لا شك أن البقعة التي وُلِدتَ فيها لها تأثير كبير على مسار حياتك، لكن مع ذلك، لا يعني بالضرورة ميلادك في واحد من أقوى بلاد العالم وأكثره تقدماً في جميع المجالات، أن تنعم بحياة كريمة، وربما يكون روبرت فرانكلين ستراود المعروف برجل طيور ألكتراز من أجّل الشواهد على ذلك.
ولد ستراود في عام 1890 في مدينة سياتل، كبرى مدن ولاية واشنطن على الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، وكان والده مدمناً على الكحول، مما عرضه لعنف شديد من قِبله، ليعيش بذلك طفولة قاسية غير متوازنة، حتى أنه ترك المدرسة في سن مبكرة جداً، ولم يتجاوز الصف الثالث قبل أن يهرب من المنزل عندما كان عمره 13 عاماً، هذا الهروب كان بمثابة بداية لحياة مليئة بالانحرافات.
عندما غادر ستراود منزل والديه، بدأ في شق طريقه بنفسه، ولكنه لم يكن قادراً على العثور على الاستقرار في أي مكان، وحاول العمل في عدة وظائف مختلفة خلال سنوات مراهقته، منها كعامل في ميناء سياتل، لكن لم يتمكن من أن يجد مصدر دخل مستقر.
في عام 1908 أي في سن الثامنة عشرة، اتخذ قراراً بالانتقال إلى مدينة كوردوفا في ولاية ألاسكا بحثاً عن فرصة عمل في مجال بناء السكك الحديدية، فقد جذبت وقتها حمى الذهب في هذه الولاية ومقاطعة يوكون الكندية الحدودية آلاف عمال المناجم والمستوطنين، لكن العمل الشاق إضافة إلى إدمانه على تعاطي المورفين حوّلا حياته إلى جحيم.
ثم التقى بكيتي بائعة الهوى التي تكبره بحوالي عشرين عاماً، وسرعان ما انتقلا للعيش معاً في مدينة جونو ليعمل لحسابها كقواد، كانت علاقته بها خليطاً من العشق والأمومة والاحتياج المادي.
جريمة القتل الأولى
وفي إحدى المرات من عام 1909 تعرضت كيتي للضرب والاغتصاب من أحد زبائنها الذي كان يعمل نادلاً في أحد البارات دون أن يدفع لها، فذهب ستراود إليه وتشاجر معه، ثم أطلق النار عليه وأرداه قتيلاً.
كان ستراود يعتقد في البداية أن والدته لن تتركه دون الاستعانة بمحام جيد، وتصور أنه إذا اعترف بالذنب في تهمة القتل العمد، فسوف يحصل على حكم مخفف بالسجن لفترة قصيرة، ربما لبضع سنوات فقط، خاصة أن محامية أقنعه بالإقرار بالقتل غير العمد، فالحالات السابقة المشابهة كانت تُوقع عليها عقوبة بالسجن لمدة ثلاث سنوات، لكن القاضي كوشمان الذي تولى منصبه مؤخراً لفترة قصيرة بشكل مؤقت في ألاسكا، صرح لدى وصوله إلى الإقليم بأنه يعتزم التشدد في التعامل مع مرتكبي جرائم العنف، من أجل زيادة احترام القانون في الولاية، وهو ما دفعه لأن يجعل ستراود – رغم صغر سنه – عبرة لمن لا يعتبر، وحكم عليه بالسجن لمدة 12 عاماً.
وبما أن ألاسكا كانت منطقة فيدرالية، فإن العقوبة ينبغي أن تُنفذ في سجن فيدرالي، وهو سجن جزيرة مكنيل في اللسان البحري من ولاية واشنطن المعروف باسم بيوجت ساوند.
هكذا بدأت مسيرة ستراود كسجين فيدرالي، ومع بدء فترة سجنه، بدأت تتضح معالم شخصيته المتمردة والمعقدة، كان شخصاً يصعب التعامل معه، وكانت علاقته مع السلطات دائماً مشوبة بالتوتر والعنف، وخلال وجوده في سجن ماكنيل، تورط في عدة حوادث عنيفة أضافت أحكاماً جديدة بالسجن إلى مدة عقوبته الأصلية.
