في نسيج الزمن، تتشابك خيوط التراث مع نصوص الشريعة، لتبرز الوصية الواجبة، كسردية تعطينا جانبا من مرونة الفقه الإسلامي المحتضن لمختلف الأزمنة والأمكنة، في توافق بديع بين علوم الشريعة وتفاصيل الواقع وتداخلاته.
وكمزيج متماسك بين رؤية السلف وتحديات الخلف يظهر هذا التوازن الدقيق بين صدى التراث الإسلامي وصفحات الفقه ضمن مواقف تدعونا إلى التفكير في روابط الأسرة، والسعي الدؤوب لتسليط نور العقيدة على ظلال الحياة بأطيافها المتنوعة.
كان جدي الحاج محمد عقب الباب -رحمه الله- يعمل في مدينة المحلة الكبرى في دلتا مصر تاجر جملة في شتى أصناف البقالة، التي لا أزال حتى اليوم أشتَمُ رائحة أكوام مكعبات صابونها “النابلسي” النفاذة.
كنتُ آخذ القطار من القاهرة مع أمي وأختي الصغرى في إجازة نصف العام الدراسي لزيارته.
وفي زمن لم تَغْزُ بعدُ فيه سيارات الأجرة “مازدا” شوارع المدينة، كانت مغامرة الجلوس في الهواء الطلق إلى جوار سائق عربة الحنطور التي نركبها من محطة القطارات حتى بيت جدي، وأنا أراقب -بدهشة طفل لم يتجاوز السنوات السبع- حصانها الأسود النافرة عروقُه، وهو يجرها على وقع ارتطام حدواته المعدنية بالإسفلت مع صوت لسعة سوْط في الهواء بين حين وآخر ، وكأنها رحلة عبر الزمن لم أعتد عليها في زحام مواصلات القاهرة.
لا أزال أتذكر صعودنا للدرج المظلم الرطب في بيت جدي ذي الطوابق الثلاثة، إلى أن نطرق الباب فتفتحه جدتي بوجه منفرجةٌ أساريرُه، ثم مع وضعها على مائدة الطعام لما أعدته لنا مما لذ وطاب، يدلف جدي بطربوشه الأحمر وجلبابه الرصاصي المكوي بعناية على صوت مفتاح يحرك المزلاج.
كان جدي يتمنى ابنًا يحمل اسمه ويدير من بعده تجارته، لكنه لم يكن يرزق إلا بالبنات، وقد رُزِق بذكرين ماتا صغيرين، إلى أن رُزق في نهاية ترقبه للابن المنشود بأبي (آخرِ العنقود)، فكان نصيبي من الدنيا عمّات ست دون أعمام يكبرن والدي بفارق زمني كبير يقترب من عمر جدتي لأمي، فنشأ أبي منذ طفولته خالًا لمن في سنه نفسه، أو أصغر منه قليلًا.
فاق أبي طموحات جدي في أن يدير متجره؛ فأصبح أستاذًا جامعيًا يُدرِّس علم الجراحة، لكن في سن الرابعة والثلاثين يُفجع جدي على خبر وفاة ابنه الوحيد في رحلة حج انطلقت من الرياض حيث كان يعمل طبيبًا، إثر حادث سيارة كان على متنها، انقلبت على مشارف مكة؛ بسبب جمل شارد يقطع الطريق، ليستقبل جدي المكلوم جثمان أبي في مطار القاهرة، ويواريه الثرى في مسقط رأسه.
لم أدرك خلال السنوات العشر التي عاشها جدي قبل أن يُسَجَّى بجوار ولده سبب هذه الحفاوة الملكية، التي كنتُ أحظى بها عنده، لا ريب أنه كان يرى في حفيده اليتيم الحامل لاسمه -كما كان يتمنى دائمًا- ابنه الفقيد.
ورغم أن أبي تُوفي قبل جدي فإن المحكمة في مصر حكمت لي ولأختي بنصيب في تركة جدي، مع أن الفرع (أبي) مات قبل الأصل (جدي) سمَّته الوصية الواجبة، وكنت أظن ذلك حكمًا فقهيًا متعارفًا عليه في سائر بلاد المسلمين، فلما سافرت إلى بعض دول الخليج بهدف العمل، تبين لي أنها غير مطبَّقة في عدد من الدول العربية.
