تَعرُّض الطفل للحرمان من أحد والديه أو كليهما زلزال كبير في حياته يستوجب احتضان بقية أقاربه له، فإذا صاحب ذلك محو للجذور من خلال نبذ متعمد من أحدهما أو كليهما له، كان احتضان بقية المجتمع له أولى.
يُعَد الأطفال مجهولو النسب من أكثر الفئات تعرضاً للصعوبات في المجتمع، ليس فقط بسبب الظروف المحيطة بولادتهم، ولكن أيضاً بسبب التعقيدات القانونية والاجتماعية التي ترافق حياتهم منذ لحظة ولادتهم، وعادة يشمل هؤلاء الأطفال من يولدون نتيجة علاقات جنسية خارج إطار الزواج، أو نتيجة لظروف أخرى مثل الضياع أو الخطف قبل بلوغ الطفل سن التمييز، أو بسبب الحروب أو بسبب أزمات نفسية خاصة.
الطفل مجهول النسب هو الطفل الذي لا يُعرف أبوه، سواء عُرفت أمهُ أو لم تُعرف.
الآليات الدولية لحماية حقوق الطفل
تُعتبر اتفاقية حقوق الطفل من أهم الأدوات القانونية الدولية التي تُلزم الدول الموقعة بتوفير حماية شاملة للأطفال، وتُلزم الاتفاقية الدول باتخاذ كل التدابير اللازمة لضمان حصول الأطفال على حقوقهم الأساسية، بما في ذلك الأطفال مجهولو الأبوين، وتؤكد الاتفاقية على حق الطفل في الحصول على هوية، واسم، وجنسية منذ ولادته.
وتنص المادة (20) على أنه “للطفل المحروم بصفة مؤقتة أو دائمة من بيئته العائلية، أو الذي لا يسمح له، حفاظاً على مصالحه الفضلى، بالبقاء في تلك البيئة، الحق في حماية ومساعدة خاصة توفرهما الدولة، وتضمن الدول الأطراف وفقاً لقوانينها الوطنية رعاية بديلة لمثل هذا الطفل، ويمكن أن تشمل هذه الرعاية في جملة أمور، الحضانة أو الكفالة الواردة في القانون الإسلامي أو التبني، أو عند الضرورة الإقامة في مؤسسات مناسبة لرعاية الأطفال، وعند النظر في الحلول، ينبغي إيلاء الاعتبار الواجب لاستصواب الاستمرارية في تربية الطفل، ولخلفية الطفل الإثنية والثقافية واللغوية”.
ورغم كل التشريعات الرامية لحماية الطفل، مازالت المجتمعات حتى المتقدمة منها تعاني من ظواهر فردية متكررة لا ترحم هؤلاء الأطفال.
صناديق الأطفال
في مقال لميشيل كاستيلو بعنوان زيادة استخدام صناديق الأطفال المنبوذين تثير قلق مسؤولي الأمم المتحدة (2012) على موقع قناة سي بي إس نيوز الإخبارية تقول إن صناديق الأطفال أي الحضانات التي تتيح للأشخاص ترك أطفالهم غير المرغوب فيهم دون الكشف عن هويتهم تثير جدلاً كبيراً بشأن ما إذا كانت هذه الصناديق تُعتبر حلاً مناسباً لحماية الأطفال، أم أنها تشجع على التخلي عنهم بطرق غير مسؤولة، وتمثل هذه الصناديق نقاط تسليم آمنة للأطفال، غالباً ما تكون متصلة بالمستشفيات أو بالأماكن العامة، حيث يتم وضع الطفل فيها وتنبيه العاملين على الفور لضمان سلامته.
من جانب آخر، ذكرت كاستيلو أن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل عارضت هذه الصناديق، معتبرة أنها لا تحمي الأطفال ولا تحقق مصلحتهم الفضلى، وقد أكدت الدكتورة ماريا هيرتسوغ، عضو اللجنة على أن هذه الصناديق تحرم الأطفال من حقوقهم الأساسية، مثل الحق في الهوية، وقد تشجع النساء على الولادة في ظروف غير آمنة بعيداً عن المستشفيات.
