سحقت المادية بجناحيها الرأسمالي والاشتراكي قيم الأسرة والأمومة، واعتبرتها مضيعة للوقت والجهد، فكان اختراع دور الحضانة التي ترعى فيها امرأة غريبة عشرات الأطفال بديلاً عن رعاية الأم لطفلها فلذة كبدها، كل ذلك لأن المرأة العاملة في نظر هذه المادية العالمية أفضل مكانة من ربة البيت، لكن السبب الحقيقي وراء هذه النظرة الدونية هو أن المرأة العاملة تضخ أموالاً إضافية في صندوق الضرائب، وتستهلك في ذهابها وإيابها أطناناً من مساحيق الزينة وملابس الموضة ووقود المواصلات ووجبات المطاعم السريعة.
وهو ما يضخ المليارات في شرايين الاقتصاد الذي حقّر من دور الأم وحقّر من أهمية الأسرة، فكانت النتيجة خلال عقود معدودة تفكك أسري لا سابق له، وارتفاع كبير في معدلات الطلاق، وتراجع شديد في معدلات الإنجاب، ومن ثم انقلب الهرم الديموغرافي، بحيث زادت نسبة المسنين في مجتمعات شاخت يتهددها الانقراض، مما أدى إلى ما كانت تخشاه المادية العالمية من تراجع الاستهلاك والسقوط في بئر الركود من أوسع بالوعاته.
فكما يرى علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإعلان الإسلامي (1996) “داخل هذه المنظومة تتحول المرأة من إنسان إلى كائن مادي لا يُفسَّر إلا في إطار المادة وذلك بعد اضمحلال دورها العاطفي والمعنوي، بحيث لا تشير إلى ذاتها وإنما تشير إلى المادة، فهي حينها امرأة، فقط امرأة، لكنها لا تدل على دورها كأم أو زوجة أو أخت كما كنا نعرفها، فلها دور مستقل داخل إطار الجماعة الإنسانية الشاملة، وهو ما يتعارض مع الرؤية الإنسانية التي تعترف بالأمومة كوظيفة اجتماعية”.
على الجانب الآخر من هذه النظرة المادية كانت النظرة التقليدية المحافظة بمرجعيتها الدينية تعزز من دور الأم وتكاد تحرِّم عمل المرأة إلا لضرورة كموت الزوج أو مرضه، أو فقط في مجال طبابة النساء وتدريس الأطفال، مما عرض المرأة في بعض الحالات لاستبداد ذكوري وقمع كبير لها، نتيجة لتراجع أخلاقي عام في المجتمع ككل يمكن بيانه بالتفصيل في مقال آخر.
لكن في جميع الأحوال، يجب أن تفرغ المرأة لبناء الإنسان فهذه مهمة ليست حيوة لها كأم فحسب، بل حيوة للمجتمع برمته، ولذلك يتوجب على هذا المجتمع أن يعينها على إتمام هذه المهم، مهمة صناعة الإنسان.
وعليه يمكن أن تسند المهام القيادية للمرأة الكفء في حال كانت غير مسؤولة عن أطفال، كأن تكون قد تخطت مرحلة الإنجاب أو كبر أطفالها بالفعل أو لا يتوقع أن تنجب أطفالاً.وهو ما أشارت إليه الإعلامية هدى محمد في مقالها القاضية العربية بين تحديات الذكورة ومتطلبات العصر الحديث، حيث ذكرت رأي الشيخ د. يوسف القرضاوي الذي اشترط النضج من ناحيتي “التجربة أو من ناحية الممارسة، ومن ناحية الجسم وأولادها يكونوا قد كبروا وفرغت منهم”.
هنا كان للمشرع القطري موقف وسطي في نظرته للمرأة، وازن فيه بين فتح الباب أمام عملها على مصراعيه من جانب ودورها كأم من جانب آخر.
فجعلت الجهات الحكومية معظم المهام الإدارية والمكتبية من نصيب المرأة، وتوسعت في توظيف أعداد كبيرة من النساء للتغلب على مشكلة الغياب عن العمل بسبب الوضع أو الرضاعة أو مسؤوليات الأمومة نحو حديثي الولادة.
