spot_imgspot_img
بيتالمرأةصمود النساء في المعارك والحروب

صمود النساء في المعارك والحروب

في كتابها الفتاة التي ابتسمت بالخرز: قصة الحرب وما بعدها (2018)، كتبت كليمانتين واماريا اللاجئة التي نجت بنفسها “تلك هي الحياة في مخيم اللاجئين، ساكنة لا تتحرك نحو أي شيء، أنت عالق في وضع مروع، تتعلم مهارات تتمنى لو لم تعرفها أبداً؛ كيفية إشعال النار، كيفية طهي الذرة، كيفية غسل الملابس في النهر وحرق القمل على الصخور، تنتظر، آملاً أن تجلب الشاحنات شيئاً آخر غير الذرة والفاصوليا”.

أشار تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن النساء والأطفال يشكلون 70٪ من إجمالي عدد اللاجئين حول العالم، حيث تشهد مخيمات اللجوء تعرض كثير من النساء للاستغلال، بما في ذلك الجنس مقابل الطعام.

وتشير منظمة أوكسفام الدولية إلى أن النساء في مناطق النزاع يفقدن 50٪ من مصادر الدخل، بسبب التهجير والحروب، مما يجعل من الصعب عليهن إعالة أسرهن.

كما تقول منظمة نساء من أجل النساء الدولية إن البلدان ذات النزاعات تتسرب بها 39 مليون فتاة خارج التعليم، مما يجعلهن عرضة للزواج القسري في سن صغيرة والاتجار بالبشر.

وعلى الرغم من وجود العديد من القوانين والاتفاقيات الدولية لضمان سلامة النساء وحقوقهن في مناطق النزاع، مثل اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب في عام 1949.

إضافة إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1979، وقرار مجلس الأمن رقم 1325 في عام 2000، ، إلا أن الفظائع التي تمر بها هذه الفئة من المجتمع لا يمكن تخيلها.

ووفقاً للمثل الأفريقي القائل على حد تعبيره “يتطلب الأمر قرية بأكملها لتربية طفل، ولكن حرب واحدة فقط كافية لتدمير كل شيء”.

في الوقت الراهن تعاني دول عديدة مثل؛ السودان والعراق وسوريا وفلسطين وأوغندا، إضافة إلى مناطق أخرى من نزاعات أو أوضاع شبيهة بالحرب.

وبينما تدعي العديد من الهيئات الدولية أنها تعمل على حل النزاعات، فإن معاناة الأطفال والفتيات والنساء وكبار السن تبقى غالباً غير مرئية.

شاهدنا عبر الإنترنت العديد من سرديات الحروب المأساوية، وكيف أنها دمرت عائلات بأكملها، من خلال عمليات إبادة جماعية منظمة، تاركة الناس يموتون دون رحمة، أو مغيث.

قمتُ مؤخراً بإجراء عدة مقابلات مع لاجئات من فلسطين وسوريا والسودان، من أجل تسليط الضوء على قصصهن، وقد تم تغيير أسمائهن لحماية هوياتهن.

نساء من غزة

تقول د.مريم المقيمة في قطر منذ أكثر من عام “النساء لا يتحملن فقط مشاق الإنجاب، بل يقدمن الرعاية في جميع أدوارهن كأمهات وشقيقات وزوجات، إضافة إلى قيمتهن في ذواتهن كبشر، ومن المؤسف أن لا يصل إلا القليل جداً من وجهات نظرهن، وأن يُبذَل القليل لفهم آرائهن عندما يكنّ عالقات في أوضاع تشبه الحروب”.

تُمضي د. مريم ببنيتها المتوسطة كثيراً من وقتها في مكتبة قطر الوطنية، لكن عينيها وابتسامتها تكشفان عن شخصية مقاومة، وبما أن اللغة العربية هي لغتها الأم، فإن الترجمة إلى الإنجليزية تمثل تحدياً لها، ومع ذلك، تقول: “ليس من ثقافتنا أن نتحدث بصوت عالٍ، ولكن اليوم أشعر بالامتنان، لأنني أستطيع مشاركة ما رأيته خلال الحرب التي شنتها إسرائيل”.

