المال في حد ذاته لا يعتبر نظيفاً ولا وسخاً ولا غاية ولا هدفاً، بل هو عصب الحياة وقيامها، لتسيير شؤون البشر وتطلعاتهم، فلا حاجة له إلا في ظل تجمع بشري يتبادل فيه أفراده ما يقدمونه من سلع وخدمات، مما جعل الاقتصاد رغم قوانينه الحسابية الصارمة، يحمل بين طياته هامشاً نفسياً لا يستهان به، وآخر أخلاقي لا يمكن تجاهله.
فكما أنه عنصر بناء للحضارات، يمكن أن يكون معول هدم، يعمل في الخفاء من خلال استخدامه في أعمال مشبوهة يجرمها القانون.
وقد ينزلق الفرد إلى المشاركة في جريمة مالية دون أن يدرك أبعاد ما أقدم عليه، خاصة إن لم يكن على دراية كافية بالقوانين المالية أو لم يتحقق من مصدر المال أو طبيعة المعاملة التي يشارك فيها.
كشفت صحيفة صنداي تايمز في مقال بعنوان عصابة كينهان وظّفتني لغسل 200 مليون جنيه إسترليني، أن الأدوار تتوزع بين خبراء وأشخاص عاديين لا يدركون حقيقة ما ينخرطون فيه إلا بعد فوات الأوان، وأن الجريمة المنظمة أصبحت أكثر قدرة على التخفّي خلف واجهات مشروعة في بيئات متداخلة ومعقدة.
يقول المقال إن خبيراً مالياً مقيماً في بانكوك، يُعرف باسم أوبل كشف عن تفاصيل تورّطه في خطة لغسل 200 مليون جنيه إسترليني لصالح عصابة كينهان الإجرامية، إحدى أخطر عصابات الجريمة المنظمة في العالم، بثروة تُقدّر بمليار جنيه إسترليني، مع تاريخ من الجرائم شمل ما لا يقل عن 20 جريمة قتل.
أوبل، الذي لم يكن يعلم في البداية أن عملاءه ينتمون للعصابة، كانت وظيفته إعداد خطط مصرفية تتيح استثمار الأموال في مجالات مثل اللوحات الفنية والنبيذ الفاخر والعملات الرقمية.
توسعت عصابة كينهان، بقيادة كريستي وابنيه دانيال وكريستوفر من دبلن إلى أنشطة تشمل تهريب الكوكايين، والأسلحة، والجرائم الإلكترونية، والابتزاز، وتتعاون مع عصابات مكسيكية، وجهات متطرفة، وأجهزة استخبارات.
وقد باتوا مطاردين من قبل السلطات الأمريكية والأوروبية، بعد أن فرّوا من دبي عقب فرض عقوبات مشددة عليهم.
بدأ أوبل يشك في طبيعة عملائه، بعد أن علم بفرض عقوبات أمريكية عليهم، رغم أن الوسيط الألماني أو النمساوي الذي جنده، ويعرفه منذ عقدين، لم يُخفِ علاقته بـ”أكبر تجار المخدرات في أوروبا”.
كان الوسيط يملك ساعات بملايين اليوروهات ويتنقل بين آسيا وأوروبا، ويعرض استثمارات في أعمال فنية باهظة لفنانين مثل بانكسي الإنجليزي وكوساما اليابانية.
وقد اعتمدت الخطة على إنشاء سلسلة حسابات مصرفية في ملاذات ضريبية آمنة، لنقل الأموال من هونغ كونغ إلى أخرى عابرة للحدود، مع تجنّب لفت أنظار السلطات.
أوبل، الذي يمتلك خبرة في التمويل والطيران الخاص، كان يتواصل مباشرة مع محاسب العصابة في هونغ كونغ، وقد سجّل محادثاته مع الوسيط لحماية نفسه، وأظهرها عندما اكتشف أنه لن يتلقى عمولته التي وعدوه بها، فقام بذلك كرد فعل انتقامي من هذه العصابة.
بينت المحادثات قرب العصابة من شخصيات مشهورة مثل الملاكم تايسون فيوري، واستخدامها لصناديق استثمار ضخمة تدير مليارات الدولارات.
