تبشر النظم الغربية بعدد من القيم، منها: الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في الوقت نفسه لا تجد غضاضة في ديكتاتورية مقننة تبلطج بها خمس دول في مجلس الأمن على بقية العالم تحت مسمى حق النقض، ضاربة بعرض الحائط مشروع أي قرار، مهما حصل على أكبر قدر من التأييد.
هذه الدول نفسها تنبذ محافلها الأكاديمية المعتبرة أي نقد للداروينية، بل إن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور قام بإمضاء قانون السيطرة على الشيوعية لعام 1954 حظر فيه الحزب الشيوعي الأمريكي، وظهر ما عُرف بحملة ماكارثي لمطاردة ضمائر العاملين في الدولة وحتى الفنانين بحثاً عن تحييد أي شخص ذي ميول شيوعية.
على الجانب الآخر يدور في العالم الإسلامي منذ صدمة إنهيار الخلافة العثمانية في عام 1922 جدل بين العلمانيين والإسلاميين حول هذه المفاهيم الغربية، فالعلمانيون يريدون نسخ النموذج الغربي للحاق بركب التقدم، مع السماح إذا لزم الأمر بالمرجعية الدينية فيما يخص العبادات والأحوال الشخصية فقط.
يقول محمد الشيخ في كتابه ما معنى أن يكون المرء حداثياً؟ (2006) “إن المجتمع الحداثي استحال مجتمعاً مادياً، بمعنى أنه مجتمع صار لا يُحكم في مبادراته المتعددة الاعتبارات التقليدية، روحية كانت أو أخلاقية، وإنما صار يحتكم إلى العوامل المادية وحدها دون سواها”.
بينما يرى الإسلاميون أن العودة للشريعة هي الحل الذي سيعيد للمسلمين أمجادهم الضائعة، وقد حملت جماعة الإخوان المسلمين شعاراً بعنوان “الإسلام هو الحل”، يقول شكيب أرسلان في كتابه لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ (1930) “فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضعة، من ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك يُعدّ منافياً للعدل الإلهي، والله – عز وجل – هو العدل المحض”.
لكن د.محمد بن مختار الشنقيطي له رأي آخر لا إلى هولاء ولا إلى هؤلاء في مقاله تطبيق الشريعة في مجتمعات حرة، حيث يعتقد أن الحرية التي تكفلها الديمقراطية هي السبيل الوحيد لتطبيق الشريعة فهي تنسجم مع مبدأ الشورى، كما أن أي إجبار على تنفيذها ينقلنا من دائرة الإيمان إلى دائرة النفاق.
إذ يقول الشنقيطي إن السبب الأول هو تعطيل المسلمين لا الغرب أو المحتل”القيم الدستورية والسياسية الإسلامية من شورى في بناء السلطة، ومشاورة في أدائها، وعدل وحرية، وتعامل مع المنصب العام والمال العام باعتبارهما أمانة لا ملكية شخصية.”.
كما يرى أن استعادة المسلمين لقيم الإسلام والاحتكام إلى الشريعة يعود إلى الشعب ولا يجوز فرضه بالقوة، فيقول “ليس الحاكم المسلم ملزماً بتطبيق قانون من قوانين الشريعة يرفضه المجتمع، وليس من الحكمة السياسية أن يفعل ذلك عملياً، فإن رضي المجتمع بأحكام الشريعة فذلك واجبه، وإن لم يرضَ ببعضها فهو آثم والله حسيبه، لأن المجتمع لا مكره له، ويجب على دعاة الشريعة ووعاتها في هذه الحالة السعي إلى إقناع المجتمع بأحكام الشريعة، لا إلى إكراهه عليها، حتى وإن كانت بيدهم السلطة السياسية والعسكرية”.
ويخالفه في الرأي محمد إلهامي رغم تبنيه له سابقاً، لأن الخلاف مع الآخر من وجهة نظره لا تحسمه الحجة أو المنطق، بل تحسمه في نهاية المطاف القوة والسلطة،
فيقول إلهامي في مقاله الحرية أولا أم الشريعة؟ “سؤال الحرية والشريعة مجرد سؤال نظري، يمكن الثرثرة حوله طويلا.. لكن سؤال الواقع هو: ما الذي يجبرني على الدخول معك في تفاهمات أصلا؟” وليستشهد على ما ذهب إليه قائلاً “لا يوجد من قدم تنازلات فكرية حاول بها حشر الإسلام في قالب الحداثة والحضارة الغربية مثلما فعل راشد الغنوشي بإخلاص مثير للشفقة والسخرية، ومع هذا لم يحصل على شيء في واقع السياسة، بل اضطر إلى تسليم الحكم بنفسه إلى النظام القديم الذي قامت ضده ثورة جاءت بالغنوشي نفسه إلى الحكم”.