وهي تعادل حصة الفرع المتوفى (أبي في هذه الحالة)، كأنه لم يَمُتْ قبل الأصل (أبيه)، شريطة ألا تزيد عن ثلث تركة الأصل، أما حصة جدي وأمي في تركة أبي، فقد وهبها كاملة عن طيب نفس في حياتهما لي ولأختي، بل زاد جدي على ذلك بتسجيل صك بيته لنا أثناء حياته.
يولد الإنسان في هذه الدنيا عاريًا، فتُعِيرهُ الدنيا كل شيء حتى اسمه لا يختاره، ومع موته تسحب منه كل صلاحياته، فأملاكه التي كان يحق له التصرف فيها أثناء حياته بالبيع أو الهبة، لم تَعُدْ ملكًا له، وشريك حياته الزوجية يصبح حرًا في الارتباط بغيره، فإن أوصى بشيء مما يملك لأحد لا تكون وصيته ملزمة، إلا لغير وارث منه وبما لا يتجاوز قيمة ثلث ما ترك.
وقد أجمعت المذاهب الأربعة على أن الفرع إن مات في حياة الأصل، بات أبناء الفرع محجوبين عن تركة الأصل، فلا ميراث للحفدة في تركة جدهم لأبيهم (الأصل) إن مات أبوهم (الفرع) قبل أبيه.
وقد اتفق العلماء على أن الوصية لغير وارث في حدود الثلث واجبة، بل اتفقوا على أن تاركها يأثم.
إلا أن بعض العلماء -ومنهم محمد بن حزم الظاهري- خالف الجمهور وذهب في اجتهاده إلى مفهوم الوصية الواجبة، الذي يرى فيه أن الجد الذي توفي ابنه أثناء حياته كان يجب عليه أن يوصي لحفدته، بل إنه ألزم القاضي أن ينفذ هذه الوصية التي كان على الجد أن يوصي بها. وكأن ابن حزم -ومَن ذهب إلى هذا الرأي- قد أرادوا أن يكون للحفدة نصيب في تركة جدهم، خشية أن لا يرعاهم الورثة الشرعيون.
ويخالف الجمهور ابن حزم فيما ذهب إليه؛ لأنه حُكم لم يطبقه رسول الله ﷺ ولا صحابته ولا التابعين.
ولكن مما استند إليه ابن حزم في اجتهاده:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
البقرة:180
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا
النساء:8
إلا أن جمهور العلماء يرون أن الحكم منسوخ بآيات المواريث التي بينت أنصبة الميراث بتفصيل شديد، بل يُعدّون الوصية الواجبة سوء أدب مع الله، وتحريفًا لأحكام الميراث القطعية الواضحة، وظلمًا للورثة الفعليين.
أوجه التشابه والاختلاف بين الوصية الواجبة والوصية الاختيارية
تشبه الوصية الواجبة الوصية الاختيارية في أنهما لا تجوزان لوارث، لكنها تشبه الميراث في إلزاميته وفي جعلها نصيب الذكر مثل الأنثيين، وفي أنها مقدمة على جميع الوصايا الاختيارية، لكنها تختلف عن الوصايا الاختيارية في أنها لا تشترط قبول الموصي والموصى له، كما أنها مقدمة في التنفيذ على الميراث.
ومن نافلة القول: إن هذه ليست المرة الوحيدة التي تبنّى بعض المسلمين في عصور متأخرة حكما لم يكن معروفا في عهد رسول الله ﷺ ولم يتبنه فقهاء المذاهب الأربعة، فقد كان عمر -رضي الله عنه- يُوقع طلاق الثلاث بلفظ واحد تأديبًا للمتعجِّل، وقد خالف ابن تيمية وعلماء آخرون متأخرون ما ذهب إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في هذا الأمر.
ومن حيث الترتيب يتقدم الدَّين على الوصية الواجبة، وتتقدم الوصية الواجبة على الوصية الاختيارية.
فتأتي الوصية الاختيارية والوصية الواجبة في المرتبة الثانية في الحقوق المتعلقة بتركة الميت بعد استيفاء مصاريف تجهيزه ودفنه وأداء الديون التي عليه ، شريطة أن لا تجاوزا قيمة ثلث التركة، ويقدم الدَّين على الوصية بإجماع الفقهاء.