تُعد هذه القضية مثالاً على كيفية استغلال الثغرات في الأنظمة المالية لغسل الأموال، ورغم تعزيز الرقابة، وتحديث القوانين، إلا أن السلطات مازالت تواجه تحديات متزايدة.
غسل الأموال لم يعد مجرد نشاط سري معزول، بل أصبح جزءاً من منظومة مالية عالمية تستغل الثغرات البنكية والقانونية، وتخترق قطاعات متعددة يصعب تتبعها.

التعريف القانوني
يعتبر غسل الأموال عملاً إجرامياً يعاقب عليه القانون في شتى دول العالم، و يقصد به ممارسة أنشطة تجارية مشروعة، سواء وهمية أو حقيقية، من أجل تبرير الحصول على أموال أمام السلطات الرسمية تم جمعها من أنشطة إجرامية، مثل تجارة المخدرات أو الدعارة أو الرشاوى، أو الإرهاب، أو خلافه من أنشطة أخرى يُجرّمها القانون.
وفي موقع وزارة التجارة والصناعة القطرية نجد أن غسل الأموال يُقصد به “العملية التي يتم من خلالها إخفاء مصدر الأموال غير المشروعة أو التي تستخدم لأغراض غير مشروعة وجعلها تبدو أموالاً مشروعة تقبل التّداول بمختلف الأنشطة العامّة وذلك لقطع الصلة بين الأموال ومصدرها غير المشروع”.
كما يبين موقع الوزارة أن “عملية حجب مصدر المتحصلات الإجرامية لتمكين المجرمين وشركائهم من استخدام هذه المتحصلات دون لفت انتباه جهات إنفاذ القانون أو المؤسسات المالية”.
ويضيف موقع الوزارة أن عملية غسل الأموال تمر عادة بثلاث مراحل متتابعة تهدف في مجملها إلى طمس أصل الأموال غير المشروعة وجعلها تبدو كعائدات قانونية.
تبدأ العملية بإدخال الأموال غير المشروعة في النظام المالي، غالباً من خلال إيداعها في مؤسسات مالية أو عبر شراء أصول عالية القيمة مثل العقارات أو السيارات، حيث يتبع الجناة أساليب دقيقة لتفادي إثارة الشبهات، كأن يقوموا بتقسيم المبالغ النقدية الكبيرة إلى دفعات صغيرة تُودَع في أوقات متباينة ومن خلال فروع متعددة.
وتلفت الوزارة إلى أن العائدات الإجرامية لا تكون دائماً نقدية، إذ يمكن أن تشمل أرباحاً أو فوائد أو ممتلكات ناتجة عن تلك الأموال، بل وقد تكون في شكل عملات رقمية مثل البيتكوين.
وعند دخول الأموال إلى القنوات الشرعية، تبدأ مرحلة التمويه، حيث تُنفَّذ مجموعة من العمليات المالية المعقدة بهدف إخفاء العلاقة بين الأموال ومصادرها غير المشروعة، ويشمل ذلك تحويلات مصرفية متكررة، أو استخدام أدوات مالية قابلة للتداول، أو فتح حسابات في ملاذات مصرفية معروفة بسريتها العالية، كما قد تُوظَّف معاملات تجارية وهمية أو فواتير زائفة للتغطية على مصدر تلك الأموال.
في المرحلة النهائية، يتم دمج الأموال المغسولة في الاقتصاد الرسمي، لتبدو وكأنها عائدات طبيعية من أنشطة قانونية.
تشمل هذه العملية أساليب مثل تسديد فواتير غير حقيقية، او شراء شركات صورية أو حقيقة بأسعار تفوق قيمتها الفعلية، أو تنفيذ عمليات بيع متكررة، أو الحصول على قروض وهمية، والهدف من ذلك كله هو منح الأموال مظهراً شرعياً يصعب معه اكتشاف أصولها غير القانونية.
وقد وضعت دولة قطر تعريفاً قانونياً دقيقاً لجريمة غسل الأموال في إطار جهودها لمكافحة الجرائم المالية، وذلك من خلال المادة (2) من القانون رقم (20) لسنة 2019 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سعياً لسد الثغرات التي قد تستغلها الشبكات الإجرامية، وكذلك لتعزيز فعالية الإجراءات القانونية في مواجهة غسل الأموال بجميع أشكاله.