بالنسبة لمن لا يعرف، فإن الصراع بين إسرائيل وفلسطين ليس جديداً، بل يعود إلى ما قبل حرب 1948 عندما دخل عدد من اليهود إلى فلسطين كلاجئين، ثم استولوا بمساعدة الانتداب البريطاني على بعض المناطق المحدودة من البلاد.

يروي الفيلم الدرامي التاريخي فرحة على نتفلكس، من إخراج المخرجة الأردنية دارين سلام، الذي شارك في المنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، لعام 2023، قصة فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 14 عاماً، وخبأها والدها خلال أحداث حرب 1984 في مخزن ملحق بالمنزل خوفاً عليها من هجوم شنته عصابة صهينية، لتشهد من خلال شق في باب المخزن أفراد منهم وهم يعدمون عائلتها بأكملها رمياً بالرصاص، بما في ذلك رضيع وطفلين صغيران.

مقطع من فيلم فرحة

شهدت نكبة فلسطين عام 1948 تطهيراً عرقياً وتشريداً لأكثر من 700 ألف فلسطيني على أيدي ميليشيات صهيونية مثل أرجون وشتيرن.

وفي 9 أبريل من نفس العام، ارتكبت القوات الصهيونية واحدة من أشهر جرائمها بقتل أكثر من 110 من الرجال والنساء والأطفال في قرية دير ياسين على مشارف القدس.

ووفقاً لمقال بعنوان غزة 2024: عام الحرب والبؤس على موقع الجزيرة الإنجليزية، بلغ عدد القتلى من الفلسطينيين الذين رصدتهم وزارة الصحة الفلسطينية بشكل رسمي 46,376، وذلك منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى نهاية 2024.

ويشير تقرير للأمم المتحدة صدر في يوليو 2024 إلى أن 9 من كل 10 غزيين هُجِّروا لمرة واحدة على الأقل. 

ومن ضمن آليات الإبادة لالجماعية التي تعرض لها الفلسطينيون، نجد ما ورد في تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش مؤلف من 179 صفحة الذي يتهم إسرائيل بعرقلة الحصول على الماء. 

حيث جاء فيه أنه “منذ أكتوبر 2023، تعمدت السلطات الإسرائيلية عرقلة وصول الفلسطينيين إلى الكمية الكافية من المياه اللازمة للبقاء على قيد الحياة في قطاع غزة”.

تقول د. مريم عن هذه الأزمة إن “نقص المياه هو حكم بالإعدام على النساء”، ورغم هذا تبقى قصص النساء الفلسطينيات، بصمودهن وسط الاضطرابات التي لا تنتهي غير مروية إلى حد كبير.

بعيداً عن ساحة المعركة، تقع هؤلاء النساء ضحايا للإهمال الممنهج، عالقات في شبكة من الحرمان والخوف والخسارة، وبينما ظلت د. مريم مستمرة في عملها كطبيبة، لإنقاذ الأرواح في مستشفى خاص بعيداً عن عائلتها، تلقت ذات ليلة اتصالاً من شقيقتها التي أخبرتها قائلة إن منزلهم قد قُصف وباتت عائلتهم في المستشفى، لم تخبرها بالتفاصيل، لكنها علمت أن شيئاً مروعاً قد حدث.

رغم نصيحة زملائها بعدم المغامرة، تحدت د. مريم الطرق الخطرة التي كانت تحت مراقبة الطائرات بشكل مستمر للوصول إلى المستشفى حيث تم إدخال عائلتها، ثم أضافت أنه “عندما وصلت، علمت أن والدي قد قُتل، وأن شقيقاتي وإحدى أطفالهما أصيبوا بجروح خطيرة، كان علي أن أبقى قوية من أجلهم، لكن الأمر لم يكن محتملاً”.

قضت عائلة د. مريم أكثر من شهر في المستشفى، ومع تدمير منزلهم، لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه، ثم قالت بصوت أثقله الحزن إن “إحدى شقيقاتي كانت تعاني من كسور متعددة وخضعت لجراحة، وما زالت غير قادرة على المشي، عشنا في المستشفى، محاطين بالمصابين والمكلومين”.