ولم يفرق القانون القطري بين المرأة العاملة القطرية وغير القطرية في معظم بنوده، والاستثناء الوحيد في حالة الموظفة القطرية التي ابتليت بطفل مريض مرض مزمن أو معاق، فالبنظر إلى قانون رقم (14) لسنة 2004 بإصدار قانون العمل.
نجد بنوداً كثيرة تدعم الأم العاملة، منها مثلاً الفصل التاسع بمواده الست من 93 حتى 98 الذي تنص الفقرة الأولى من مادته 96 على أن “للعاملة التي أمضت في خدمة صاحب العمل سنة كاملة، الحق في الحصول على إجازة وضع، بأجر كامل مدتها خمسون يوماً. تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه، على ألا تقل المدة بعد الوضع عن خمسة وثلاثين يوماً”.
وقد وضحت المادة نفسها أنه “إذا كانت المدة المتبقية من الإجازة بعد الوضع، تقل عن ثلاثين يوماً، يجوز منح العاملة إجازة متممة من إجازتها السنوية، وإلا اعتبرت الفترة المتممة إجازة بدون أجر”.
بل أخذت بعين الاعتبار أيضاً أنه “إذا حالت الحالة الصحية للعاملة بعد الوضع دون عودتها إلى العمل عقب انتهاء إجازتها المشار إليها في الفقرات السابقة، اعتبرت في إجازة بدون أجر، على ألا تزيد مدة انقطاعها عن العمل على ستين يوماً متصلة أو متقطعة، وبشرط تقديم شهادة طبية عن حالتها الصحية من طبيب مرخص”.
وأكدت المادة في نهايتها على أن كل هذه الإجازات لا تؤثر أو تنتقص من حق المرأة العاملة “في أي من إجازاتها الأخرى”.
لكن لم يكتفِ المشرع القطري بهذا القانون فسن قانوناً أكثر إنسانية تجاه المرأة العاملة التي رزقت بمولود، فنصت المادة 73 من قانون رقم (15) لسنة 2016 بإصدار قانون الموارد البشرية المدنية على أن “تمنح الموظفة إجازة وضع براتب إجمالي لمدة شهرين لا تحسب من إجازاتها الأخرى، على أن تقدم الموظفة ما يثبت الوضع بتقرير طبي أو صورة طبق الأصل من شهادة ميلاد الطفل”.
وفصلت المادة نفسها وضع المرأة العاملة التي رزقت بتوأم، فنصت على أن “تكون مدة الإجازة في حالة وضع التوائم ثلاثة أشهر”.
لم تكتف المادة بهذه الإجازة الطويلة للمرأة العاملة التي رزقت بمولود، بل نصت على أنه “للموظفة بناءً على طلبها الحصول على رصيدها من إجازاتها الدورية إضافة إلى إجازة الوضع”.
الاستثناء الذي يخص الموظفة القطرية مقارنة مع غير القطرية هو ما نصت عليه المادة 73 على منحها إجازة مدفوعة الراتب لمدة طويلة تصل إلى خمس سنوات، حيث “يجوز منح الموظفة القطرية إجازة براتب إجمالي لرعاية أولادها من ذوي الإعاقة أو المصابين بأمراض تستوجب ملازمة الأم لهم، بناءً على تقرير من الجهة الطبية المختصة، وذلك بموافقة الرئيس لمدة خمس سنوات بحد أقصى، وبموافقة رئيس مجلس الوزراء فيما زاد على ذلك”.
بل يمكن أن تزيد الإجازة المدفوعة الراتب عن خمس سنوات، كما وضحت الفقرة الأخيرة من المادة نفسها التي تنص على أنه “يجوز منح الموظفة القطرية إجازة في الحالات الأخرى وفقاً للشروط والضوابط التي يصدر بها قرار من مجلس الوزراء”.