ينص القانون على أن أي شخص يقوم عمداً بتحويل أو نقل أموال وهو يعلم بأنها متحصلة من جريمة، بقصد إخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع، أو بهدف مساعدة الجاني على الإفلات من العقوبة، يعتبر مرتكباً لجريمة غسل الأموال.
كما يشمل التعريف القانوني حالات إخفاء أو تمويه طبيعة الأموال أو مصدرها أو حركتها أو ملكيتها، وكذلك حيازة الأموال أو استخدامها مع العلم بأنها عائدات جريمة، ويُعد الاشتراك بأي صورة كانت، سواء عبر التواطؤ أو التحريض أو تقديم المشورة أو التسهيل أو المساهمة، جزءاً من الأفعال التي تندرج ضمن الجريمة.
المادة تؤكد على أن جريمة غسل الأموال تعتبر جريمة قائمة بذاتها، لا تعتمد على صدور إدانة عن الجريمة الأصلية التي تولدت منها الأموال، كما أن معاقبة مرتكب الجريمة الأصلية لا تحول دون مساءلته عن جريمة غسل الأموال بشكل مستقل.
أصل التسمية
قد يُعد مصطلح “غسل الأموال” اليوم من أكثر المفاهيم تداولاً في عالم الجريمة المالية، لكنه ارتبط تاريخياً بشخصية إجرامية شهيرة كان لها دور في شيوعه.
يقول رنجيث، المحلل المالي المعتمد لمكافحة غسل الأموال والرئيس التنفيذي لشركة ريتاراك العالمية على منصة لينكد إن في مقال له بعنوان آل كابوني وغسل الأموال: أصل التسمية وأسلوب التمويه إن ألفونس غابرييل كابوني يعد أبرز رموز الجريمة المنظمة في أمريكا، ويوضح كيف ساهمت أساليبه في إخفاء المال غير المشروع في ولادة هذا المصطلح في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، رغم أنه لم يخترع الممارسة نفسها.
ازدهرت أعمال كابوني غير المشروعة في تجارة الكحول، والقمار، والدعارة، ومع تضخم أرباحه غير القانونية، واجه تحدياً كبيراً في إخفاء مصدر أمواله عن السلطات، فبدأ باستخدام مغاسل الملابس كواجهة صورية، ومن هنا يُعتقد أن مصطلح “غسل الأموال” قد وُلد.
هذه الأنواع من النشاطات التجارية تعتمد بشكل رئيسي على التعاملات النقدية، وتسهل دمج الأموال غير المشروعة في الإيرادات الظاهرة، ولم يكتفِ كابوني بالمغاسل، فقد استثمر أمواله كذلك في قطاعات أخرى مثل المطاعم والفنادق، لتشتيت الأنظار وتعقيد مساره.
ورغم نجاحه في تمويه أرباحه، لم يُحاسب كابوني على جرائمه الأساسية، بل استطاعت السلطات إدانته في النهاية بتهمة التهرب الضريبي عام 1931، وسُجن لمدة 11 عاماً، بعدما أثبتت الحكومة أنه لم يدفع ضرائب على دخله.
هذا السقوط المدوي كشف أهمية الشفافية المالية والرقابة الضريبية كأدوات قوية لمكافحة الجريمة المنظمة، ورغم مرور عقود على نهاية كابوني، فإن تأثيره ما زال حاضراً في عالم الجريمة المالية.
على أي حال، تطوّر غسل الأموال من مغاسل الملابس إلى أدوات أكثر تعقيداً تشمل الشركات الوهمية، والحسابات الخارجية، والعملات المشفرة، وقد دفعت هذه التحديات الحكومات والمؤسسات المالية حول العالم إلى سن قوانين صارمة، لمكافحة غسل الأموال وتكريس موارد كبيرة، لمتابعة المعاملات المشبوهة والإبلاغ عنها.

أموال الربيع العربي
بدأ ما يُعرف بـ”الربيع العربي” في أواخر عام 2010، كثورات شعبية اجتاحت عدداً من الدول العربية مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية وإنهاء الفساد، إلا أن انهيار الأنظمة لم يكن نهاية للفساد المالي، بل كشف عن حجمه الحقيقي، ففي الفوضى التي رافقت سقوط الأنظمة وتفكك مؤسسات الدولة، استغل مهربو الأموال الفراغ السياسي والمؤسساتي لتمرير ثروات ضخمة إلى الخارج، وتحويلها لاحقاً إلى أموال “نظيفة” عبر آليات غسل أموال معقدة.
