أدَّى “طوفان” العولمة الوافدة بقيمها الدخيلة المفسدة الذي ضرب المجتمعات العربية -ناهيك عن التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية- إلى تصعيد لا تخطؤه العين الكليلة لأزمة التربية، نتجت عنه انحرافات سلوكية ومظاهر غير مسبوقة من التفكك الأسري، بل وخلخلة مزلزلة للنظام الاجتماعي برمته.
ومهما حاولنا أن نغض الطرف عن هذه التحديات، إلا أنه لا مفر من مواجهتها إن كنا حقا جادين في تربية الأجيال الناشئة تربية سويَّة.
العلاقة بين التربية والتعليم
التربية مفهوم يولي اهتماماً بمنظومة القيم والأخلاق وبناء الضمير، أما التعليم فينصب تركيزه على المعارف والمعلومات المجردة، ولا يمكن أن يكونا بمعزل عن بعضهما البعض في مرحلة الطفولة.
تُشرِف وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في دولة قطر على المنظومة التعليمية في الدولة، على أن يكون متسقاً “مع رؤيتها الوطنية لعام 2030، بهدف “تمكين المجتمع القطري من تحقيق التنمية المستدامة” وبالفعل “تستثمر الدولة في قطاع التعليم استثمارات واعدة، حيث يستحوذ القطاع على أكثر من 22 مليار ريال من موازنة سنة 2020، أي ما يعادل 10.5% من إجمالي الميزانية”، وبما يحقق “أجود المعايير” على أن “تتوافق مع القيم والثقافة القطرية”، حيث “يُقسم السلم التعليمي في قطر إلى مرحلتين، المرحلة الاولى تبدأ من الروضة حتى المستوى الثاني عشر، ثم مرحلة التعليم العالي”.
أمثلة من التشريعات العربية حول التربية والتعليم
كل دولة لديها نظام قانوني مستقل يحكم مجالي التربية والتعليم، وتختلف القوانين والتشريعات من دولة إلى أخرى، وتعتمد على الثقافة والقيم والمعايير التعليمية في كل دولة، وتتضمن قوانين التعليم عادة المعايير الأساسية للتعليم الإلزامي والتعليم العالي، وحقوق الطلاب والمعلمين والمدارس، وتشمل -أيضًا- المناهج الدراسية والتقييم ونظم التقويم، وغيرها من المسائل المتعلقة بالتعليم.
ففي دولة قطر على سبيل المثال ينص القانون رقم (25) لسنة 2001 بشأن التعليم الإلزامي في مادته الحادية عشرة على “يُعاقب المسؤول عن الطفل، الذي يمتنع عن إلحاق الطفل دون عذر مقبول بمرحلة التعليم الإلزامي، بغرامة لا تقل عن خمسة آلاف ريال ولا تزيد على عشرة آلاف ريال، وفي حالة تكرار المخالفة تضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأعلى”.
وذكرت وكالة الأنباء القطرية أن مركز الدراسات القانونية والقضائية بوزارة العدل قد نظم ورشاً قانونية تثقيفية لمنتسبي عدد من المدارس والأكاديميات، حيث “استعرضت الورش ظاهرة التنمر بأنواعه المختلفة في الشارع أو المدرسة أو الجامعة أو المنزل وحتى في مكان العمل، وتم التعريف بأشكال التنمر كالسب والقذف والضرب والتهديد التي حددها قانون العقوبات القطري رقم (11) لسنة 2004، ونص على أن يعاقب المتنمر بالحبس مدة لا تجاوز ثلاث سنوات، وبالغرامة التي لا تزيد على عشرة آلاف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتكون العقوبة بالحبس مدة لا تجاوز خمس سنوات إذا كان التهديد بالقتل”.
كما تركز دولة قطر في الموجهات العامة لخطة الابتعاث للعام الأكاديمي 2025/2024 على أربعة مبادئ وهي “الجودة، والتنوع، والتفوق، والالتزام، وتحسين المؤشرات؛ حيث روعي في سياسة الابتعاث الجديدة الربط بين ركائز الرؤية الوطنية والأهداف الاستراتيجية لوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي”، وذلك من خلال: النمو الاقتصادي، وتكافؤ الفرص، والتنوع والشمول، وتنمية المواهب”.