ويركز الشنقيطي في مقاله على الجانب الأخلاقي للشريعة، فهو يرى أن الجمع بين الشريعة والحرية ضروري للوصول إلى إجماع أخلاقي يخرج المجتمعات العربية والإسلامية من ازدواجية المعايير الأخلاقية والثقافية.
كما يعتقد أن تحجيم دور الدين في المجتمعات الإسلامية بالغ الصعوبة فهي مجتمعات اختلط الدين بنسيجها الثقافي والاجتماعي، على عكس المجتمعات الغربية التي كانت الكنيسة أداة في يد الحكام ينهبوا تبرعاتها.
يضيف الشنقيطي أن مفهوم الشريعة تحول مع ثورات الربيع العربي من جدل حول تطبيق الشريعة إلى جدل حول مفهومها، وهو ما يراه أمراً إيجابياً على طريق النهوض.
فهو يعتقد أن “الشريعة ليست قانونا ولا فقها، بل هي مصدر للفقه والقانون، ولذلك من الممكن أن يتغير الفقه والقانون دون خروج على الشريعة، وليس من اللازم أن يكون لكل قانون مستند نصي في الشريعة ليكون قانوناً إسلاميا، فكل قانون يحقق مصلحة شرعية ولا يناقض نصوص الشريعة فهو من الشريعة”، حتى أن إشارات المرور ذات المرجعية الغربية تعتبر من الشريعة لأنها تحمي الأرواح والأموال.
ومن أهم مقاصد الشريعة كما يعتقد الشنقيطي الرقي بأخلاق المسلم لا إنشائها من العدم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري، عن رسول الله ﷺ “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالحَ الأخلاقِ”.
ومن أهم القيم الأخلاقية عند الشنقيطي: أولاً: قيم البناء السياسي مثل الشورى والمساواة والحرية وطاعة السلطة الشرعية والمدافعة أو ما يعرف في الغرب بالفصل بين السلطات، وثانياً: قيم الأداء السياسي، مثل مكافحة الفساد المالي وردع الظالم والأمانة.
لذلك يعتبر الديكتاتورية نوعاً من الوثنية السياسية التي لا تستقيم مع دولة إسلامية حقيقية، وهي من أهم أسباب التردي الأخلاقي في العالم الإسلامي، إضافة إلى ضعف التأصيل النظري لدى المطالبين بتطبيق الشريعة، وعدم صياغتهم للمفاهيم التي تربط بين الشريعة والحرية.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هل يمكن للحرية فعلاً أن تحقق رقي أخلاقي على مستوى الفرد، ونهضة حضارية على مستوى المجتمع؟ وكيف يمكن سلمياً مواجهة الاستبداد والفساد بحسن الخلق؟
يحضرني هنا في هذا المقام النموذج الياباني أو ما يعرف بكوكب اليابان، وما يحتضنه من إخلاص وتفان في العمل أذهل العدو قبل الصديق، وتواضع وأدب جم في العلاقات بين أفراد المجتمع لا نظير له بين الأمم، لكنه مع ذلك لم يحول دون مجازر واغتصاب ممنهج تعرضت له المناطق المجاورة في الحرب العالمية الثانية.
هل كانت القنبلة النووية ضرورة حتمية لإيقاف هذا الكابوس؟
أم أن البشر في بحثهم عن المدينة الفاضلة يطاردون سراباً تبدده الأنانية؟
أكاد أجزم أن الأنانية هي أم الشر البشري، لا علاج لها إلا بإعلان الحرب على الأنا، قبل أن تحرق الجميع.
“وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، سورة الحشر.
[…] من هذا الأسبوع فكان لكاتبه أحمد عقب الباب بعنوان الشريعة الربانية والحرية الإنسانية الذي أثار فيه عدداً من القضايا المتعلقة بتطبيقات […]