أمام كشك صغير أنتظر بفارغ الصبر شراء أعداد من سلسلة القصص البوليسية المغامرون الخمسة، أرحل حاملاً إياها ككنز ثمين يفتح أمامي عوالم لانهائية، ثم لا ألبث أن أنتقل من روايات أجاثا كريستي إلى مغامرات المفتشين في قطارات دول لم أكن أعلم بوجودها.
تقفز أمام عيني في غرفتي الصغيرة من كل رواية أبحر فيها شخصيات متنوعة، لتملأها بمغامراتها المنتمية لأدب الجريمة.
ولكن ما هو أدب الجريمة؟
تتنوع قصص الجريمة بين الروايات البوليسية الكلاسيكية والأعمال المعاصرة الجريئة، حتى أصبحت مع الزمن واحدة من أكثر الأنواع الأدبية جاذبية.
ويعود تاريخ أدب الجريمة إلى القرون الوسطى الذي كان له تأثير عميق في الثقافة العالمية.
في البداية اتخذت شكلا يميل إلى التسلية الشعبية والحكايات الشفوية، وكانت الأساطير والحكايات الخرافية تلعب دورا كبيرا في تشكيل صورة الجريمة والبطل الذي يكشف عنها، ثم مع مرور الوقت تأثرت الصحف بشكل كبير بهذا النوع من الكتابة، وأصبحت مقالات الجرائم جزءا لا يتجزأ من باب الحوادث، تُستخدم فيه تقنيات الاستقصاء لاستكشاف مناطق الظل، وتحديداً الألغاز التي لم يتم حلها بواسطة الشرطة، لدرجة أن بعض الصحف شرعت في توظيف مفتّشين خصوصيين لاكتشاف واستكمال تلك الحقائق غير المكتملة.
وعلى الرغم من أهمية هذه التحقيقات وشعبيتها، فإنها كانت تقتصر في البداية على مساحات صغيرة في الصحف تسترجع بعض العناصر الجنائية، ولكن مع تعقيد المجتمعات وتنوّع اهتماماتها، زادت هذه المساحة تدريجياً، وأصبحت هذه التحقيقات تشكل جزءا رئيساً من صفحات الصحف، حيث بدأ الكتّاب في دمج عناصر الجريمة في أعمالهم الأدبية، وهو ما ساهم في تحديد هوية أدب الجريمة فيما بعد.
ومع القرن التاسع عشر، تزايد ظهور أدب الجريمة بشكل مكثف في أوروبا، خاصة في بريطانيا وفرنسا، فكان لشغف الجمهور بأخبار الحوادث دور كبير شجع الأدباء على توظيف أساليبهم الأدبية في رصد الجرائم التي تقع داخل المجتمع، وأدى ذلك إلى نشوء الرواية البوليسية وتأسيس أدب الجريمة بشكل عام، ليصبح أحد الفنون الأدبية الأكثر انتشارا في العالم.
ويُعتبر آرثر كونان دويل وأغاثا كريستي من بين أبرز كتّاب هذا النوع، حيث تمتزج رواياتهم بالإثارة، وتستهوي القرّاء بلغتها السهلة وتحدياتها للذكاء والخيال، ولا يمكن أن يمر الحديث عن أدب الجريمة دون الإشارة إلى الأمريكي إدغار آلان بو أحد أهم رواده، بل إن تسمية “بولار” تُعزى إليه،
رواية العطر: قصة قاتل لباتريك زوسكيند التي نُشرت في عام 1985 تحكي قصة طفل رضيع ولدته أمه في أحد أسواق السمك الفرنسية، ثم تخلصت منه عقب ولادته مباشرة برميه في مكب للنفايات، فانتقل من يد إلى يد إلى أن وصل إلى دار للأيتام حيث عاش فيها طفولته منبوذاً، بعدها انتقل للعمل في مدبغة للجلود التي كانت لحظة فارقة في حياته، أشبعت لديه حاسة شم خارقة، جعلته يشرع في تقطير روائح الأشياء بما فيها روائح البشر والمعادن.
تطور الأمر إلى أن قتل عددا كبيرا من الفتيات ليستخلص روائح أجسادهن، بهدف تركيب عطر فريد لم يسبقه إليه أحد، في النهاية تم إلقاء القبض عليه، فاستغل عطره بسكبه على جسده، مما أثار إعجاباً جنونياً من الجميع به بما فيهم سجانيه، فأطلقوا سراحه، لكن بعد ذلك بات كل من يشم رائحته ينجذب إليه بشكل هستيري، إلى أن اختفى جسده بفعل نهش آلاف الأيادي لجسمه، فلم يُخلِّف وراءه إلا ملابسه وقارورة عطره الفارغة.