أما في الأردن فتنص المادة الثالثة من قانون التربية والتعليم الأردني في الفصل الثاني منه (فلسفة التربية وأهدافها) على ما يلي:”تنبثق فلسفة التربية في المملكة من الدستور الأردني والحضارة العربية الإسلامية ومبادئ الثورة العربية الكبرى والتجربة الوطنية الأردنية وتتمثل هذه الفلسفة في الأسس التالية: الإيمان بالله والمُثل العليا للأمة العربية، وحدة الأمة العربية وحريتها وشخصيتها في الوطن العربي الموحَّد المتكامل، المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية، ونظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي، والشعب الأردني جزء من الأمة العربية، عروبة فلسطين وجميع الأجزاء المغتصبة من الوطن العربي، والعمل على استردادها”.
وعليه يمكننا القول إن مقاصد (الإستراتيجية التربوية) على المستوى العربي بشكل عام ما هي إلا بلورة لفلسفة عربية شاملة في المجال التربوي، تحسم مسار الأفکار والمبادئ ذات الاتجاهات المختلفة، وهو ما جعلها تحمل کثيراً من وجوه التباين والتعارض في غايات التعليم ونظمه، کما أنها دعوة إلى ربط حرکة التربية وإصلاحها بحرکة التنمية القومية، حتى تؤدي وظائفها الاجتماعية والاقتصادية، بما يخدم أهداف التحديث والتقدم.
مؤثرات خارجية على التعليم والتربية
أما من جهة تأثير وسائل الإعلام والإنترنت في تربية الأطفال العرب فقد أظهر استطلاع للرأي ألقى الضوء عليه موقع الجزيرة نت، أجرته جمعية أصدقاء الصحة النفسية القطرية ويَّاك عن ارتفاع تأثير وسائل الإعلام على سلوك الطفل أكثر من الوالدين والمدرسة أوضح أن وسائل الإعلام تؤثر في الأطفال بنسبة 34%، يليها الوالدان بنسبة 32%، فالأصدقاء 20%، ثم المدرسة بنسبة 14%.
كما أوضحت الجمعية أن وسائل الإعلام لا سيما المتلفزة وتلك التي تتضمنها بعض التطبيقات الرقمية على الهواتف وأجهزة الحاسب الآلي، لها آثارها الإيجابية والسلبية في حياة الطفل؛ لأنها تخاطب حواسه، لا سيما حاستي السمع والبصر، مما يساعد على جذب انتباهه.
ومن أبرز آثارها السلبية: تقديم مفاهيم عقائدية وفكرية مخالفة للفطرة، وتنمية مشاعر العدوانية والعنف وحب الجريمة، والاستهانة بحقوق الآخرين في سبيل تحقيق غايته.
كما أنها تعيق تطور قدرات الطفل التأملية والإبداعية، وتسهم في اضطراب نظام الطفل اليومي، وعدم التزامه بأوقات النوم والطعام، مما ينمي لديه مبدأ الاستهتار بالوقت، بالإضافة إلى إصابته بكثير من الأمراض الصحية والجسمية.
أما عن التأثير السلبي للفقر المدقع على تربية الأطفال العرب – وقد كان من دعاء النبي ﷺ الذي رواه أبو هريرة في صحيح أبي داود: “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ، فإنَّهُ بِئْسَ الضَّجيعُ…” – فالجوع الشديد يجعل الإنسان غير قادر على القيام بأمور دنياه وعبادته، وهو من أقبح الأسباب التي يُلزم الإنسان الفراش بها. فكيف إذا لم يجد الطعام، ولا الفراش، ولا أي شيء، ويفقد أهله وذويه كحال أطفال غزة وغيرها من بلاد المسلمين؟!
وحسب سلسلة من البحوث التي أجرتها مجموعة بحوث التنمية التابعة للبنك الدولي، للوقوف على تأثير الأزمات الاقتصادية، فإن الأطفال في البلدان الفقيرة غالبًا ما يتسرّبون من التعليم، أو لا يحصلون على الرعاية الصحية.
ويضيف الخبراء الاقتصاديون الذين درسوا الأزمات الماضية، أن هذا بدوره سيضع هؤلاء الأطفال في وضع سيئ للغاية، حتى بعد انقشاع الأزمات بفترات طويلة.
