في عام 1972، ولدت كلمة “غيت” في السياسة العالمية مع فضيحة “ووترغيت” في الولايات المتحدة، عندما تورط كبار مسؤولي إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في فضيحة تجسس سياسي أدت إلى سقوطه، وقد أصبح المصطلح فيما بعد مرادفاً لكل أزمة سياسية تهدد نظاماً أو تفضح فساداً، ومنذ ذلك الحين، باتت الصحافة تنتهز كل فرصة لإضافة “غيت” إلى أي قضية مثيرة لللغط، وهو ما حدث مع الفضيحة المعروفة اليوم باسم “قطر غيت”.
تفجرت القضية عندما اتُّهم مستشاران مقربان من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتلقي أموال من قطر، لتحسين صورتها في الداخل الإسرائيلي، حيث تزعم الرواية تلقي يوناتان أوريخ وإيلي فيلدشتاين أموال عبر شركة أمريكية تُدعى “Third Circle Inc”، بهدف التأثير في الرأي العام الإسرائيلي لصالح الدوحة، بل والمشاركة في تهميش دور مصر كوسيط رئيسي في قضية غزة، وقد أسفرت التحقيقات الإسرائيلية عن اتهامات بالرشوة والاحتيال والاتصال بعميل أجنبي.
حيث يجرم قانون العقوبات الإسرائيلي تلقي أو تقديم الرشاوى من قبل مسؤولين حكوميين أو مستشارين، وكذلك قوانين الأمن القومي الإسرائيلية تمنع التعامل مع جهات أجنبية، إذا كان ذلك يعرض مصالح الدولة أو أمنها للخطر.
بالإضافة إلى ذلك، تم طرح مشروع قانون في نوفمبر ٢٠٢٤ يمنع أي “طرف ثالث” من الوساطة بين إسرائيل وحماس، وهو مشروع كان يستهدف قطر صراحة، مما يجعل أي تعاون مع الدوحة في غاية الحساسية السياسية.
بالتالي، فإن تلقي أموال أجنبية، خصوصاً في ظل هذه التشريعات، قد يؤدي إلى توجيه تهم خطيرة تصل إلى المساس بالأمن القومي.
وبعيداً عن تفاصيل التهم، تطرح القضية أسئلة أعمق: ما هو معنى التطبيع اليوم؟ هل مجرد التواصل مع “العدو” يعني بالضرورة الوقوع في الخيانة؟ أم أن هناك درجات وتفاصيل أخطر من ذلك بكثير؟
في هذا السياق بدأ وائل قنديل منشوراً له في فيسبوك بعبارة “يا عزيزي كلنا مطبعون”، تحدث فيه عن تطبيع بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، وأشار إلى تطبيع آخر أكثر خطورة، وهو التطبيع الشعبي مع العجز، مع الصمت، مع القبول الضمني بالمجازر والانتهاكات اليومية بحق الفلسطينيين.
وهنا يصبح من الضروري التوقف قليلاً للتأمل في مفهوم التطبيع، والذي يعني في جوهره نقل العلاقة مع كيان محتل مغتصب للأراضي إلى حالة طبيعية من التعاون والشراكة وكأن شيئاً لم يكن، فيُعتبر التطبيع سياسياً حين تعترف الدول بإسرائيل وتقيم لها سفارات، ويُعتبر اقتصادياً حين يتم تبادل السلع والاستثمارات معها، ويُعتبر ثقافياً حين يتم تبادل الزيارات والأفكار والأعمال الفنية، والأخطر هو التطبيع الشعبي الذي يقبل الجمهور فيه وجود إسرائيل ككيان طبيعي في المنطقة، دون مقاومة أو احتجاج.
وعند الرجوع للقوانين العربية، نرى أن بعضها، مثل الجزائر والعراق وسوريا تجرّم قانونياً أي علاقة بإسرائيل، وتعتبر التعامل معها خيانة عظمى، بينما ألغت دول أخرى، مثل مصر والأردن أي نصوص تجرم التطبيع معها، بسبب توقيع معاهدات سلام مع إسرائيل.
وعندما نرى المشهد في دول الخليج، نجد أن بعضها وقع بالفعل اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل، كالبحرين والإمارات، وأصبح التطبيع فيهما سياسة رسمية، وأما البقية، فتثار حولها شائعات وأخبار لا يدري أحد حقيقتها على محمل اليقين، مثل قصة قطر غيت الأخيرة.
وبالتالي، لا يوجد موقف قانوني عربي موحد من التطبيع، بل هناك انقسام حاد بين دول تجرّمه، وأخرى تعتبره جزءاً من استراتيجيتها السياسية الجديدة.
هكذا تتضح خطورة المسألة، بين نصوص القوانين المتفاوتة والمواقف الرسمية المتناقضة، تاهت الحقيقة، وتاه معها الموقف العربي العام من التعامل مع الاحتلال.
فتحت غطاء المصالح الوطنية أو تحت ضغط التحالفات الدولية، تحولت العلاقة مع إسرائيل إلى واقع شبه معلن، منذ ضمّ الولايات المتحدة إسرائيل إلى نطاق عمليات القيادة المركزية الأميركية في عام 2021، وبالتالي، باتت المناورات العسكرية التدريبية التي تصطف فيها جيوش عربية مع الجيش الإسرائيلي تمرّ دون صدمة حقيقية.
وكما أشار قنديل، فإن القرار وضع الجندي العربي في مواجهة واقع جديد، يقاتل فيه بجانب جندي الاحتلال، يداً بيد، في أي حرب تختارها واشنطن.
هنا يصبح السؤال الأخلاقي أكثر إلحاحاً، هل التطبيع هو مجرد اتفاقيات رسمية؟ أم هو – كما يحذر قنديل – تطبيع مع الكذب ومع الخوف ومع القتل الممنهج لشعب بأكمله؟
التعامل مع إسرائيل – إن كان لا بد منه – وفق الضرورات الدولية، يجب ألا يكون مجانياً أو فاقداً للبوصلة الأخلاقية، ولا يكفي أن تبرر الأنظمة مواقفها بالحديث عن “مصلحة الوطن” في حين يواصل المحتل القتل والتهجير والإبادة الممنهجة بحق الفلسطينيين، ولا يكفي أن تذرف الشعوب دموعها في صمت، بينما جيوشها تسير جنباً إلى جنب مع جنود الاحتلال.
التطبيع الحقيقي يبدأ عندما يتحول الكيان الصهيوني إلى جار وشريك عادي في السياسة والاقتصاد والأمن، بينما يواصل اقتلاع الشعب الفلسطيني، وعندها، تصبح كل شعارات النضال مجرد ضوضاء فارغة.
في النهاية، “قطر غيت” ما تزال في طور التحقيق، وأي حكم عليها الآن يظل سابقاً لأوانه، ولكنها مؤشر على مرض أعمق، مرض القبول بالتطبيع، بالشراكة، بالصمت، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الخطر الحقيقي ليس فقط في الصفقات المشبوهة خلف الكواليس، بل في اللحظة التي تقبل فيها الشعوب والأمم بأن ترى الإبادة الجماعية، وتتعايش معها كأنها قدر لا مفر منه.