وتضيف كاستيلو أن ألمانيا وبولندا توجد بها العديد من هذه الصناديق، كما أن قوانين الملاذ الآمن في الولايات المتحدة توفر الحماية القانونية للآباء الذين يتركون أطفالهم في مواقع معينة، مثل المستشفيات أو مراكز الشرطة، دون الخوف من الملاحقة القانونية، لكن مع ذلك، أثارت هذه القوانين أيضاً بعض القضايا، مثل تلك التي ظهرت في ولاية نبراسكا، حيث أُسيء تفسير القانون مما أدى إلى تخلي بعض الآباء عن أطفالهم الأكبر سناً.
لكنها أبدت مخاوفها بسبب دراسات تشير إلى أن هذه الصناديق قد تُستخدم أحياناً من قِبَل أقارب أو أشخاص يُجبرون الأمهات على التخلي عن أطفالهن، مما يُثير تساؤلات حول مدى احترام حقوق المرأة في هذه العملية، كما أن الصناديق تخلق وضعاً قانونياً غامضاً، حيث يُعتبر التخلي عن طفل داخل صندوق أمراً قانونياً، بينما يُعاقب إذا تم التخلي عنه في مكان آخر.
في الوقت نفسه أشارت إلى أن مؤيدي هذه الصناديق يعتبرونها بديلاً آمناً لمنع حالات التخلي عن الطفل في ظروف غير آمنة، مما يعرضه للموت، نتيجة عدم تلقيه للرعاية اللازمة، لذلك يدافعون عن صناديق الأطفال باعتبارها حلاً يحمي حياة الطفل المنبوذ من والديه.
الآليات العربية لحماية حقوق الطفل مجهول النسب
يقوم إثبات النسب في الدول العربية على الشريعة الإسلامية، خاصة أن حفظ النسل من مقاصدها الخمسة، فمثلا في دولة قطر تنص المادة (86) من قانون الأسرة رقم (22) لسنة 2006 على أن “يثبت النسب بالفراش أو الإقرار أو الشهادة”، و”يثبت النسب بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين” كما في المادة (93)، و”يجوز إثبات النسب بشهادة التسامع” أي نقلاً عن شهادة شخص غير حاضر أمام القضاء كما في المادة (95).
حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب
لم تغفل ليلى محمد أحمد السيد في رسالتها بعنوان الحماية القانونية لمجهولي الأبوين( 2022 ) لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير من كلية القانون في جامعة قطر التحديات الأخلاقية والقانونية المرتبطة باستخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب، منها؛ الخصوصية، فاستخدام الحمض النووي يتطلب الحصول على عينات من الأشخاص المعنيين، مما يثير تساؤلات حول الخصوصية وحقوق الأفراد في حماية معلوماتهم الجينية، إضافة إلى ضرورة الحصول على الموافقة المسبقة من الأشخاص المعنيين قبل استخدام عيناتهم الجينية في تحليل البصمة الوراثية، ناهيك عن الأثر النفسي والاجتماعي على الطفل إذا ما تم إثبات نسبه أو نفيه بناءً على البصمة الوراثية.
وتشير السيد إلى اختلاف “اتجاهات التشريع والقضاء في الدول العربية في حجية البصمة الوراثية، فالقضاء الشرعي في الأردن اعتبر البصمة الوراثية قرينة قاطعة في إثبات ونفي النسب، كما أن المشرع الإمارتي اشترط ثبوت الفراش لإثبات النسب وفق الطرق العلمية الحديثة ومنها البصمة الوراثية، أما المشرع التونسي فقد أجاز صراحة إثبات نسب مجهول النسب بواسطة البصمة الوراثية والتحليل الجيني”.