وفق تقرير نشرته صحيفة العربي الجديد، فإن ما يقارب 500 مليار دولار تم تهريبها من دول الربيع العربي خلال العقود التي سبقت الثورات، لكن التهريب الفعلي بلغ ذروته بعد سقوط الأنظمة، حين كانت المؤسسات الرقابية غائبة أو عاجزة، والحدود مشرّعة أمام من يملك النفوذ والمال.
في ليبيا، تُقدّر الأموال المهربة بنحو 120 مليار دولار، فيما أشارت لجنة ليبية رسمية إلى أن الرقم قد يصل إلى 220 مليار دولار، أما مصر، فقدّرت تقارير دولية حجم الأموال المنهوبة في عهد حسني مبارك بنحو 134 مليار دولار، وفي تونس، قُدرت الأموال المهربة من قبل نظام بن علي بنحو 32 مليار دولار، بينما أشارت تقديرات في اليمن إلى أن الثروات المنهوبة خلال حكم علي عبد الله صالح تتراوح بين 30 و70 مليار دولار.
رغم المحاولات المتعددة، فإن استرداد هذه الأموال واجه عقبات قانونية وسياسية وإدارية معقدة، فمن أبرز الأسباب ضعف الملفّات القانونية التي تُقدَّم للدول الأجنبية، إما لنقص الأدلة أو لعدم توافق الإجراءات القضائية مع الأنظمة القانونية في الدول المستضيفة للأموال.
كما ترفض بعض الدول التعاون بحجة أن الأموال “سُرقت من أبناء البلد ذاته”، ولأسباب فضفاضة مثل ضعف الإرادة السياسية في الداخل، وتفشي البيروقراطية، إلى عرقلة المتابعة الفعالة.
يضاف إلى ذلك تواطؤ بعض الدول الأجنبية التي تؤوي هذه الأموال، مستفيدة من الاستثمارات والعوائد البنكية، ما يجعل التعاون في بعض الحالات شكلياً أو بطيئاً للغاية، رغم وجود اتفاقيات دولية تدعو إلى استعادة الأموال المنهوبة.
يُجمع الخبراء على أن الأموال المهربة بعد الربيع العربي لم تخرج فقط عن طريق نقلها نقداً أو عبر حسابات مصرفية، بل تم غسلها لاحقاً من خلال شراء أصول عقارية، واستثمارات في شركات وهمية، وتحويلات معقدة عبر مناطق مالية تُعرف بضعف الرقابة، مثل بعض جزر الكاريبي وسويسرا ودبي.
وهكذا، تحوّلت الثورات التي نادت بالكرامة والعدالة إلى ممر آمن مفتوح أمام الفساد المالي ليعيد ترتيب نفسه، ويُهرّب أموال الشعوب نحو الخارج، في مشهد يجسّد العلاقة المتشابكة بين انهيار الدولة، وازدهار الجريمة المالية العابرة للحدود.
والمدهش أنه رغم الجهود والندوات والمنتديات والمؤتمرات التي نظمت وبُذلت على مر السنوات بعد ثورات الربيع العربي، مازال هؤلاء الحكام يملكون القدرة على تهريب ونهب أموال البلاد والعباد، حيث أن بشار الأسد استطاع بعد سقوط نظامه في ديسمبر 2024، أن يهرِّب عند فراره إلى موسكو ثروات سوريا بشكل ممنهج.
كشفت تقرير آخر في موقع صحيفة العربي الجديد مصادر سورية عن تهريب 10 مليارات دولار وأطنان من الذهب، إضافة إلى الأموال التي جُمعت عبر الإتاوات المفروضة على رجال الأعمال السوريين، وعائدات تجارة المخدرات، وعمليات الابتزاز والجباية الأمنية، وقد تم تنفيذ هذه العمليات من خلال شبكات يقودها مقربون من النظام، أبرزهم أسماء الأسد عبر مكتبها السري في القصر الرئاسي.
