تتفق المجتمعات المحافظة والشمولية في أهمية دور الأسرة مقارنة مع دور الفرد، خلافاً للمجتمعات الرأسمالية التي تدعم الطموح الفردي من أجل تحقيق أكبر قدر من النجاحات التي تنعكس على شكل ارتفاع في معدلات الشراء والبيع، يصبح معها كل شيء جزءا من هذا السوق بما فيه الأفراد، ولا ريب أن النسوية شهدت بدايتها في الغرب الرأسمالي.
الحركة النسوية في الغرب
كانت بوادر نقل المرأة من محيطها الأسري إلى سوق العمل مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر، وازدادت وتيرة تشغيل المرأة في القرن العشرين أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، بسبب غياب أعداد كبيرة من الرجال على جبهات القتال، فلم يكن هناك بد من تشغيل المرأة لتعويض هذا الفراغ.
سرعان ما أدركت المرأة الغربية الظلم الواقع عليها في توزيع الأجور فكانت هذه شرارة حركات تحرير المرأة للمطالبة بحق التصويت والمساواة في الأجور، ولكن النقلة النوعية الأكبر كانت مع اضطرابات فرنسا في 1968 التي طالبت بهدم كل الرموز الدينية والسياسية والاجتماعية، فلا مرجعية للكنيسة عندهم ولا مرجعية للطبقة السياسية ولا مرجعية للأسرة ودور الأب تحديداً فيها.
فكانت هذه بداية المطالبة بالمساواة المطلقة لا على مستوى الحقوق والواجبات، بل حتى على مستوى التكوين البيولوجي، ووجدت كلمات الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار صدها الواسع ، حيث تقول في إطار شرح فلسفتها إن “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة” بسبب طريقة التربية في الأسرة والبيئة المحيطة، بمعنى أن الجنس الذي نولد به ليس مُحدِداً لأي شيء، وأن نوع الجنس يحق للفرد أن يحدده على هواه وفقاً لما يراه هو.
نشأ تحالف عميق بين الحركة النسوية والرأسمالية الفردية ومجتمع الميم الذي يعتمد التصنيف الجندري التالي للأفراد: المثلي، والمزدوج، والمتحول والمتحير.
ونشأ مع هذا التحالف عداء عميق ضد الأديان التي تُجرِّم أي علاقة جنسية خارج إطار الزواج.
فلا مانع من أن يختار الرجل حياة الأنوثة أو العكس، كانت هذه الأفكار بداية تحالف عميق بين الحركة النسوية والمثلية الجنسية وأيضا مع الرأسمالية التي تشجع عمل المرأة كقوة عاملة، وصناعة الأزياء والمكياج وصرعات الحمية الغذائية.
الفشل في تحديد تعريف للمرأة
يصل الفكر النسوي في رفضه لأي تمييز بن الجنسين إلى فشله في تعريف المرأة، باعتبار إن النوع الجنسي العضوي لا قيمة له وأن الإنسان يختار جنسه، وفي فيلم ما هي المرأة؟ المنتج عام 2022 يحاول صانع الفيلم الأمريكي مات ولش أن يجد تعريفاً للمرأة، وهو ما لم يجد له إجابة عند أيٍ من ضيوفه .
وقد مرت الحركة النسوية في الغرب بأربع موجات؛ الموجة الأولى في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أعقاب الثورة الصناعية والحربين العالميتين الأولى والثانية التي دخلت فيها المرأة سوق العمل بقوة لتعويض النقص في الرجال، وكان التركيز فيها على المطالبة بحق التصويت، وحق التملك والذمة المالية المستقلة عن الرجل، والتعليم.
أما الموجة الثانية فكانت في منتصف القرن العشرين بعد اضطرابات فرنسا في عام 1968 وما أعقبها من ثورة جنسية يتزعمها الهيبيز، وعلت الأصوات المطالبة بالحرية الجنسية للجنسين، وحرية المرأة في الإجهاض ومساوتها في الأجور مع زملائها من الرجال.
بين تسعينيات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ظهرت موجة ثالثة تطالب بالنسوية الشبكية من خلال التواصل ونشر الأفكار النسوية على أوسع نطاق.
بينما بدأت الموجة الرابعة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية لحشد الجماهير التي يمكن أن تتبنى أفكارها.