ففي إحدى المرات ضرب رجلاً كان يعمل في مستوصف السجن عندما حاول الحصول على مورفين منه بالقوة، فتمت إضافة ستة أشهر إلى مدة عقوبته، كان هذا الحادث مجرد بداية لسلسلة من السلوكيات العدوانية التي جعلت ستراود شخصية غير مرغوبة في السجن، وتورط في شجار مع نزيل آخر حول الطعام وكاد أن يقتله، مما أدى إلى إضافة ستة أشهر أخرى أيضاً إلى عقوبته.
في تلك الأثناء، كانت والدته، التي انتقلت للعيش بالقرب من السجن، تزوره بانتظام وتقدم له الدعم المعنوي، لكن حتى هذا الدعم لم يكن كافياً لتهدئة طباعه العنيفة والمتمردة.
وبسبب تزايد مشاكل سترود في سجن ماكنيل، قررت السلطات نقله إلى سجن ليفنوورث في ولاية كانساس، وهو سجن كان يعرف بصرامته.
جريمة القتل الثانية
تكيّف ستراود إلى حد ما مع سجنه الجديد، والشيء الوحيد الذي كان ينتظره هو زيارات والدته من ألاسكا، لكنه إغضاب أحد الحراس الذي كان يستفزه في كل فرصة.
كتبت والدته أنها ستزوره، وقبل يوم من الزيارة، كتب الحارس تقريراً تأديبياً بشأن مخالفة بسيطة قام بها ستراود، مما يعني أنه لن يتمكن من رؤية والدته.
صباح يوم الزيارة، اقترب سترود من الحارس وهو يدخل غرفة الطعام وطلب منه بأدب عدم تقديم التقرير التأديبي، لأن والدته ستزوره، سخر منه الحارس وقال إنه لا يهتم من أين أتت، وإنه بالتأكيد لن يرى والدته هذه المرة.
نصحه أحد الأصدقاء بأن المخالفة البسيطة للقواعد لن تمنعه من رؤية والدته، وفي صباح ذلك اليوم، حاول سترود مرة أخرى التحدث إلى الحارس، لكن الحارس أخبره أنه بسبب خروجه من الصف بدون إذن فإنه حصل على تقرير تأديبي آخر.
كان ستراود منزعجاً جداً، ولم يأكل كل ما هو على صينية الطعام، لكن الحارس الذي لم يكن يحب سترود لاحظ ذلك، وبعد تفتيش الصينية رأى بعض الفاكهة المتبقية عليها، ابتسم الحارس وأخبره أنه سيتم كتابة تقرير آخر ضده.
دفع بخبث صديق كان يجلس أمامه على مائدة الطعام ركبته، فوجد أسفلها سكيناً مصنوعاً من أدوات الطعام، أخفى سترود السكين داخل بنطاله.
وأثناء خروجه من غرفة الطعام، اقترب من الحارس ليطلب منه التوقف عن كتابة التقرير، فأخبره أن خروجه من الصف دون إذن يعني تقريراً تأديبياً آخر، هنا استشاط غضب ستراود وأخرج السكين من قميصه، وأمام أكثر من ألف سجين وحارس طعن الرجل حتى الموت.
كانت إدانة ستراود أمراً محسوماً، ولم تر المحكمة أي ظروف مخففة، وحُكم عليه بالإعدام في عام 1920.
سافرت والدته إلى واشنطن، حيث التقت بزوجة الرئيس الأمريكي وقتها وودرو ويلسون، وطلبت منها كأم أن تتدخل لإنقاذ ابنها، وهو ما تم بالفعل، فقبل موعد إعدامه بثمانية أيام فقط تم تخفيف العقوبة إلى السجن مدى الحياة في سجن ليفنوورث بولاية كانساس.
طيور السجن وحلم الحرية
في سجن ليفنوورث تطور اهتمام سراود بالطيور التي وجدها في ساحة السجن، وحصل على إذن لجلب بعض العصافير إليه، كان هذا الانتقال نقطة تحول جديدة في حياته، ليبدأ اهتمامه برعاية الطيور وعلاجها.
في البداية، كان اهتمام ستراود بالطيور مجرد وسيلة لتمضية الوقت في السجن، لكنه سرعان ما تحول إلى شغف حقيقي ودافع للعيش، جمع سترود ما يقرب من 300 طائر، وبدأ بتربية الطيور وإرسالها خارج السجن ليتم بيعها، وخلال فترة سجنه، كتب سترود كتابين، الأول: أمراض الكناري (1933) والثاني: ملخص سترود لأمراض الطيور (1943)، وهما كتابان اعتبرهما علماء الطيور والمربين أعمالاً ذات مرجعية قيمة.