وقد نصت المادة 11 من قرار مجلس الوزراء رقم (13) لسنة 2021 بشروط وضوابط نظام الدوام الجزئي بالجهات الحكومية على أن “تكون أوقات الرضاعة بالنسبة للموظفة التي تعمل بنظام الدوام الجزئي، في حالة الدوام ليوم كامل، ساعتي رضاعة في الوقت الذي تحدده، وما دون ذلك تحصل على ساعة واحدة للرضاعة تكون في بداية الدوام أو قبل نهايته، وتكون ساعات الرضاعة لمدة سنتين تبدأ بعد انتهاء إجازة الوضع مباشرة”.
وقد أعلن ديوان الخدمة المدنية والتطوير الحكومي أن نظام العمل المرن والعمل عن بُعد في الجهات الحكومية سيبدأ تطبيقه بتاريخ 2024/9/29 وذلك بما لا يؤثر على حاجة العمل ومتطلباته، ويستهدف النظام عدة فئات منها الموظفة القطرية التي لديها أبناء لا تزيد أعمارهم عن 12 سنة، وذلك لمدة شهر في السنة.
وفي حوار أجرته صحيفة الراية القطرية مع الأديبة فاطمة العتبي حول نظام العمل المرن والعمل عن بعد قالت إن “تطبيق القرار يساهم في تعزيز دور الأسرة وزيادة الترابط بين أفرادها، في الوقت الذي لا يخسر الاستفادة التي يمكن أن تحققها المرأة في ميدان العمل باعتبار أنها أحد أفراد الوطن، وأضافت إن القرار يعزز دور الأم في تربية الأبناء ورعايتهم من حيث تواجدها لوقت أطول مع أبنائها، كما يساهم في تبني أساليب أكثر مرونة في العمل وتشجيع الأم الموظفة على زيادة الإنتاجية والتوفيق بين متطلبات العمل والأسرة”.
وحتى في فترة الاختبار بعد تسلم العمل كان للقانون القطري موقف إنساني مميز تجاه المرأة العاملة التي رزقت بمولود، إذا نصت المادة 72 على أنه “إذا مرض الموظف تحت الاختبار امتدت فترة الاختبار بقدر فترة المرض، بشرط ألا تتجاوز مدة مرضه مدة مساوية لفترة الاختبار، ويتعين لمنحه الإجازة المرضية في هذه الحالة حصوله على شهادة من الجهة الطبية المختصة، وإذا تخللت فترة الاختبار إجازة وضع أو إجازة العدة الشرعية، فلا تحسب ضمن فترة الاختبار”.
كما تبنى القانون القطري التشريع الإسلامي فيما يخص عدة المرأة المتوفى عنها زوجها، فخص المرأة المسلمة العاملة الحامل، بما نصت عليه المادة 77 من أن “تُمنح الموظفة المسلمة التي يتوفى عنها زوجها إجازة عدة شرعية براتب إجمالي لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ وفاة الزوج، أو إلى حين الوضع إن كانت حاملاً، ولا تحسب هذه المدة من إجازاتها الأخرى، وعلى الموظفة أو من ينوب عنها إخطار جهة عملها بواقعة وفاة زوجها وتقديم ما يثبت وفاته”.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال، أي دولة يمكنها أن تنوء بمثل هذه الإجازات الطويلة مدفوعة الأجر للأم العاملة، فصحيح أن مثل هذه التشريعات التي تعزز وتدعم دور الأم العاملة ليست بدون أعباء اقتصادية على رب العمل، لذلك يصبح تدخل الدولة للتخفيف من هذه الأعباء ضرورياً.
وللأسف بنظرة مادية ضيقة ترتفع الأصوات المعارضة في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي لمثل هذه التشريعات، لكن على المدى البعيد وبنظرة أكثر عمقاً يتضح أن دعم الأم العاملة له مردود اجتماعي ونفسي بل واقتصادي إيجابي على الأجيال القادمة.
إن النظرة المادية التي ترى الإنسان مجرد بقرة تدر أمولاً أثبتت التجارب السابقة على مستوى العالم فشلها الذريع، وباتت البشرية بحاجة لنظرة أكثر عمقاً تلبي احتياجات الإنسان المادية والنفسية والروحية.