حققت الرواية شهرة كبيرة، ثم تحولت في عام 2006 إلى فيلم سينمائي يحمل عنوان الرواية نفسه، ولاقى نجاحا كبيرا أيضاً.
ونجد في العالم العربي في القرن الثامن الميلادي بوادر لأدب الجريمة في حكاية الصَبية المقتولة في إحدى قصص ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضا بقصة التفاحات الثلاث التي تحكي أن الخليفة هارون الرشيد وجد جثة فتاة في صندوق أخرجه صياد بشباكه من نهر دجلة.
كلف الخليفة وزيره جعفر البرمكي بالبحث عن القاتل، وأعطاه مهلة ثلاثة أيام وإلا سيُعدم، فلما فشل الوزير وأوشك الخليفة على أن ينفذ فيه التهديد، إذ برجلين أحدهم شيخ كبير والآخر شاب في مقتبل العمر يدعي كل واحد منهما أنه القاتل، وازدادت حيرة هارون الرشيد.
إلا أن الصدفة لعبت دورها واكتشف الوزير البرمكي دليلاً مادياً في تفاحة كانت لدى أبنته أدت إلى حل اللغز، خلاصته أن القاتل الحقيقي كان عبد الوزير نفسه الذي ادعى ان عشيقته اهدته تفاحة اشتراها لها زوجها من مدينة أخرى بعيدة ولم تأكلها لأنها محمومة ولم تكن تلك المرأة المحمومة الا ابنة الشيخ الكبير و زوجة الشاب الذي ما ان سمع افتراء العبد حتى هم بقتل زوجته فبناء عليه فأن العبد هو المحرض الرئيس في جريمة القتل .
أما في العصر الحديث فتعد رواية اللص والكلاب (1961) للأديب المصري نجيب محفوظ من الأمثلة البارزة على استخدام أدب الجريمة كمحرك للأحداث وكوسيلة للتأمل في القيم والتحولات الاجتماعية في مصر، حيث اعتمد الكاتب على قصة جريمة حقيقية وقعت أحداثها في الإسكندرية في مطلع ستينيات القرن الماضي، وكانت متابعتها من خلال تقارير الصحف، حيث استخدم محفوظ أدب الجريمة كسياق لكشف العديد من مشاكل المجتمع وتناقضاته، كما أن الرواية تحولت إلى فيلم سينمائي يحمل عنوان الرواية نفسه عام 1962.
أما القصة الحقيقية فتدور حول محمد سليمان الذي أفردت لها جريدة الأهرام المصرية في عام 1960 تغطية شغلت الرأي العام لقرابة شهرين إلى أن حاصرته الشرطة وقُتل في أبريل من العام نفسه.
اتسم الجاني بذكاء حاد مكنه من التخفي في أكثر من موقف، بل وهرب من الشرطة بعد القبض عليه أكثر من مرة، وشملت جرائمه سرقات منازل لمشاهير وأغنياء في مدينتي الإسكندرية والقاهرة، مثل سرقته لبيت أمير الشعراء أحمد شوقي والمطربة أم كلثوم، إلا أنه بعد خروجه من السجن قرر الانتقام من زوجته التي رفعت قضية طلاق ضده بسبب أنه محكوم بالحبس لعدة سنوات.
حيث ينص القانون المصري في مادته رقم 14 من القانون رقم 25 لسنة 1920 أن “لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيا بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنين فأكثر أن تطلب إلى القاضي بعد مضي سنة من حبسه الطلاق بائناً للضرر ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.”
ثم سرعان ما تزوجت زوجته من شخص آخر بعد تطليق المحكمة لها منه، فتصور أنها ومحاميه تأمرا عليه بتوريطه كي يسجن، وبالتالي يتسنى لهما الزواج ، فحاول أكثر من مرة قتلهما.
ومن المفارقات التي أغضبت الرئيس عبد الناصر أن جريدة الأخبار المصرية نشرت على صفحتها الأولى عنوان خبر بالخط العريض يقول “مصرع السفاح” وأسفله خبر آخر لكن دون فاصل بينهما يحمل عنوان ” عبد الناصر في باكستان”، فأدى هذا إلى قراءة العنوان وكأنه يقول: “مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان”.