وتتسم الحركة النسوية في الغرب بأنها انتقائية، فحق المرأة في التعليم المختلط في أفغانستان مثلاً تخرج له المظاهرات وتعقد له ندوات الإدانة، أما حقها في الرعاية الصحية المتدهورة في أفغانستان بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية فلا تحرك لها ساكناً يُذكر، وهو نفس ما تلاقيه المرأة الفلسطينية التي يُطلق عليها الرصاص وهي تحمل راية بيضاء لعبور شارع بحثاً عن ملجأ من القصف الإسرائيلي.
وكأن آلاف النساء العزل الذين استشهدن في فلسطين في نظر الحركة النسوية الغربية مجرد أرقام لا توجد ضرورة ملحة للتنديد بها.
وقد ترتب على الحركة النسوية في المجتمعات الغربية تراجع كبير في تكوين الأسرة، وانتشار غير مسبوق لظاهرة تجنب الرجال للزواج ومسؤولياته من خلال اكتفائه بإشباع رغباته الجنسية دون قيود أو التزامات، صاحبه تصاعد في ارتباط المرأة بالفقر من خلال تفشي ظاهرة الأم العزباء.
أما اقتصادياً فقد باتت أوروبا تعاني من ركود اقتصادي بسبب تراجع عدد الأيدي العاملة نتيجة لنقص المواليد جيلاً بعد جيل، مما أدى إلى انهيار تدريجي للهرم الديمغرافي السكاني، وارتفاع نسبة المسنين قياساً إلى عدد الشباب، مما شكل تهديداً مباشراً لأنظمة التقاعد والتأمين الصحي، بل لحركة السوق برمتها بسبب تراجع أعداد الزبائن.
ومع تحالف النسوية مع الرأسمالية التي تعزز من القيم الفردية، وتحض على ترك المرأة لدورها الأسري، كي تبقى خارج المنزل في المصانع والمكاتب، تلبية لأسعار الإنتاج الضخم وأرباح الشركات، باتت المرأة دائماً غير راضية عن شكلها، فهي مقارنة مع عارضات الأزياء بنحافتهن المتطرفة، تحتاج لأن تصب نفسها في قالب حديدي من الحمية الهستيرية، ثم بعد ذلك لابد من أن تضع طبقات من المساحيق التي لا تغلق مسام الجلد فقط بل وربما نوافذ الروح أيضاً.
على الصعيد النفسي لم يعد الأطفال في الغرب يجدون الأمان أو القدوة في ظل غياب الأب الذي اختُزِل دوره في حيوان منوي، أما الأم العزباء فتكابد وحدها مشاعر الاكتئاب في ظل غياب الأب المُغَيب طوعاً أو قسراً، ولا فرصة تذكر لأب بديل لطفلها، بعد أن باتت المرأة الغربية في كثير من الأحيان مجرد وسيلة لتفريغ رغبات الذكور.
كان يمكن للغرب تجنب كل هذه الآثار السلبية من خلال دعم تكوين الأسرة، إلا أن هذا الهدف بعيد المنال في ظل هذا الانفلات الجنسي الفاحش.
النسوية في العالم العربي
لا تستطيع النسويات العرب أن ينتقدن المثلية الجنسية، فالغرب بالنسبة لهن مرجعية مطلقة أشبه بأن تكون مقدسة.
صحيح أن هناك مظالماً مختلفةً تتعرض لها المرأة في العالم العربي، لكنها بوجه عام مظالم استبدادية يتعرض لها الجميع رجال ونساء، فلا مبرر لمعاداة الرجل كونه رجلاً، ولا مبرر لقهر المرأة كونها أنثى، ولا مبرر لتتبع حذو الغرب في مأساة الصراع المفتعلة بين الجنسين، فكلاهما في الإسلام مكملان لبعضهما البعض، والمرأة منذ صدر الإسلام محفوظة حقوقها الإنسانية والسياسية والمالية والتعليمية.
أما مظاهر اضطهاد المرأة المحدودة نسبياً في العالم العربي فسببها مناخ عام من فهم ذكوري أعوج للدين، جاري بالفعل تقويمه وتقويم مفاهيم أخرى دعوياً من خلال تصحيح فهم الرجال لمكانة المرأة الحقيقية في الإسلام، وفهم المرأة لدورها النبيل في صنع الإنسان.