فعَنْ علي رضي الله عنه في تخريج المسند لشعيب أَنَّهُ قَالَ: “إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ”.
يقصد بذلك قوله تعالى: ” وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ”، النساء:12.
أي أن استيفاء الديون مقدم على تنفيذ جميع أنواع الوصية.
وقد اختلف العلماء حول جواز التوارث بين المسلم وغير المسلم، إلا أنهم اتفقوا على جواز الوصية بينهما.
أما الوصية لغة: فمأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سُمِّيت بذلك لأنها وصل لما كان في الحياة بعد الموت.
أما شرعًا فالوصية هبة الإنسان غيره عينا أو دينا أو منفعة على أن يملك الموصى له الهبة بعد موت الموصي.
وأركانها: الموصي وهو صاحب الوصية، والموصى له وهو المستحق للوصية، والموصى به وهو الشيء الموصى به، والموصى إليه أي الوصي، وهو الذي قوّم على تنفيذ الوصية لموصى إليه فاقد الأهلية لصغر سن، أو ضعف عقل.
وما من عجب أن يحتار المسلم إزاء تشريع قانوني وضعي ينفِذ الوصية الواجبة، فضعف حجتها والخلاف الفقهي المثار حولها يثير الريبة، لكن القاعدة أن الحاكم يرفع النزاع في الأمور الخلافية بضوابط شرعية صارمة.
وعمومًا من أراد الحيطة يمكنه أن يتنازل للورثة عن نصيبة من الوصية الواجبة، إن حكمت له المحكمة بذلك.
ومن المفارقات القضائية أن أحد المواطنين المصريين – في محاولة منه للتمرد على مواد قانون الوصية الواجبة المصري المطبقة منذ عام 1946 – أقام عام 2008 دعوى قضائية في قضية تركة تُوفي فيها أبوه بعد وفاة أخت المدعي، وقد أقام دعواه أمام المحكمة الدستورية العليا ضد رئيس الجمهورية، وضد رئيس مجلس النواب، وضد أبناء أخته المتوفاة بعدم دستورية هذه المواد، ومن ثم طالب بسقوط العمل بأحكامها، إلا أن المحكمة انتهت عام 2021 إلى رفض الدعوى ومصادرة الكفالة التي دفعها في صندوق المحكمة، وإلزامه بالمصروفات وأتعاب المحاماة، وأنفذت بنود قانون الوصية الواجبة.
تشريع الوصية الواجبة في العالم العربي
وقد كانت مصر أول بلد شرَّع مواد أحكام قانون الوصية الواجبة في 1946 في القانون رقم 76، ثم تبعتها في ذلك معظم الدول العربية؛ مثل: سوريا عام 1953، ثم المغرب في الظهير الشريف/ الملكي عام 1958، ثم تونس والعراق عام 1959، ثم فلسطين عام 1962، ثم الكويت عام 1971، ثم الأردن عام 1976، ثم الجزائر عام 1984، ثم السودان عام 1991، ثم اليمن عام 1992، ثم ليبيا عام 1994، ثم سلطنة عمان عام 1997، ثم موريتانيا عام 2001، ثم الإمارات عام 2005.
وقد أطلقت بعض الدول العربية على مفهوم الوصية الواجبة مصطلح التنزيل، مثل: الجزائر والسودان وموريتانيا على الوصية الواجبة مصطلح التنزيل،
وكان لكل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر ومملكة البحرين مواقف متباينة تجاه الوصية الواجبة.
وبشكل عام فقد صدرت وثيقة مسقط للنظام (القانون) الموحَّد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية رقم 28 لسنة 2001، التي تنص مادتها 228 على أن الوصية الواجبة من حيث مدلولها ومبدأ الأخذ بها تُنظم أحكامها بقانون خاص بكل دولة.
أما مملكة البحرين فبها أصوات تنادي بتشريع الوصية الواجبة؛ مثل: مشروع قانون تقدم به عضو مجلس الشورى راشد السبت عام 2008.
ومن الدول العربية التي لم تُشرِّع الوصية الواجبة حتى تاريخه: المملكة العربية السعودية ودولة قطر.