لكنها ترى “أنه لا يمكن أن تكون البصمة الوراثية وسيلة لتحديد النسب دون ثبوت الفراش، فهذا أمر ترفضه قواعد النسب في الشريعة الإسلامية، فالبصمة الوراثية وغيرها من الوسائل العلمية الحديثة تكشف عن وجود علاقة بيولوجية، وهذه لا يُثبت بها النسب، إلا إذا كانت ناشئة عن زواج، وإذا كانت بدون زواج فالبنوة غير شرعية، ولا يجوز أن يحدد بها النسب”.
وقد نصت المادة (3) من القانون القطري رقم (9) لسنة 2013 بشأن البصمة الوراثية على أنه “للجهات المختصة بجمع الاستدلالات والتحقيق والمحاكمة، الاستعانة بقاعدة بيانات البصمة الوراثية فيما يلي: تحديد هوية الشخص وعلاقته بالجريمة المرتكبة، تحديد النسب، تحديد هوية المفقودين والتعرف على ذويهم، تحديد هوية الجثث المجهولة، أي حالات أخرى تطلبها المحاكم المختصة”.
لكن المادة (96) من قانون الأسرة القطري رقم (22) لسنة 2006 التزمت الشريعة الإسلامية بحذافيرها ونصت على أن “يترتب على الملاعنة بنفي الحمل وفقاً لأحكام المادة (151) من هذا القانون، نفي نسب الولد عن الملاعن، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه، إذا كذب الرجل نفسه”، حيث تنص المادة ( 151) على أن “اللعان هو أن يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته من الزنا أو نفي الولد، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا أو نفي الولد، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين”، ووفقاً للمادة (152) “يفرق القاضي بين الزوجين بعد تمام اللعان فرقة مؤبدة”.
وذلك استناداً إلى قوله تعالى في سورة النور “وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ”.
إن مطالبة البعض برفض اللعان كمبرر لنفي بنوة الطفل، ليس إلا رفضاً لتشريع إسلامي صريح وقطعي، ناهيك أن الأمومة تعتبر أمراً غريزياً قهرياً، إلا أن الأبوة تضحية طوعية من أجل الطفل، فإذا رفض الرجل بنوة طفل ما، فإما أنه يقيناً ليس ابنه، أو أنه كاره له كرهاً حكم به على العلاقة مسبقاً بالإعدام، فحتى لو أُلزم بها قانوناً ضد موافقته فلن يقدم لطفله شيئاً بخلاف النفقة واسم العائلة.
الحق في الهوية
وتكفل كل الدول العربية الجنسية لمن ولد على أرضها من أبوين مجهولين، فمثلاً في مصر، تنص المادة (2) من القانون رقم 26 لسنة 1975 المعدل بالقانون 154 لسنة 2004 بشأن الجنسية المصرية على أن “يكون مصرياً: من ولد لأب مصري، ومن ولد في مصر من أم مصرية ومن أب مجهول الجنسية أو لا جنسية له، ومن ولد في مصر من أم مصرية ولم تثبت نسبته إلى أبيه قانوناً، ومن ولد في مصر من أبوين مجهولين، ويعتبر اللقيط في مصر مولوداً فيها ما لم يثبت العكس”.
أما من ولد لأم مصرية خارج مصر، فتنص المادة (3) على أن “يعتبر مصرياً من ولد في الخارج من أم مصرية ومن أب مجهول أو لا جنسية له أو مجهول الجنسية، إذا اختار الجنسية المصرية خلال سنة من تاريخ بلوغه سن الرشد بإخطار يوجه إلى وزير الداخلية بعد جعل إقامته العادية في مصر، ولم يعترض وزير الداخلية على ذلك خلال سنة من وصول الإخطار إليه”.
دور مؤسسات الرعاية الاجتماعية
تقوم المؤسسات الاجتماعية، مثل دور الأيتام، في تقديم الدعم والحماية للأطفال مجهولي النسب، كما تُعتبر الكفالة في الشريعة الإسلامية من النظم القانونية التي تهدف إلى توفير رعاية بديلة للأطفال الذين لا يعرفون آباءهم أو لا يمكنهم العيش مع أسرهم البيولوجية.