سجن ألكتراز المرعب
تضايق مع الوقت مسؤولو السجن من أنشطة ستراود والشعبية التي حققها خارج السجن، وحاولوا نقله من سجن ليفنوورث، لكنه تحايل عليهم وتزوج بالوكالة من أحدى المتعاطفات معه، لأن قانون ولاية كانساس يحظر نقل السجناء المتزوجين، الأمر الذي بدوره أثار غيظ مدير السجن، ولم يسمح له بمراسلة زوجته.
في أواخر عام 1942، وجد مسؤولو السجن ضالتهم للتخلص من ستراود، بعد أن اكتشفوا أنه يستخدم أقفاص الطيور لإرسال رسائل غير مصرح بها خارج السجن، فتم نقله إلى سجن الكاتراز المرعب، وحرم من طيوره إلى الأبد.
كان غاضباً بشكل خاص من حقيقة أن نافذته التي كانت تحتوي على زجاج شفاف تم استبدالها بزجاج معتم سميك، مما دمر إطلالته على خليج سان فرانسيسكو.
وادعى المسؤولون أن الهواء البحري قد يؤدي إلى تآكل إطارات النوافذ، لكن بعد سنوات في عام 1975، اكتُشف أن العديد من نوافذ الغرف الأخرى بزجاج شفاف، وأنه كان بإمكانهم أن يمنحوه هذا الشيء البسيط، نافذته الوحيدة على العالم الخارجي.
بُني سجن ألكتراز فوق جزيرة صخرية على بعد كيلومترات معدودة من ساحل مدينة سان فرانسيسكو بمناظرها الخلابة وأضوائها الليلية الساحرة، لتُشعِر المسجونين بمزيد من الحرمان والحسرة على ما يرونه في الأفق القريب جداً منهم.
وقد أطلق إسم ألكاتراز على الجزيرة نسبة إلى كلمة إسبانية تطلق على طائر بحري يتردد على هذه الجزيرة، وقد أغلق السجن عقب وفاة ستراود بعام واحد، وتحول إلى مزار سياحي يستقطب ملايين الزوار.
وأخر من خرج من هذا السجن وليم بيكر الذي أصبح لاحقاً مرشداً سياحياً يقدم جولة تعريفية بالسجن ويوزع كتابه ألكتراز 1259 (2013) الذي ذكر في بعض فصوله انطباعاته عن ستراود.
وسينمائياً قام الممثل برت لانكستر بدور ستراود في فيلم رجل الطيور من ألكتراز (1962) الذي حصل عنه على جائزة أفضل ممثل أجنبي من الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون (بافتا)، وترشح بسببه لجائزة الأوسكار.
وفي لقاء تلفزيوني أجري معه بعد وفاة ستراود بسنوات قال إنه توفي بعد حوالي عام من زيارته له في المستشفى قبيل وفاته، و أنه لم يرى الفيلم، حيث لم يُسمح لأي شخص برؤية سترود باستثناء محاميه، لكن بعد عرض الفيلم، قام السيناتور إدوارد لونغ بترتيب لقاء له مع ستارود، وذهب لرؤيته في المستشفى في سبرينغفيلد في ولاية ميزوري، ويتذكر أنه كان رجلاً في أوائل السبعينيات من عمره، ما زال حيوياً ومليئاً بالحياة، لكنه كان بالطبع يشعر بالمرارة تجاه نظام العقوبات الأمريكي الذي فشل في الاعتراف بمواهبه الفريدة، حيث عبر لانكستر عن موقفه الرافض لعقوبة السجن دون إعادة تأهيل، فهي لا تحقق الكثير باستثناء المرارة والكراهية وتكرار الجرائم.
توفي سترود في 21 نوفمبر 1963 عن عمر يناهز 73 عاماً، بعد أن أمضى أكثر من ثلثي حياته في السجن، منها 42 عاماً في الحبس الانفرادي، ودفن بجوار والدته التي سبقته إلى العالم الآخر بربع قرن في مقاطعة ماساك بولاية إلينوي.
لكن رغم كل ما حققه من شهرة، لم يلتفت أحد إلى خبر وفاته، ففي اليوم التالي سيُغتال الرئيس الأمريكي جون كينيدي وسيغطي الحدث على أي خبر آخر.