وقد صدّقت دولة قطر في المرسوم رقم 28 لسنة 2009 على اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، حيث ركز الجزء الأول من الاتفاقية بمواده الأولى وحتى السادسة على عدم التمييز بين الجنسين ورفضه للإتجار بالجنس.
أما الجزء الثاني بمواده من السابعة إلى التاسعة فركز على حقوق المرأة في المجتمع بشكل عام، من خلال التركيز على الحياة السياسية.
وقد بيّن الجزء الثالث بمواده من العاشرة وحتى الحادية عشر حقوق المرأة الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في مجالات العمل والتعليم والصحة.
كما ركز الجزء الرابع بمادتيه الخامسة عشرة والسادسة عشرة على مساواة المرأة مع الرجل في حق الزواج والتقاضي.
وقد ركز الجزء الخامس بمواده من السابعة عشرة وحتى الثانية والعشرين على آليات إنشاء لجنة للقضاء على التمييز ضد المرأة والإبلاغ عنه.
أما الجزء الأخير بمواده من الثالثة والعشرين والثلاثين فوضح بعض الأمور الإدارية حول الاتفاقية وتأثيرها على الاتفاقيات الأخرى، وكيفية تطبيقها.
وفي حوار أجرته مجلة قول فصل مع د. أمل المالكي، العميد المؤسّس لكليّة العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر حول مفهوم تمكين المرأة قالت إن “التمكين كمصطلح يشير إلى توفير جميع الظروف التي تسمح للشخص امرأة كانت أم رجل الى تحقيق طموحاته المختلفة وقدراته في ظل منظومة تعطيه الحرية وتوفر له الأمان وتضمن كرامته الإنسانية، ويُنظر للتمكين عندما نتحدث عن المرأة من خلال المجالات الآتية، وهي مجالات متشابكة وتعتمد على بعضها بشكل تشابكي وتراكمي: التمكين الاجتماعي، التمكين القانوني، التمكين الاقتصادي والتمكين السياسي”.
ولكنها أضافت أن “التمكين أصبح من المصطلحات المطاطة التي تُستخدم في غير محلها، فقبل الكلام عن تمكين المرأة في أي مجال يجب علينا النظر بواقعية للظروف المحيطة بالمرأة، فمثلاً عندما تنتمي المرأة إلى طبقة اجتماعية ترى في عملها عيباً وخروجها من البيت منافياً لمبادئ متوارثة، فالحديث عن تمكين المرأة اقتصادياً هو حديث ناقص”.
فمن الجانب الاقتصادي ترى د. المالكي أنه “عندما تكون المرأة جزءاً من منظومة قانونية لا تضمن حقها في المساواة في الأجر أو الحماية بنص قانون خاص بها من التحرش في مكان العمل مثلاً، فالتمكين الاقتصادي يبدو لي مزحة، وإذا كانت المرأة تنتمي الى مجتمع لا يثق بقدرتها على اتخاذ قرارات تخصها كالدراسة والعمل والزواج والتنقل، فكيف لنا الحديث عن التمكين السياسي والذي يعني أن نضع المرأة في مكان تقرر فيه عن الغير؟ “.
وبسؤال د. المالكي عن مدى تحقيق المرأة لطموحتها على مستوى الخليج والعالم العربي، قالت “حققت المرأة الخليجية الكثير من طموحاتها بالتأكيد، إن كان على المستوى التعليمي أو الاقتصادي، فنرى المرأة الخليجية قد أثبتت قدراتها في المجالات المختلفة ووصلت الى درجات علمية وعملية عالية، أصبح عدد الفتيات والنساء اللاتي يتخرجن من الجامعات أعلى من عدد الرجال”.