إنه لمن المستحيل أن ترجع هذه الأموال إلى بلدانها الأصلية، فهل يعقل أن يكسب بنك أو دولة ما مبالغ تقدر بمليارات الدولارات، ثم يسمح لها بالعودة، خاصة وأن معظم الدول الأوروبية بَنَت اقتصاداتها على غصب مقدرات دول وشعوب، فما بالك إن كان دخول الأموال إليها تهريباً دون مجهود منها؟
حاضنات غسل الأمول
رغم الجهود الدولية المكثفة لمكافحة غسل الأموال، لا تزال هناك دول تُتهم بتسهيل هذا النوع من الجرائم، سواء عن قصد، أو نتيجة لثغرات تشريعية ومؤسسية.
يقول أندرياس أورنيلاس في مقال له على موقع سويس إنفو بعنوان ما مدى جدية المصارف السويسرية في التحقق من مصدر أموال عملائها “الحسّاسين”؟ إن المدعي العام في جنيف، إيف بيرتوسا، فتح تحقيقاً جنائياً في 2018 للاشتباه بتورّط ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس الأول، في عملية غسل أموال بقيمة 100 مليون دولار مودعة في مصرف ميرابو السويسري.
هذه الأموال تعود لمؤسسة “لوكوم” المسجلة في بنما، والتي تبرعت في عام 2012 بمبلغ 65 مليون دولار لصالح سيدة الأعمال الدنماركية كورينا لارسن، الصديقة السابقة للملك، مما أثار الشبهات لأن الملك هو المستفيد الوحيد من حساب المؤسسة.
تشير التحقيقات إلى أن الأموال مصدرها تبرع من العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وتُطرح تساؤلات حول ارتباطها بمنح شركات إسبانية عقد تنفيذ مشروع القطار السريع بين مكة والمدينة، بعد وساطة مزعومة من خوان كارلوس.
وقد دعمت هذه الشكوك تسجيلات سرية لكورينا لارسن وتصريحات من محققين إسبان سابقين، تشير إلى تلقي الملك عمولات جرى تحويلها عبر وسطاء إلى الخارج.
من جانبها، نفت كورينا لارسن أي علاقة بين الأموال ومشروع القطار، مؤكدة أنها كانت “هدية” شخصية من الملك بدافع المودة، كما أفاد محاموها أن المصارف السويسرية تحققت من شرعيتها.
تخضع المصارف السويسرية لقوانين صارمة تهدف إلى منع غسل الأموال، خاصة عند التعامل مع الأشخاص المكشوفين سياسياً مثل الرؤساء والوزراء، وتشمل الإجراءات التحقق من الهوية، وتحديد المستفيد الحقيقي، ومراقبة المعاملات المشبوهة، وفي حال عدم استيفاء الشروط، يجب رفض فتح الحساب أو إجراء المعاملة، مع الإبلاغ عن الشبهات.
ورغم التقدّم في مكافحة غسل الأموال منذ تقليص السرية المصرفية، لا تزال المصارف السويسرية تواجه تحديات وصوراً نمطية سلبية بسبب قضايا سابقة أثّرت على سمعتها عالمياً.
أيضاً تواجه إمارة دبي انتقادات متزايدة بوصفها أحد المراكز العالمية لغسل الأموال، نتيجة لبيئتها التنظيمية المرنة ونظامها المالي المفتوح وسوقها العقاري المزدهر.
كشفت تسريبات دبي أنلوكد عن امتلاك شخصيات نافذة من النخبة الروسية، من بينها أفراد خاضعون لعقوبات دولية، لعقارات في دبي، مما يعكس استخدام السوق العقاري كقناة لإخفاء مصادر الأموال غير المشروعة، وقد أشارت التحقيقات إلى أن مجرمين دوليين فارين من العدالة استثمروا في عقارات فاخرة داخل الإمارة، مستفيدين من ضعف الشفافية والرقابة على المعاملات العقارية.
في السياق المصرفي، تبيّن من خلال تقارير صحفية وتحقيقات أن بعض البنوك في دبي استُخدمت كأدوات لغسل الأموال من قبل شبكات إجرامية، تمكنت من تجاوز إجراءات المكافحة الصارمة المطبقة في دول أخرى، مما أضعف قدرة الجهات الرقابية على تتبع حركة الأموال المشبوهة، ورغم إدخال الإمارات تعديلات تشريعية لتعزيز مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فإن فعالية هذه الإجراءات ما زالت موضع تساؤل.