أما الدكتور نبيل فاروق الذي يعد واحدا من أشهر كتّاب القصة البوليسية في الوطن العربي، فعلى الرغم من تخرجه في كلية الطب، إلا أنه قرر التفرغ تماما للكتابة في هذا الفن، وحقق شهرة كبيرة من خلال سلسلته رجل المستحيل، التي استمرت في الصدور بين عامي 1984 و2009، وتدور أحداثها حول ضابط مخابرات مصري يدعى أدهم صبري يجيد عدة مهارات قتالية إلى جانب إتقانه لعدد من اللغات مكنته من أن يسافر في مغامرات مثيرة حول العالم.
وقد حصل فاروق على عدة جوائز في مصر والوطن العربي، من بينها جائزة الدولة التشجيعية في الآداب كاعتراف رسمي بإسهاماته في مجال الرواية البوليسية.
ومن قبل نبيل فاروق، ألهم محمود سالم القرّاء الصغار بألغازه ومغامراته التي تكمن في أبطال سلسلة قصص المغامرون الخمسة (1969)، وقد اختار سالم أبطالا عاديين بدلاً من الشخصيات الخيالية مثل سوبرمان، بهدف إثراء خيال الأطفال وتحفيز التفكير المنطقي.
وأبطال السلسة خمسة أطفال بين سن التاسعة والرابعة عشرة، وهم نوسة ولوزة وتختخ وعاطف ومحب وكلبهم زنجر، وتدور الأحداث حول جرائم سرقة أو اختطاف أو جاسوسية، وتنتهي بنجاح المغامرين الخمسة في حل اللغز والإيقاع بالجاني.
ومن ضمن قصص الجريمة باللغة العربية تستوقف المرء رواية قاف قاتل سين سعيد (2021) للكاتب الكويتي عبد الله البصيص التي تتناول أحداثها الغزو العراقي للكويت كخلفية تاريخية لجريمة قتل يسعى فيها المحقق ماجد إلى كشف سر قضية أغلقت قبل 23 عام دون حل حول اختفاء الشاب جونكر.
ويمكن اجمالاً تقسيم الأدب الذي يتعامل مع الجريمة في العالم العربي إلى نوعين: الأول يعتمد على الحبكة البوليسية والألغاز، بينما الثاني يتناول الجريمة كفعل وكحالة إنسانية.
وتُظهر هذه الأمثلة كيف يُمكن لهذا النوع الفني أن يكون وسيلة لاستكشاف القضايا الاجتماعية والفساد في المجتمع، ومن ثم كيفية تضمينه بشكل ملهم في الأدب العربي المعاصر.
لكن مع ذلك، يُلاحظ أن الأدب العربي بشكل عام يفتقر إلى توجيه أكبر نحو روايات الجريمة وعالم الجريمة مقارنة بالأدب الغربي، رغم أن هناك نماذج من أدب الجريمة الرفيع في اللغة العربية، إلا أن أنها لا تتمتع بنفس الانتشار والتأثير في المشهد الأدبي العربي ككل، نظراً لما تحظى به من تقدير أقل في العالم العربي مقارنة بالغرب، وربما يكون ذلك مرده إلى طبيعة المجتمع والتفاعل مع مواضيع الجريمة والتشويق.
برز أيضا تأثير أدب الجريمة على الفنون المرئية، خاصة السينما والتلفزيون، مما عكس توسعه وتأثيره في عالم الإعلام، خصوصا مع التوسع في تحويل الروايات البوليسية إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية تتيح لعشاق هذا النوع الأدبي فرصة استكشاف الشخصيات وتطوّر الحبكة بطرق جديدة ومثيرة.
فعلي سبيل المثال لا الحصر، قدمت الدراما المصرية مسلسل سفاح الجيزة (هادي الباجوري، 2023) الذي أثار إعجابا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، وينقلنا المسلسل إلى عالم الجريمة والإثارة، من خلال استلهام العمل لأحداثه من حياة السفاح الحقيقي قذافي فراج عبد العاطي الذي شغل الرأي العام بجرائمه المروعة في عام 2020.
المسلسل يروي بأسلوب مشوّق ومثير قصة قاتل متسلسل في محافظة الجيزة في مصر، يختلط فيها الواقع بالخيال ليخلق تجربة مثيرة.
ويتميز العمل بأحداث مرعبة، دفعت إلى تحديد العمر المناسب للمشاهدين ووضع علامة +18.