في النهاية تم تحويل شقيقتها التي أصيبت بأضرار عصبية لإجراء جراحة في مصر، ثم إلى مركز حمد الطبي في قطر، ولكن بحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى المستشفى، كان الأوان قد فات، فعل حد قولها “باتت الأضرار العصبية دائمة، وبعد شهور من الانتظار والانتقال من مكان إلى آخر تُركت بلا أمل في التعافي”.

إجترار الآلام

الحرب غيرت الكثير، كما يتضح من روايات هؤلاء النسوة اللواتي يعشن حالياً كلاجئات في قطر في مجمع الثمامة.

الرابط المشترك بينهن هو غزة والصراع الذي أجبرهن على مغادرة وطنهن، مما أضاف للأسف كلمة “كانت” أمام مسميات وظائفهن.

تقول أمل التي نجت من إصابة في الساق والرأس: “عندما كنت صغيرة، كنت أحلم بالسفر حول العالم، ولكن الآن، وأنا بعيدة عن وطني، أدرك أن أرضي هي الجنة”.

جالسة في غرف الدراسة العازلة للصوت بمكتبة قطر الوطنية في الدوحة، كانت أمل أول من استمعت لقصتها، وجدت أمامي امرأة مرحة تمتلك إمكانيات كبيرة، على الرغم من أن فكها قد تعرض لتشوه كبير، بسبب الإصابة، إلا أن صمودها وقوتها لم يتزعزعا.

عاشت أمل مع أقاربها في الطابق الحادي عشر من مبنى في دير البلح، لكنه قُصف في 5 ديسمبر 2023، وفي ليلة واحدة، تحول إلى أنقاض، مما أجبرهم على رحلة مؤلمة للبقاء على قيد الحياة. 

كانت أمل المصابة والعاجزة تعتمد على ابنة عمها نهى لحملها بأمان إلى مستشفى الشفاء.

لم يمض وقت طويل على وصولهما حتى حاصرت القوات الإسرائيلية المستشفى بعد أسبوعين، مصممة على تدمير الموارد الحيوية في خرق صريح للقوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة آنفة الذكر.

كان المصابون من الرجال والنساء مجبرين مرة أخرى على البحث عن أماكن للاختباء.

في لحظة ضعف، طلبت أمل من ابنة عمها تركها لتواجه مصيرها وحدها، لكن نهى رفضت ووجدت في النهاية كرسياً متحركاً لمساعدتها على الهرب.

تقول أمل: “كان يتم فحص كل شخص، وتصويره، وأحياناً يعتقل البعض.

لم يهم إن كانوا نساءً أو رجالاً أو أطفالاً، لتضيف بصوت منكسر “شعرت وكأنهم يقبضون الأرواح وكأننا لسنا بشراً”.

يقال إن تحريك موجات في الماء لا يتطلب سوى إلقاء حجر واحد، فبعد أن استمعت لقصة أمل، بدأت د. مريم بمشاركة تجربتها كطبيبة تعمل مع ضحايا منطقة نزاع مسلح، ولتواجه في الوقت نفسه معضلات يومية كإنسانة، بينما تضطر للامتناع عن علاج النساء المصابات أو الحوامل بسبب نفاد الأدوية.

وتضيف أن “النساء الحوامل، اللواتي غالباً يعانين من سوء التغذية، بسبب نقص الطعام والمياه النظيفة، كن يلدن أطفالاً يعانون من نقص النمو في ظل ظروف غير ملائمة”.

وتروي أنه “ذات مرة ولدت امرأة طفلاً، بينما كانت القنابل تتساقط من السماء، مما تسبب في صدمة نفسية أدت إلى انسداد رحمها، ولم تعد قادرة على الإنجاب”.

ثم تقول بهدوء حازم إن “هؤلاء النساء لديهن عدد كبير من الحوادث التي قد تبدو غير قابلة لتصديق القارئ”. 

وتضيف أن السعة المحدودة للمستشفى أجبرت الأطباء على تسريح الحوامل بعد ساعات فقط من الولادة، حيث لم تكن هناك أَسِرَّة متاحة للحالات القادمة.

ثم تقول كانت النساء ترى معاناة أطفالهن، واضطراب أزواجهن، وأكثر من ذلك بكثير، ومع ذلك، لم يكن أمامهن سوى أن يلذن بالصمت الذي تفرضه التقاليد.