ويرجع ذلك إلى أن سوء تغذية الأطفال -من فترة الحمل حتى بلوغ عامهم الثاني خاصة- ومن المرجح أن يؤدي إلى معاناتهم من قصر القامة عند البلوغ، وانخفاض سنوات الدراسة، وتقلص مستوى دخولهم طوال حياتهم.
وفي مقال على موقع بي بي سي عربي نجد دراسة مسحية أجريت على الإنترنت، شارك فيها أكثر من 8600 عضو في الاتحاد الوطني للتعليم من أنحاء المملكة المتحدة؛ قال 91% من المشاركين: إن الفقر كان أحد عوامل الحدّ من قدرة الأطفال على التعلم، ورأى نحو نصف هذه النسبة (49%) أن الفقر عامل رئيس في تلك المشكلة، وارتفعت هاتان النسبتان بين معلمي المدارس الحكومية إلى 97%، و52% على الترتيب.
وتقول روبرتا غاتي على موقع البنك الدولي، رئيسة الخبراء الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابعة للبنك الدولي في تقرير أعدته عن تأثير تضخم أسعار الغذاء على الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن “معدلات انتشار انعدام الأمن الغذائي في البلدان متوسطة الدخل والبلدان منخفضة الدخل في المنطقة العربية، ترتفع بدرجة كبيرة عن البلدان المناظرة لها في الدخل، ويمثّل التضخم جزءًا كبيرًا من القصة، على مستوى كل المجموعات الفرعية الأربع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا –البلدان النامية المستوردة للنفط، والبلدان النامية المصدّرة للنفط، والبلدان المتأثرة بالصراعات، وبلدان مجلس التعاون الخليجي– فإن ما بين 24% إلى 32% من انعدام الأمن الغذائي المتوقع في 2023 يرجع إلى التضخم”.
وكما يؤثر الفقر المدقع سلبا على تربية الطفل يؤثر الثراء الفاحش سلباً أيضا على تربيته، فتشير العديد من الأبحاث النفسية الميدانية إلى أن الأثرياء أكثر قابلية للغش بشأن ضرائبهم، ومع من يحبون، وأقل تعاطفاً مع الآخرين.
وذكر تقرير نشرته واشنطن بوست أن الصفات التي تكتشفها الأبحاث الميدانية لدى الأثرياء ليست مفاجئة لكنها مخيفة، وخلص إلى أن المال والمكانة الاجتماعية تجعل أصحابها يشعرون وكأنهم فوق القانون، ومسموح لهم بمعاملة الآخرين كأنهم غير موجودين”.
ونبّه التقرير إلى أن جميع الأديان حذَّرت من الآثار الإفسادية للمال والثروة والسلطة.
وقد يظن المرء أن الوالدين فقط هما من يقومان على تربية أطفالهما، لكن واقع الحال أن الأسرة، والأقرباء، والمدرسة، والمسجد، والنادي، والشارع، والأصدقاء، والمربّون، والمؤثِّرون، وصنّاع القرار، والسَّاسة، وأصحاب القرار السياسي، ووسائل الإعلام، والإنترنت، والأجهزة الرقمية، والتطور التقني، والهيمنة الاجتماعية والثقافية، والأفكار المستوردة، والمناهج، والكُتَّاب، والأزمات الاقتصادية، والكوارث، والأحداث المحلية والعالمية، كلها تشارك بوعي أو بدون وعي، بحسن نية أو بسوئها في صياغة الأجيال القادمة.
التربية السوية إسلامياً
مفهوم التربية السوية بات أمراً عسيراً جداً خلال آخر عقدين فقط أدركتنا فيهما حروب طاحنة، وإبادات بشرية، وانقلابات عسكرية، وأزمات اقتصادية، وانهيارات أخلاقية، وأمراض وأوبئة عالمية لم تكن في أسلافنا، وزلازل وبراكين وأعاصير وجفاف، وتغيرات مُناخية مُخيفة، وفقر متزايد، وغلاء فاحش لا يشبع، إلى أخره من تحديات.