أما من جهة العمل فترى أن “المرأة أصبحت شريكاً أساسياً في سوق العمل ليس من باب الرفاهية، بل أصبح دورها أساسياً في تغطية تكاليف المعيشة لعائلتها، فالمرأة الخليجية مقارنة بالمرأة العربية تنتمي لدول مستقرة سياسياً واقتصادياً فمن الطبيعي أن تحظى المرأة بكل التساهيل التي أسهمت في إظهار طاقاتها وقدراتها”
أما من حيث حقوق المرأة فترى د. المالكي أن “المرأة الخليجية كالمرأة العربية منقوصة الحقوق، فالمرأة في كثيرٍ من الدول العربية لا يراها القانون مساوية للرجل كمواطنة فينتقص من حقوقها، فالرجل ما زال يحظى بحقوق أكثر من المرأة، رغم أن معظم الدساتير العربية تنص على مساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات”.
ومن ضمن حقوق المرأة المنقوصة عربياً على حد قول د. الماكي أن “المرأة في معظم دولنا العربية لا تمرر جنسيتها إلى أولادها مثلاً، ولا تخصها القوانين بحقوق الحماية، فالكثير من الدول لا تملك قوانين تحمي المرأة من العنف داخل وخارج المنزل، وقوانين الأحوال الشخصية قوانين قديمة وبائدة ولا تجاري الزمن، ومشاركة المرأة السياسية في العالم العربي ما زالت من أقل نسب المشاركة في العالم”.
وحول المقصود بالمساواة بين الجنسين قالت د. المالكي أنها “المطالبَة بالعدالة الاجتماعية بالنظر للمرأة كإنسان أولاً، ومن ثم كمواطن لها جميع حقوق المواطنة التي يحظى بها الرجل، المرأة والرجل غير متساويين بيولوجياً بالتأكيد، ولكل مجتمع خصوصيته، وكل أسرة لها أولوياتها، وللمرأة الحق في أن تلتزم بهذه الخصوصيات والأولويات إن أرادت ولا يعيبها ذلك”.
وتضيف د. الماكي أن “المرأة كمواطنة يجب أن يكون لها الحق في التمثيل السياسي والاقتصادي والاجتماعي كالرجل، ويجب أن يكون لها الحق في المطالبة بتفعيل الدستور الذي ينص على مساواتها بالرجل في كافة مجالات الحياة، وأؤكد أن المطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل لا تضعف الدول ولا تؤثر على التماسك الأسري، بل العكس المساواة تؤدي إلى تقوية الاقتصاد الوطني وتقوية العلاقات الأسرية لأنها ستكون مبنية على المحبة والاحترام والعدالة”.
النسوية الإسلامية
يرى بعض المسلمين والمسلمات أن هناك إمكانية للتوفيق بين الفكر النسوي والفكر الإسلامي، من خلال المطالبة بإعادة تفسير النص الديني، ورفض أي تمييز بين الذكر والأنثى، الأمر الذي يراه البعض حصان طروادة لضرب الإسلام من داخله.
يتساءل البعض، هل يمكن للنسويات المسلمات أن يطالبن النساء بإعفاء الرجال من المهور وتكاليف الزواج والإنفاق عليهن؟ أم أن المرأة في نظرهن قائمة حقوق دون واجبات؟ وهل يمكن في تصورهن أن يُبنى مجتمع قائم على ترويض الرجل من خلال الصراع معه؟ في المقابل هل تأنيث المجتمع أقل خطورة على المجتمع من التسلط الذكوري؟ وكيف يمكن لأطفال يعيشون في أسر متصارعة أن يكونوا أسوياء؟
الصراع بين النسوية ودور المرأة الأسري
بانهيار منظومة الأسرة كرد فعل على الأفكار الرأسمالية وما تبعها من حركات نسوية يتحرر الرجل من مسؤوليات الدين والمجتمع، ويبقى العبء كاملاً على كاهل المرأة، التي تعمل خارج البيت وتربي أطفالها دون دور للرجل.
البديل الآخر لهذا العنت أن يتراجع الإنجاب بمعدلات كبيرة تهدد بشكل مباشر الهرم الديموغرافي، وهو ما يؤدي خلال بضعة سنوات إلى انهيار منظومات التأمين الصحي ومعاشات التقاعد، وترتفع معه معدلات الكساد. فيصبح خيار الحرب خيارا اقتصاديا مريرا، يتبناه السياسيون لتحريك عجلة الاقتصاد، كأنه حرق للزرع من أجل زراعة محصول جديد.
فهل هذه الدورة من الحروب التي تتخللها مؤقتاً فترات من السلم الزائف تعتبر حلاً إنسانياً للوجود البشري؟