ثم تسترسل قائلة إن “هؤلاء النساء يعانين عاطفياً، وعقلياً، وجسدياً، وأحياناً ينتهي بهن الأمر بأن يصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن”.

وقد أجمعن على قطع الكهرباء والمياه منذ اليوم الأول للحرب، ولم يكن هناك إنترنت.

أما آمنة، وهي امرأة ذات أكتاف عريضة وبشرة فاتحة وملامح حادة تضفي على ابتسامتها جمالًا خاصاً، وحائزة على شهادة بكالوريوس في علوم الحاسوب، إضافة إلى أنها رائدة أعمال وأم لأربعة أطفال، فتصف ما تعرضت له من أهوال أثناء الحرب.

تصف آمنة ما واجهته خلال الحرب الأخيرة على غزة بقولها إنه “منذ عام 2002، عندما كنت في الثانية والعشرين من عمري، مررنا بالعديد من الحروب، وفي كل مرة، تمكنا من النجاة، لكن هذه الحرب كانت الأصعب، لقد فقدنا كل شيء؛ أقاربي، منزلي، وحتى أحلامي”.

تتابع حديثها قائلة “كنت واحدة من سيدات الأعمال الفلسطينيات، أملك شركة تدريب واستشارات، وأدير مطعماً له عدد كبير من المتابعين على إنستغرام، ومع ذلك، بسبب هذه الحرب، فقدت كل شيء، حتى ملابسي وسيارتي، لأغادر في النهاية غزة مع زوجي وأطفالي مرتدية الملابس التي كنت علي فقط، وتركت كل شيء آخر ورائي”.

أتفق النساء الثلاث على أن الطاقة الشمسية كانت مصدراً مثالياً لتلبية احتياجات المنازل من الكهرباء، بينما ظل الآخرون يعانون.

أما لتوفير احتياجات السكان من الماء، فقد أصبحت هناك صعوبة في الحصول عليها نظيفة، لدرجة أن سعر 4 لترات بلغ ما يعادل دولاراً أمريكياً كاملاً، وهو مبلغ مكلف للغاية”.

تتابع د. مريم كلامها بالقول إن “النساء غالباً كن يعانين من انخفاض ضغط الدم وفقره، وبعد الولادة، يصاب بعضهن بتعفن الدم، حيث لم تكن هناك فوط صحية أو مضادات حيوية. 

لم نستطع إبقائهن لفترة طويلة، إذ كانت لدينا 10 أَسِرَّة فقط، وكان الدم يغطي الأرض، ولم تستطع عاملة النظافة تنظيف كل شيء باستمرار، لذلك طلبنا منهن المغادرة، فلم تكن لدينا أَسِرَّة معقمة”.

ماذا تفعل الحرب بالنساء الحوامل؟

 استمر نزوح سكان شمال غزة نحو جنوب القطاع، وتحولت مباني جامعة الأقصى إلى مأوى لهم، لكنها كانت تفتقر إلى أي مرافق أساسية. عاش الآلاف في الخيام وافترشوا الأرض، كم تم حفر مراحض بدائية، مما أدى إلى تدهور مستوى النظافة وتعريض النساء لمخاطر صحية.

أما بالنسبة للنساء الحوامل والأمهات الجدد، فقد كانت الظروف مدمرة للغاية، تسرد د. مريم حادثة مروعة عن شابة تبلغ من العمر بالكاد 20 عاماً، فرت من منزلها في شمال غزة مع زوجها بحثاً عن مأوى في الجنوب، هذه الشابة، التي كانت حاملاً بطفلها الأول، واجهت كابوساً سيظل يطاردها إلى الأبد.

وبدون أي إمكانية للوصول إلى أقاربها أو للرعاية الصحية، عانت من آلام شديدة لم تدرك في البداية أنها تقلصات ولادة، وظنت أن الألم ناتج عن إمساك، فتوجهت إلى مرحاض بدائي، وبعد قضاء حاجتها، بدأت تعاني من نزيف حاد، دون أن تدرك ما كان يحدث لجسدها. 