ففي صحيح الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: “أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين ، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني : السَّبَّابةَ والوسطى”.
ويُعرف نظام الكفالة بأنه الرعاية للطفل دون أن ينسب إلى أحد بشكل قانوني، مما يحفظ حقوق الطفل في النسب إلى والديه الحقيقيين إذا كان معروفين، ويمنع اختلاط الأنساب إذا كان أحدهما غير معروف.
وتختلف الكفالة عن التبني الذي يُمارس في المجتمعات غير الإسلامية التي يُنسب الطفل فيها إلى عائلة المتبني ويأخذ اسمها.
وتُعد الكفالة وسيلة مهمة لحماية الأطفال مجهولي الأبوين، حيث توفر لهم بيئة أسرية بديلة تُعنى برعايتهم وتنشئتهم، وذلك لتلبية احتياجات الطفل من الناحية النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى دور الكفيل في تأمين مستقبل الطفل من خلال التعليم والرعاية الصحية.
وتنص المادة 5 من قرار وزير شؤون الخدمة المدنية والإسكان رقم (4) لسنة 2003 بالموافقة على تأسيس وتسجيل وشهر المؤسسة القطرية لرعاية الأيتام على أن “يختص المركز باتخاذ كل ما من شأنه تحقيق أهدافه وتفعيل دوره، وله في سبيل ذلك القيام بصفة خاصة بما يلي: إيجاد بيئة بديلة مناسبة لرعاية الفئات المستهدفة، وتقديم خدمات معيشية متكاملة للفئات المستهدفة التي لم يتيسر لها العيش في بيئة أسرية، والمتابعة الدورية لأوضاع الفئات المستفيدة – الذين يعيشون في الأسر الحاضنة البديلة – وفقا للأنظمة والشروط والضوابط المعمول بها لدى المركز”.
كذلك تنص المادة نفسها على أن يتم “التعاون والتنسيق مع الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة وغيرها من الأجهزة الحكومية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق أهداف المركز، وعقد الندوات والدورات التدريبية في الموضوعات ذات الصلة بأهداف واختصاصات المركز، وإصدار النشرات والكتيبات الإرشادية والدوريات ذات الصلة بأهداف واختصاصات المركز، واستصدار التراخيص اللازمة من الجهات المختصة لمباشرة نشاطه تبعا لأهدافه”.
وقد تأسس مركز دريمة لرعاية الأيتام في عام 2002 في قطر لتوفير بيئة آمنة ومستقرة للأطفال الأيتام، وتوفير الرعاية الاجتماعية، والنفسية، والصحية، والتعليمية لهم، كما يعمل المركز على دمج الأيتام في المجتمع وتوعية الناس بأهمية الاحتضان في أسر حاضنة بديلة، مع العمل على دمجهم بشكل كامل في المجتمع.
وقد اختير اسم وشعار المركز نسبة إلى النباتات الطبيعية التي تنمو في قطر، فهي ترمز إلى القوة كونها تنمو في الأراضي الصلبة والظروف المناخية الصعبة، وبلونها الوردي المائل إلى البنفسج، تعكس براءة وجمال الأطفال.
ويوفر المركز خطاً ساخناً يعمل على مدار الساعة لتلقي مكالمات من الأيتام أو من يرغب في تقديم الدعم لهم، حيث يتم تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية.
وقد أشارت ليلى محمد أحمد السيد لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير من كلية القانون في جامعة قطر إلى ما تواجهه بعض الدول العربية من صعوبات في مراقبة تطبيق نظام الكفالة وضمان أن الأطفال المكفولين يحصلون على حقوقهم كاملة، فقد يكون هناك استغلال لنظام الكفالة في بعض الحالات، مما يؤثر سلباً على مصلحة الطفل، لذلك يلعب الإعلام دوراً هاماً في الرقابة على هذه المؤسسات.
إن الطفل مجهول النسب أو الوالدين في أمس الحاجة ليد حانية وقلب عطوف وعين ترعاه، وما اليتم بموت أحد الوالدين أو كليهما فحسب.