ينتقل المسلسل ببراعة بين أحداثه وحياة السفاح الحقيقي، قذافي فراج عبد العاطي الذي عاش في محافظة الجيزة، وكان يتخذ من الإسكندرية مكانا للتخفي، منتحلاً شخصيات متنوعة.
سفاح الجيزة ليس العمل الوحيد الذي استلهم قصته من جرائم حقيقية في مصر، ويعتبر مثل هذا النهج جزءا من تاريخ الدراما المصرية، حيث استُلهِمت العديد من الأعمال الفنية من قصص جرائم ووقائع حقيقية هزت الرأي العام.
ومن الجرائم التي تحولت إلى أعمال درامية وسينمائية وتلفزيونية عديدة، قصة القاتلتين ريا وسكينة اللتين حيرتا السلطات في الإسكندرية خلال الفترة بين عامي 1919 و1920.
وقد أبرز العمل دور وكيل النيابة كجزء أصيل من منظومة القضاء والعدالة، استطاع بطرق مبتكرة استجواب واستمالة الطفلة بديعة ابنة القاتلة الرئيسية ريا، لتدلهم عن مكان جثث الضحايا من النساء، مما مكنه من بناء قضية قوية محكمة استند فيها على الأدلة المتوفرة، وشهادة ابنة القاتلة، ورفات الجثث المدفونة في قبو منزل العصابة، مع توجيه تهمة القتل العمد للأختين وشركائهما، قتلوا فيها سبعة عشر سيدة، فتمت إدانتهم جميعا من قلب المحكمة، ولتكون بذلك ريا وسكينة أول امرأتين ينفذ فيهن حكم الإعدام في تاريخ مصر الحديث.
بشكل عام، تظهر هذه الأعمال الفنية كمرآة تعكس جوانب مظلمة من تاريخ الجريمة، مما يعزز التفاعل والحوار حول هذه القضايا بطريقة مشوّقة للمشاهدين.
ويواصل أدب الجريمة تأثيره واستقطابه لشريحة جماهيرية جديدة، جعلت من الكتّاب المعاصرين يرون هذا النوع من الأدب وسيلةً لفهم التحولات في المجتمع والتعامل معها بطرق مبتكرة.
وتُظهر هذه الروايات العربية الحديثة استمرار التفاعل بين أدب الجريمة والتحولات في المجتمع العربي، مساهمة في تجديده وتحديثه بشكل عام.
ويمكن ان يكون لأدب الجريمة دور في توسيع آفاق الأدب العربي وتنويعه، عاكساً التفاعل الدينامي مع التحولات الاجتماعية والثقافية، ويبقى أدب الجريمة واحداً من الأنواع الفنية الأكثر تأثيرا، حيث يستمر الكتّاب في ابتكار قصص مثيرة تسلط الضوء على جوانب مظلمة ومعقدة من الحياة والمجتمع.
وشيئا فشيئا، أصبحت روايات الجريمة تحظى بشعبية كبيرة في الغرب متصدرةً قوائم المبيعات، مع تحويل العديد منها إلى أعمال سينمائية حققت نجاحات كبيرة.
ويلاحظ أن الرواية البوليسية تتسم بالاعتماد على الأدب الشعبي الذي يتوقع منه القارئ أن يتمتع بحبكة محكمة وتشويق كبير يسهمان في جذبه إلى عالم الرواية، محولةً إياه من قارئ متلق إلى قارئ فاعل يسعى للاستكشاف والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، معتبراً أن على أدب الجريمة التقيد بالموضوعية، وطرح الأحداث بمصداقية.
الأمر الذي جعل لأدب الجريمة أفقاً مستقبلياً واعداً، من خلال استمرار الابتكار في هذا المجال، كما يشهد العصر الحالي تفاعلاً متزايداً بين أدب الجريمة والتكنولوجيا، خاصة من خلال استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كخلفيات للأحداث.
يظل أدب الجريمة في الأدب العربي متنوعاً وغنياً، كونه يُعَدُّ وسيلة لاستكشاف قضايا اجتماعية وقانونية واعتبارية بشكل معمق، كما يستمر تأثيره في الثقافة العربية المعاصرة، وشرح العملية القانونية، مما يؤكد على دوره البارز في إثراء الأدب والتأثير في الفهم الجماعي.
مقال جميل
[…] في باب الحوادث فقد نشرت المجلة مقالاً تحليلاً بعنوان سحر أدب الجريمة: رحلة تطوره من الرواية إلى السينما ومنص… حول دور الأدب في استلهام جرائم من الواقع أو من وحي […]