زوجها، الذي لم يكن يستوعب خطورة حالتها، تمكن بصعوبة من تأمين وسيلة نقل إلى المستشفى في وقت متأخر من الليل، متحدياً الطرق التي كانت تحت مراقبة المسيرات الإسرائيلية التي تستهدف أي حركة بشكل عشوائي.

بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى المستشفى، كان الأوان قد فات، ليكشف فحص بالموجات فوق الصوتية اللثام عن الحقيقة المأساوية “لم تعد حاملًا، ولا وجود لجنين في رحمها”. 

اكتشف طاقم المستشفى بقايا الطفل في الحفرة غير الصحية التي قضت فيها حاجتها قبل لحظات.

تركت الصدمة الأم الشابة في حالة ذهول، وكان حزنها يتضاعف، بسبب عزلتها لعدم وجود عائلتها بجانبها، إلى جانب عدم القدرة العاطفية لزوجها الشاب على التعامل مع الصدمة.

في الملاجئ المكتظة، تشترك آلاف العائلات النازحة في مساحات ضيقة مع محدودية الوصول إلى المرافق الأساسية أو عدمها.

أما المستشفيات فكانت تكافح في مناطق النزاع لإنقاذ حياة الأمهات والأطفال، وغالباً ما تكون وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة مكتظة، مما يجبر الأطباء على اتخاذ قرارات مؤلمة بشأن تحديد أولئك الأطفال الذين لديهم أفضل الفرص للبقاء على قيد الحياة”.

تقول د.مريم “قبل الحرب، كنا نحاول إنقاذ الأطفال الخدج والعناية بهم في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، لكن خلال الحرب، يمكننا فقط إنقاذ أولئك الذين لديهم أكبر فرصة للبقاء على قيد الحياة، أما الآخرون فنفقدهم”.

بينما كانت الأوضاع خارج المستشفيات ليست أفضل حالاً، فالعائلات التي فرت من منازلها دون أي شيء سوى الملابس التي عليها، تعيش في ملاجئ مؤقتة دون كهرباء أو تبريد، مما يجعل الطعام يفسد سريعاً، وهو ما يجبرهم على الاعتماد على المعلبات التي تؤدي إلى نقص التغذية وفقر الدم ومشاكل الجهاز الهضمي.

تختم د. مريم حديثها بقولها “غادرت منزلي مرتدية فقط الملابس التي كنت أرتديها، كنت أملك عيادة خاصة، وسيارة، وحياة مريحة، أما الآن، فلا أستطيع حتى تحمل شراء الطعام لعائلتي، ناهيك عن الملابس أو الأدوية”.

نور ورحلتها من سوريا

حوادث الحروب ليست مقتصرة على فلسطين، فنور التي تنحدر من سوريا، استيقظت على هزيمة الأسد في ديسمبر 2024 وما زالت تحاول الوقوف على قدميها. 

نور، امرأة طويلة ونحيلة، تعمل ككاتبة ومترجمة، وتنتمي إلى عائلة مكونة من أربعة إخوة وثلاث شقيقات، تُعرف نور باستخدامها السخرية والنكات كوسيلة للتعامل مع الضغوط.

بينما تمكن والداها من إرسال معظم أبنائهما إلى دول مختلفة، بقيت هي وآخرون عالقين في عالم مزقته الحرب، ينتظر مستقبلاً قاتماً. 

تجلس في راحة منزلها في قطر، وتشعر بالذنب لأنها نجت وتقول “عندما بدأت الحرب في سوريا، شعرت وكأن الأرض ترتج من تحت أقدامنا بشكل دائم، وكان عدم اليقين يخنقنا، لأتذكر بداية الحرب، كم كان الصراع بعيداً عنا في بدايته، لكنها ضربتنا بسرعة، وفجأة، أصبحت أنا وعائلتي محاصرين في منزلنا، غير متأكدين مما إذا كان هناك أي مكان آمن”.

كانت واحدة من أصعب اللحظات التي مرت بها فقدان ابن عمها وعمها بسبب الحرب، تقول “مات ابن عمي الذي كان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية جوعاً، ما زلت أتذكر مكالمته الأخيرة التي أخبرني فيها أنهم كانوا يبحثون عن أوراق الشجر لأكلها، أما عمي، وهو رجل مسالم، فقد قُتل برصاصة في الرأس، وترك خلفه ثلاثة أطفال، في مثل هذه الظروف، لا يهم مدى لطفك أو طيبتك، فلا أحد في مأمن”.