وفي عام 2022، أدرجت مجموعة العمل المالي (فاتف) دولة الإمارات على القائمة الرمادية، مشيرة إلى وجود قصور في أنظمة الرقابة ومتابعة مصادر الأموال، وهو ما دفع السلطات الإماراتية إلى تبنّي خطوات تصحيحية لتعزيز الامتثال، إلا أن هذه الخطوات لم تُبدد بعد المخاوف الدولية بشأن حجم الأموال غير المشروعة المتدفقة عبر دبي، خاصة في ظل استمرار التسهيلات التي تتيح إخفاء هوية المالك الحقيقي للأصول من خلال الشركات الوهمية والحسابات المعقدة.
ورغم محاولات الإصلاح، تؤكد التقارير أن دبي لا تزال بيئة جاذبة لتدفقات الأموال غير المشروعة، وهو ما يفرض تحديات حقيقية على الجهود الدولية الرامية لتعزيز الشفافية المالية ومنع استغلال الأنظمة الاقتصادية في تمويل الجريمة المنظمة.
من أين لك هذا؟
في عالم تتزايد فيه التساؤلات حول مصادر الثروات ونزاهة المعاملات المالية، يعيد الخطاب الإسلامي صياغة العلاقة بين الإنسان والمال من منطلق ديني وأخلاقي متجذّر في الوحي والشريعة.
فالإسلام لم ينشأ من فلسفة أرضية أو نظرية اقتصادية مستوردة، بل انبثق من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، مؤسساً بذلك رؤية اقتصادية متكاملة، قائمة على التوازن بين حق التملك الفردي وحق المجتمع في رقابة مصادر الكسب.
يتصل جذر السؤال الأخلاقي “من أين لك هذا؟” اتصالاً مباشراً بحماية المجتمع من المال الحرام، والاعتداء على حقوق الآخرين، فقد جاءت النصوص القرآنية واضحة في تحريم أكل أموال الناس بالباطل، سواء عبر السرقة أو الرشوة أو الاحتيال، وأكدت أن المال في حقيقته ليس ملكاً مطلقاً للفرد، بل هو أمانة مؤقتة استخلفه الله فيها.
ورغم أن الإسلام يحث على عدم البحث عن مصادر أموال الأفراد، أو التنقيب من أين اكتُسبت، بل يبنى الأمر على الأصل، وهو حل المال، وأن ما بيد المسلم ملكه إذا ادعى ذلك، وتحل معاملته فيه.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى الأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكاً له إن ادعى أنه ملكه، فإذا لم يُعلم حال ذلك المال الذي بيده، بُني الأمر على الأصل، وإن كان المال في نفس الأمر قد غصب، وجهل المتلقي له بذلك، فالمجهول كالمعدوم.
لكن المفارقة المؤلمة كما يقول دكتور كاظم النعيمي في مقاله من أين لك هذا؟، أن الأمة التي أُنزل عليها القرآن، والتي سُخّرت لها الأرض والبحر والليل والنهار، أصبحت اليوم غير قادرة على استثمار خيراتها، حتى الأسماك التي تلقيها الأمواج على الشواطئ تُترك دون استغلال، في حين تتجه طاقات الشباب إلى الهجرة أو البطالة.
وهنا تكمن أزمة غياب الارتباط بالمنظومة القيمية في الاقتصاد، وتحول المال من وسيلة للكرامة والعبادة إلى غاية بحد ذاته، يُطلب من أي طريق، حتى لو كان في ذلك هدم للمجتمع
يقول تعالى في سورة الحديد “…وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ…”، مشيراً إلى أن الإنسان مجرد مستخلف، وليس مالكاً مطلقاً.
وفي ظل غياب هذا الوعي، قد يصبح سؤال “من أين لك هذا؟” أكثر من مجرد تحقيق أو مساءلة، وربما مفتاح لإعادة ضبط البوصلة الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم النظام المالي في المجتمعات الإسلامية.
إن العودة إلى النموذج الإسلامي ليست دعوة للعزلة أو رفض المعاصرة، بل هي دعوة لبناء اقتصاد حديث بأدواته، إسلامي بمبادئه، عادل في جوهره، لا يقبل إلا ما كان طيباً، ويطهر ما لوّثه الطمع أو الاستغلال أو الاستبداد.