فوفقا لمنظور التربية المعاصرة لو أن تحذير معلم لطلابه من ارتياد مكان مشبوه قد يُعرِّضهم لبعض المشكلات أعقبه ردهم عليه بأنه لا غِنى لهم عنها، لانهالت عليهم تهم سوء الأدب من كل حدب وصوب.
إلا أن هذا المفهوم للتربية المعاصرة يناقض موقفاً شبيهاً حدث من صحابة رسول الله ﷺ معه، ومع ذلك لم يحمله أحد منهم على محمل قلة التربية أو سوء الأدب.
ففي صحيح أبي داود، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: “إياكم والجلوسَ بالطرقاتِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما بُدٌّ لنا من مجالسِنا نتحدثُ فيها، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريقَ حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريقِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى, وردُّ السلامِ ، والأمرُ بالمعروفِ ، والنهي عن المنكرِ”.
فهل يمكن مقارنة التربية المعاصرة -المتقدمة على حد زعم بعضهم- بموقف رسول الله آنفا؟
ترى لو حدث لك مثل هذا الموقف مع أبنائك أو طلابك؛ فكيف سيكون تصرفك؟ هل ستجد في القوانين والتشريعات العربية ما يزيل مثل هذا اللبس؟
وقد باتت تربية الأطفال في هذا الزمان من أصعب الأمور على الإطلاق لمَن يُدرِك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه.
ففي صحيح الترمذي، عن أنس بن مالك، عن رسول ﷺ قوله: “ما مِن عامٍ إلَّا والَّذي بعدَهُ شرٌّ منهُ حتَّى تلقَوا ربَّكم”، وإن ما تمرّ به الأمة والعالم من أحداث متلاحقة، توجب على الوالدين والمُربّين والمصلحين أن يُعِدّوا الأجيال إعداداً يُمكّنهم من أن يكونوا مؤهلين فاعلين مؤثرين صالحين مصلحين في مجتمعاتهم.
ولولا احتساب الأجر في التربية، ورجاء الأثر النافع بعد الممات؛ لأصيب المرء بسيئ الأسقام، ومات غماً وكمداً.
وحتى يربي المرء أطفاله تربية سويَّة في ظل هذا الكمّ الكبير من الفتن والفساد وتغيب القدوة الصالحة وتصدُّر التافهين، عليه أنْ يغرس في نفوس أطفاله العقيدة الصافية الرقراقة التي غرسها محمد ﷺ في نفوس أصحابه -رضي الله عنهم-.
تلك العقيدة التي شعارها ودِثارها قوله تعالى في سورة يوسف: “قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
ومن أوجب شروط التربية أن يدرك الطفل مبكراً الغاية التي مِن أجلها خُلِق، وهي إفراد الله -سبحانه وتعالى- في العبادة والقصد والطلب، واتباع النبي ﷺ في القول والعمل، ومحبة كل الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- والولاء للمسلمين وإنْ تناءت بهم الأقطار، والبراء من أتباع الكفر خارجياً وداخلياً.
فبالحُب والرحمة نزرع في نفوسهم العِزَّة والشجاعة ومكارم الأخلاق، وليكن القرآن الكريم هاديهم ودليلهم، وتذكر أن المرء على دين خليله، فنقرِّبْهم من الصالحين المصلحين، ونجنبهم الاختلاط بالمجرمين والفاسدين، ثم بالتوازي نطَوِّر مهاراتهم وقدراتهم العقلية والنفسية والبدنية، ولا ندخر في سبيل إصلاح شؤونهم الدنيوية والأخروية الوقت ولا الجهد ولا المال، فنشاركهم ونشاورهم ونلاعبهم.
عليك كمربي أن تروي عطش مشاعرهم للحب والعطف والرعاية والحنان والاهتمام والاحترام والتقدير، محتسباً كل ذلك كمشروع وقف لله تعالى؛ آملا أن يكون سعيك هذا سبب نجاتك، ونجاتهم، مصداقاً لقوله تعالى في سورة القصص “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”.
[…] باب الطفل فنجد مقالاً بعنوان اللحاق بركب الحضارة في ظل ثوابت التربية ومتغيرات التعل… لكاتبه د. شادي السيد يرى الكاتب فيه أن التربية مفهوم […]