تحولت أولوياتها كأم بالكامل نحو أطفالها، وأصبحت النظافة الأساسية تحدياً كبيراً، بسبب نقص المياه، لذلك كانت تحلق رؤوس أطفالها لمنع انتشار القمل، لأن الاستحمام كان شبه مستحيل.

تقول “كنت استخدم قطعة قماش مبللة بالصابون لتنظيفهم، ولكن شعرهم، كان لا بد من أن يُقص”.

كانت تجربة الحمل والولادة في هذه الظروف مرعبة، ووُلد طفلاها بعمليات قيصرية خلال الحرب، حيث لم يكن لدى المستشفى حتى الإمدادات الأساسية مثل المناديل الورقية.

تقول “طلبوا مني استخدام غطاء سريري بدلاً منها، وبالنسبة للعديد من النساء، كان نقص الأساسيات مثل الفوط الصحية، والحفاضات، وحتى الطعام المناسب يجعل هذه التجارب لا تُحتمل، لقد كن يغسلن الملابس القديمة لإعادة استخدامها، وغالباً ما يعانين من التهابات أو مما هو أسوأ”.

ثم جاء الزلزال في فبراير 2022، الذي أضاف طبقة جديدة من الدمار، تقول “لن أنسى أبداً تلك الليلة التي كان كل شيء فيها يهتز بعنف، كنا نقفز من السلالم المنهارة حفاة الأقدام تحت مطر قارس البرودة، أما أختي التي لم تكن متزوجة وليس لديها أطفال، فقد أصرت على المخاطرة، وعادت لاسترجاع أوراقنا الثبوتية”.

بعد الزلزال، عاشت نور وعائلتها هائمين على وجوههم، يتنقولون بين ملجأ وآخر، وفي بعض الأحيان كان يتم حشرهم مع 16 شخصاً في غرفة واحدة، تقول “أصبحت الخصوصية مفهوماً منسياً، وغطى البقاء على قيد الحياة على كل شيء آخر”.

“أتذكر النوم على أحد الجانبين على صناديق كرتونية بجوار غرباء، فإذا قمت لتستخدم الحمام، لن تجد مكاناً تعود إليه للنوم”.

لم تدمر الحرب المنازل والمدن فقط، بل مزقت العائلات، كثيرون منتشرون في جميع أنحاء العالم، هاربون بحثاً عن الأمان، ثم تضيف قائلة “إخوتي غادروا سوريا لتجنب الخدمة العسكرية، وقد مضى أكثر من عقد على رحيلهم، أما جوازات السفر التي كنا بحاجة إليها للهروب، فقد تطلبت رشوة بالكاد استطعنا تحملها، وحتى بعد تأمينها، بقيت التأشيرات مستحيلة، فالسوريون لم يكن مرحباً بهم في كل مكان تقريباً”.

التكيف مع الحياة في مناطق النزاع يغير الناس بطرق يصعب وصفها، والندوب التي تتركها المعارك النفسية غالباً ما تفوق الجروح الجسدية، تقول نور “تعلمت أن المعاناة لها لغة عالمية، الجميع لديه نصيبه منها، لكن كيف نتعامل مع هذا النصيب، هذا هو ما يحددنا”.

تكمل حديثها قائلة: “في سوريا، كانت الحياة تدور حول الاكتفاء بما لدينا، كان الطعام نادراً، لكنه أصبح طقساً، ومصدراً للراحة وسط الفوضى، فكل خميس، كنت أستضيف الأصدقاء والعائلة، وهو تقليد أفتقده بشدة الآن”، ونظراً لأنها نادراً ما تتحدث مع أهلها في الوطن، فإنها تتجنب الحديث عن الطعام ووسائل البقاء الأخرى. 

