عن تأخيره، من انتشار العلاقات غير الشرعية، وتفكك الأسرة، وغياب السكينة والاستقرار النفسي لدى الشباب.
لقد أثبتت الدراسات والأبحاث أن الأسرة الممتدة قادرة على احتضان الزيجات المبكرة، ودعمها حتى تنضج وتصبح أكثر استقراراً، بخلاف النموذج الفردي للأسرة النووية الذي جعل كل فرد مسؤولاً عن نفسه فقط، تاركاً الأجيال الجديدة تتخبط بين متطلبات الحياة وتحدياتها دون دعم كافٍ.
وإذا كان الماضي قد شهد أجيالاً تزوجت في سن البلوغ ونشأت في بيئات أكثر استقراراً، فلماذا يُنظر اليوم إلى الزواج المبكر وكأنه كارثة اجتماعية، بينما يُترك المراهقون والشباب نهباً للرغبات المكبوتة والإغراءات المحيطة؟
إن العودة إلى الفطرة السليمة التي تنظمها تعاليم الدين ليست رجعية، بل هي ضرورة مجتمعية تحمي الأسرة من الانهيار، وتحفظ كرامة الإنسان، وتعيد التوازن المفقود في العلاقات بين الجنسين.
فحين يتحرر الإنسان من هيمنة المادية، ويؤمن بوعود الله في تيسير الزواج والرزق، سيكتشف أن الحلول لطالما كانت بين يديه، لكنها غُيبت تحت وطأة أفكار دخيلة فرضها الاستعمار وقوى العولمة.
اليوم، نحن أمام خيارين: إما أن نعيد الاعتبار لمؤسسة الزواج وفق منظورها الفطري والديني، أو نستمر في دوامة التعقيد والتأخير، حتى نفقد آخر ما تبقى من قيمنا وأخلاقنا.