فالقانون القطري يعترف بالوصية الاختيارية وليس الواجبة، ويعتبرها وجهاً من أوجه التبرع المضاف إلى ما بعد موت الموصي، إلا أن هناك موانع لتنفيذها، كأن يكون الموصي فاقدًا للأهلية، كما في حالة غياب العقل والنية كالذي يكون في حالة الاحتضار، أو أن لا يكون هناك دليل من وثيقة أو شهود معتبرين عليها، أو أن لا يكون للموصي سلطة على ما أوصى به، كأن يوصي مثلًا بتزويج فلان من فلانة؛ لأن صحة الزواج لا تتحقق إلا بموافقة الطرفين طواعية، أو أن يوصي بما يخالف القانون في مكان تنفيذ الوصية، أو أن يرفض أو يموت الموصى إليه قبل تنفيذ الوصية.
وقد فصّل قانون الأسرة القطري رقم (22) لسنة 2006 حالات عديدة متعلقة بالوصية، إذ أنها تصح في حالة سكوت الموصى له ثلاثين يومًا، بعد علمه بها، أما إذا مات الموصى له بعد وفاة الموصي دون أن يصدر عنه قبول أو رد، حينها ينتقل الحق إلى ورثته، وفي حالة ما إذا كان الموصى له فاقدًا للأهلية؛ كأن يكون جنينًا أو قاصرًا أو محجورًا عليه، فلمن له الولاية على ماله قبول الوصية، وليس له حق ردها إلا بإذن القاضي.
ولما كانت الوصية لا تصح شرعًا ولا يعتدُّ بها قانونًا في حق الوارث، فقد ذهب بعض الناس إلى أن يهبوا أثناء حياتهم ما يريدون، أن يخصّوا به أحدًا أو بعضًا من ورثتهم. ومن أشهر الأمثلة على ذلك: تسجيل الأب وهو على قيد الحياة كل أملاكه أو بعضها لبناته في حال غياب أخ ذكر لهن؛ خشية أن يشاركهن بقية الورثة الشرعيين في التركة.
رغم أن العصبة (أقارب الأب المتوفى) ملزمة شرعًا بالإنفاق على بناته إن لم يكن لهن ما يكفيهن من المال، إلا أن الغالبية تتهيب من أن ترفع بناته قضية نفقة ضد عصباتهن، وهو سلوك يراه البعض شبيهًا بسلوك لليهود سمّاه الله فسقًا كونهم تحايلوا على تحريم الله عليهم في أن يصطادوا الأسماك يوم السبت، بأن نصبوا شِبَاكًا تحصد ما يدخل فيها ليحملوه في اليوم التالي.
حيث يقول الله تعالى: “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ”، الأعراف: 163.
لكن هناك من يجيز للأب أن يهب بعض أو كل ممتلكاته لبناته خلال حياته، رغم أنهن يعتبرن ورثة، على أساس أنه حر شرعا في هبة ما يملكه لمن يشاء.
المال والبنون
وعلى كل مسلم أن يستبين نيته، أيحسب أن غير الله يرزق أو أن غيره يكتب الآجال؟ وهذا ما يوضحه الله تعالى صراحة في سورة لقمان في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، لقمان: 33 – 34.
وانظر أين أنت من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما، فعن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنن أبي داود أنه قال: “أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا”.
أما إن أردت التخفيف؛ فعن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أنه قال: “جاءني رسول الله ﷺ يَعُودُنِي عام حَجَّةِ الوداع من وَجَعٍ اشْتَدَّ بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوَجَعِ ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يَرِثُنِي إلا ابنةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشَّطْرُ يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغنياء خيرٌ من أن تَذَرَهُم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك. قال: قلت: يا رسول الله أُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تُخَلَّفُ فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازْدَدْتَ به درجة ورِفْعَةً، ولعلك أن تُخَلَّفَ حتى ينتفع بك أقوام، ويُضَرُّ بك آخرون. اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تَرُدَّهُم على أَعْقَابِهِم، لكنِ البَائِسُ سعد بن خَوْلَةَ (يَرْثِي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة”.
ومن رحمة الله أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ فقال عَزّ مِن قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)”، التغابن: 14-18.
والله أعلى وأعلم.