ثم تبرر ذلك بقولها “الإجابات مؤلمة جداً، فهم يعيشون بدون لحم، معتمدين على ما يمكن تناوله في نفس اليوم نظراً لعدم وجود ثلاجات، وأحياناً يعيشون على اللبنة أو لا شيء على الإطلاق، هذا الضغط العاطفي لسماع هذه القصص، مع معرفتي أنني لا أستطيع تغييرها، أمر مرهق نفسياً”.

ومع ذلك، تؤمن بقوة النساء، وتقول: “نصمد من أجل أطفالنا، ومن أجل أمل في مستقبل أفضل”.

ثم أظهرت لي رسالة من أختها تُظهر موقد كيروسين عليه إناء لتحضير الشاي، وبتعبيرها الساخر المعتاد، كتبت نور رداً: “مرحباً بكم في العصر الحجري”.

تعتقد نور أن الطعام ليس مجرد وسيلة للبقاء، بل هو وسيلة تواصل، ولإظهار الحب عندما تخفق الكلمات.

حتى الآن، في بلد جديد، تجد الراحة في الطعام، تقول “جربت أطباقاً من ثقافات شتىك مثل الكسكسي والأرز البخاري والكباب الهندي، وبينما بعض النكهات تذكرني بالوطن، إلا أن أخرى لا تلقى صدى، ولكن مع ذلك، يبقى الطعام جسراً، ووسيلة لبناء الروابط في عالم غير مألوف، لكنه مع ذلك يجعلني أشعر بالذنب”.

يمكن رؤية الأثر العاطفي للنزاع على وجهها، ففي كثير من الأحيان، عندما تتذكر سنواتها الماضية، تمتلئ عيناها بالدموع، لكنها تبتسم قائلة “لطالما استخدمت الفكاهة كوسيلة للتغلب على الألم، ولكن هناك تبقى ذكريات مؤلمة جداً لا يمكن المزاح بشأنها، لقد علمتني الحرب الصمود، إلا أنها تركت فراغاً، وخلفت أصدقاء وعائلات مبعثرة، واتصالات قُطعت بسبب الفوضى”.

التكيف مع الحياة الجديدة

تقول نور: “عندما جئت إلى قطر، شعرت بصدمة ثقافية حتى في أبسط الأشياء، رؤية حديقة مجانية أثارت دهشتي، فلسنوات، كان مفهوم المشي في الخارج دون خوف غير متصور، وحتى الآن، أكافح للسماح لأطفالي بالابتعاد عني أكثر من مترين، صدمة الحرب تعيد تشكيلك، وتجعل حتى الأمان يبدو كأنه وهم هش”.

تعاني نور من اضطراب ما بعد الصدمة وتقول: “حتى عندما أشعر برغبة في الصراخ بسبب الظلم كله، أوجه ذلك الغضب وأحوله إلى حب، من خلال تعليم أطفالي قيمة ما لديهم، وأحاول حمايتهم من مرارة تاريخنا الذي عايشناه معاً”.

تسترسل لتقول “تشعر بالأنانية لأنك هربت من المعاناة، ولأنك قادر على توفير احتياجات أطفالك، بينما ابنة أختك في الوطن تستخدم حفاظات مصنوعة من خرقة قماش، أو قريبك الذي لا يستطيع شراء حليب لرضيعه”.

قد تكون سوريا أخذت الكثير منها، لكنها تعلمت أيضاً الصمود، تشعر نور بأنه طالما يمكنها مشاركة قصتها، فستستمر في تكريم تضحيات أولئك الذين بقوا، آملة في يوم لا تضطر فيه أي امرأة إلى تحمل هذا العبء بمفردها.

غادرت أمل وأطفالها إلى قطر كجزء من إخلاء طبي، مما منحهم فرصة جديدة للحياة بعد أن فقدوا كل شيء، لكن على الرغم من ذلك، تقول “لا أشعر بالراحة بسبب الفقدان الهائل والجوع والبرد والخوف الذي عانيناه والذي مازال يعانيه شعبنا، أدرك أنني بحاجة إلى دعم نفسي للتعامل مع هذه الصدمة الهائلة”.

أما آمنة، فقد أكمل ابنها البكر تعليمه المدرسي ويحلم بالالتحاق بالجامعة، لكنها غير قادرة على تحمل تكاليف تعليمه بسبب وضعهم المالي، وتقول: “لا أعرف كيف أبدأ من جديد، لكنني أشكر الله كل يوم لأننا مازلنا على قيد الحياة، وأنا ممتنة لقطر على منحها إيانا فرصة جديدة للبدء من جديد”.

ثم قالت بنبرة تحد “نحن معتادون على الحروب، لذلك في اليوم الأول، وضعت جميع الوثائق المهمة في حقيبة احتفظنا بها دائماً معنا، بالإضافة إلى ذلك، أقوم بانتظام بتحميل مستنداتي على حافظة غوغل السحابية، ولدي نسخ إلكترونية منها جميعاً”.

وتضيف آمنة أن المساعدات الإغاثية في غزة لا تصل بالضرورة إلى الجميع: “فقط إذا كنت تعرف الموزع شخصياً، ستحصل على المساعدة”.

وهي اليوم تأمل في دعم أفراد عائلتها المتبقين في غزة، من خلال توفير خيمة لهم أو استئجار منزل في خان يونس أو دير البلح بسبب صعوبة العثور على خيمة، كما تتمنى أن تنتهي الحرب إلى الأبد.

تقول د. مريم، وعيناها تلمعان بالدموع: “أشتاق إلى وطني، إلى الحياة التي كنت أعيشها قبل كل هذا، ولكن في الوقت الحالي، كل ما يمكنني فعله هو الأمل، الأمل بأن تكون عائلتي على قيد الحياة، الأمل بأن ينتهي هذا الكابوس، والأمل بأن العالم لن ينسى أمرنا”.

كلماتهن، الخام والمؤثرة، تذكرنا بالوجوه البشرية خلف الإحصائيات، فوسط الحرب، يجب سماع هذه القصص عن الشجاعة والصمود.

لا يمكن للعالم أن يستمر في غض الطرف عن محنة هؤلاء النساء، ومعالجة احتياجاتهن، وضمان الوصول إلى النظافة، والتغذية، والرعاية الطبية الآمنة، ويجب أن تكون في صميم أي استجابة إنسانية، هنا فقط يمكننا أن نأمل في منحهن فرصة ليس فقط للبقاء، ولكن للشفاء وإعادة بناء حياتهن.

بعيدًا عن الدمار المادي، تتحدث د. مريم عن الصدمة العابرة للأجيال التي ستطارد غزة لفترة طويلة بعد توقف انهمار القنابل، وتقول “هذه الحرب لا تدمر المنازل والأرواح فقط، إنها تدمر المستقبل”.

النساء، حاملات الحياة، لا يتحملن فقط المعاناة الجسدية، ولكن أيضاً صدمة رؤية عائلاتهن تتمزق، وتضيف “الأرحام التي يُفترض أنها تجلب حياة جديدة، تحمل ذكريات الحرب، هذه ذكريات عابرة للأجيال ستظل عالقة في الحمض النووي لأطفالنا”.

جميع هؤلاء النساء لديهن سؤال مشترك، وهو”حتى لو أعدنا بناء منازلنا، كيف سنعيد بناء قلوبنا؟ كيف نشفى من جروح عميقة وغير مرئية؟ الحروب أخذت منا كل شيء، أحبائنا، ومنازلنا، وكرامتنا”.

مع ذلك، لم تهتز آمالهن، إذ يبرز تصميمهن من خلال الألم، ورغم هذه التحديات، يظللن مفعمات بالأمل، ويبقين صابرات، ينتظرن تغيير النظام، لتقديم التصاريح التي يحتجنها للعمل ودعم عائلاتهن.

النساء يربين المستقبل بحب، وحكمة، وقوة، مما يضمن أن تنهض المجتمعات مرة أخرى.

Shaista Fatima
Shaista Fatima
An ardent reader, writer, poet and a theater enthusiast, she is a student of life and for life. She has a masters degree in mass communication from AJKMCRC, JMI, India and her nom-de-plume is Bhoomi. On balmy days and otherwise too she can be found at the library trying to travel via the vicinity of books. Her go to beats are women, children issues, book reviews, film reviews, travel, food and so on. She is currently learning the ropes of law and expanding her writing circle. Follow her on insta magma_boulevard for her poems and more!
مقالات ذات صلة

2 تعليقات

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية