spot_imgspot_img
بيتآراءتلغرام: توازن الخصوصية والحرية والامتثال

تلغرام: توازن الخصوصية والحرية والامتثال

كانت ولا زالت حرية التعبير وحماية الخصوصية تعتبران على وجه الخصوص من أهم مبادئ الديمقراطية الراسخة في دساتير وقوانين الأنظمة الغربية.

فمثلاً ينص التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأمريكية على أنه “لا يُصدِر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف”.

كما ينص التعديل الرابع لدستور الولايات المتحدة الأمريكية على أنه “لا يجوز المساس بحق الناس في أن يكونوا آمنين في أشخاصهم ومنازلهم ومستنداتهم ومقتنياتهم من أي تفتيش أو احتجاز غير معقول، ولا يجوز إصدار مذكرة بهذا الخصوص إلا في حال وجود سبب معقول، معزز باليمين أو التوكيد، وتبين بالتحديد المكان المراد تفتيشه والأشخاص أو الأشياء المراد احتجازها”.

أما المادة (11) من ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية فتنص على أنه “لكل شخص الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء وتلقي ونقل المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطات العامة وبغض النظر عن الحدود، يجب احترام حرية الإعلام وتعدديته”.

كما أن مادة (8) من ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية تنص على أن “لكل شخص الحق في حماية البيانات الشخصية المتعلقة به، ويجب معالجة هذه البيانات بشكل عادل ولأغراض محددة وبناءً على موافقة الشخص المعني أو أي أساس قانوني آخر منصوص عليه في القانون، ولكل شخص الحق في الوصول إلى البيانات التي تم جمعها بشأنه، وحق تصحيحها، ويخضع الامتثال لهذه القواعد لرقابة هيئة مستقلة”.

بعد حربين عالميتين، ذهب ضحية لهما أكثر من 100 مليون إنسان، شكل لعقود طويلة هذان المبدأن؛ حرية التعبير وحماية الخصوصية في المجتمعات الغربية حائط صد منيع ضد أي ميول استبدادية أو فاشية.

لكن يبدو أن منصة التواصل الاجتماعي تلغرام بدأت بالتنازل عن أكثر ما يميزها، متخطية خطوطها الحمراء التي وضعتها لنفسها، بعد سنوات من التحدي لحماية الخصوصية، ومقاومة السلطات الرقابية في بعض الدول، فصاحب المنصة العصية على الاختراق، الروسي بافل دوروف، المناصر للمطالبين بحماية الخصوصية، تعرض لضغوط وتحقيقات عديدة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية إف بي أي، بل بات خلف القضبان الفرنسية، لتصبح بذلك بيانات مستخدمي منصته بين أيدي السلطات الأمريكية.

مؤسس تلغرام: أمريكا حاولت إقناعي بالسماح بالتجسس على بيانات المستخدمين

منصة تلغرام التي طالما اشتهرت بحماية خصوصية مستخدميها، أصبحت اليوم محط أنظار العالم، بعد تغييرات كبيرة في سياساتها خلال عام 2024، هذه التغييرات جاءت عقب اعتقال مؤسسها في أغسطس 2024، بتهمة تمكين أنشطة غير قانونية عبر استخدامها لمنصته. 

في مقال لأليكس ليكاندر على موقع سيبر إنسايدر يقول إن منصة تلغرام امتثلت لجهات إنفاذ القانون الرسمية، وسلمت 900 طلباً إلى السلطات الأمريكية في عام 2024، مما أثر على أكثر من 2250 مستخدماً.

كانت تلغرام في الماضي قد اكتسبت سمعتها كمنصة آمنة لدى الصحفيين والنشطاء، بفضل اعتمادها على التشفير في الدردشات السرية تحدي، إلا أنها واجهت انتقادات حادة كونها تترك المحادثات العادية عرضة للوصول من قبل أطراف ثالثة.

وفي تصريح نشر على موقع تيك بورتال لمتحدث باسم تلغرام قال بينما نضع خصوصية المستخدمين في المقام الأول، يجب أن نوازن بين ذلك وبين الامتثال للالتزامات القانونية.

كانت بداية الصدام مع سلطات رسمية في عام 2011، عندما حاولت قوات أمن روسية اقتحام منزل دوروف مؤسس منصة ڤي كونتاكت الروسية للتواصل الاجتماعي، لإجباره على إغلاق حسابات بعض المعارضين للسلطة الروسية والمتظاهرين ضد نتائج انتخابات الدوما، لكنه قرر ترك القوات خارج الأبواب دون رد لمدة ساعة كاملة إلى أن غادروا.

خلال فترة انتظاره مغادرة قوات الأمن طرأت له فكرة غيرت مسار حياته فيما بعد، كان يريد في تلك اللحظة أن يتواصل مع أخيه الأكبر وشريكه نيكولاي عبقري الرياضيات والتشفير الذي فاز بأولمبياد الرياضيات لثلاثة أعوام على التوالي، لعله ينجده، لكنه انتبه لغياب أي وسيلة آمنة تمكنه من مراسلة شقيقه دون تعقبها، عندها خطرت له فكرة تطبيق تلغرام وهو التطبيق نفسه الذي سيهدد حريته بعد عشرة أعوام من هذه الواقعة.

أخيراً في أغسطس من عام 2013، انطلقت منصة تلغرام، وأصبح لدى مؤسسها دوروف وسيلة اتصال آمنة، ومع اندلاع المظاهرات الأوكرانية في عام 2014 ضد نظام الرئيس وقتها فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا، طلبت السلطات الروسية منه مرة أخرى تسليم بيانات المتظاهرين الأوكرانيين، لكنه تجاهل طلبهم.

بعدها خلال بضعة شهور، حققت الشرطة الروسية في حادث سيارة قالت إنها مملوكة لنائبه في منصة ڤي كونتاكت، وقالت إن دوروف هو من كان يقودها بنفسه، عندما كسرت السيارة إشارة ضوئية ومرت بعجلاتها على قدم رجل مرور، ثم هربت.

ثم بعد أسبوع من الحادثة المزعومة، اقتحمت الشرطة الروسية مقر منصة ڤي كونتاكت للتفتيش والتحقيق في الحادث لكن دوروف كان قد رحل بالفعل من المقر ومن روسيا كلها.

في اليوم نفسه، أعلن دوروف رسميا عبر حسابه على ڤي كونتاكت عن رفضه تسليم بيانات المتظاهرين الأوكرانيين للسلطات الروسية، وفي اليوم التالي مباشرة أعلنت شركة يو سي بي المقربة من بوتين أنها استحوذت بالفعل على 48٪ من أسهم المنصة، مما دفع دوروف إلى بيع أسهمه، وتأكدت بعدها مغادرته لروسيا دون أي بادرة نوايا بالعودة.

مع التفكير في أكثر من مكان للاستقرار وتأسيس مقر تلغرام، كان من بين الأماكن المحتملة بالنسبة له مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، إلا أنه ألغى الفكرة بعد أن تعرض للتدقيق والزيارات المتكررة من قِبل مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية إف بي أي، بهدف الحصول على معلومات والضغط عليه.

كانت آلية عمل تلغرام تقلق الكثير من الدول ورجال الأمن حول العالم، إذ أن تفعيل خاصية الرسائل المشفرة لا يمكن اختراقها أو التجسس عليها أو حتى تحديد هوية ومكان مرسلها ومستقبلها، ولا حتى من قِبل العاملين في تلغرام، مما  جعلها وسيلة آمنة لكثير من الخارجين على القانون.

وهوما عرّض دوروف لمواجهة مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية إف بي أي في عام 2016، بعد أن رفض تسريب بيانات بعض المستخدمين.

لم تتوقف محاولات الدول لمنع تلغرام عند هذا الحد، ففي 2018، قررت روسيا حظر تلغرام، بعد رفض دوروف مجدداً تسليم بيانات المستخدمين، لكن القرار لم يؤثر بشكل واقعي على استخدامه، بسبب تعقيدات التطبيق التقنية، ما أدى في النهاية رفع قرار الحظر غير المجدي.

بعد أحداث الشغب في مجمع الكابيتول بالولايات المتحدة في عام 2021، عقب خسارة ترامب للانتخابات الأمريكية، تلقى دوروف خطاباً من أعضاء الكونغرس الديمقراطيين يطالبونه بتقديم معلومات عن المتظاهرين، لكنه تجاهل هذا الطلب ولم يفصح عن أي معلومات.

في أغسطس من عام 2024، فور وصوله إلى مطار لوبورجيه في فرنسا، التي حصل على جنسيتها قبل ثلاثة أعوام من هذه الواقعة، ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه، موجهة له 12 تهمة حول التواطؤ في إدارة منصة إلكترونية تسهل أعمالاً مخالفة للقانون.

ثم أفرجت السلطات الفرنسية عنه بكفالة مقدارها 5 ملايين يورو، مع صدور قرار بمنعه من مغادرة الأراضي الفرنسية، لحين البت بشكل نهائي في قضيته التي قد تمد لسنوات.

لحظة مغادرة مؤسس تطبيق تلغرام محكمة باريس بعد إطلاق سراحه بكفالة 5 ملايين يورو، مع قرار بمنعه من السفر

في أكتوبر من العام نفسه بعد أن أطلقت السلطات الفرنسية سراحه، كتب دوروف على حسابه في تلغرام “منذ عام 2018، كانت تلغرام قادرة على الكشف عن عناوين بروتوكول الإنترنت أي بي، وأرقام الهواتف للمجرمين للسلطات، وفقًا لسياسة الخصوصية الخاصة بنا في معظم الدول، كلما استلمنا طلباً قانونياً مُعداً بشكل صحيح عبر خطوط الاتصال ذات الصلة، كنا نتحقق منه ونكشف عن عناوين بروتوكول الإنترنت أي بي، وأرقام هواتف المجرمين الخطيرين”.

وأضاف في نفس المنشور “على سبيل المثال، في البرازيل، كشفنا عن البيانات لعدد 75 طلباً قانونياً في الربع الأول (يناير-مارس) من عام 2024، و63 طلباً في الربع الثاني، و65 طلباً في الربع الثالث، أما في الهند، أكبر سوق لدينا، فقد استجبنا لـ 2461 طلباً قانونياً في الربع الأول، و2151 طلباً في الربع الثاني، و2380 طلباً في الربع الثالث”.

قد تتعارض مصالح الفرد مع فرد آخر، بل قد تتعارض مصالح الفرد مع المجتمع برمته، وقد حاول الفلاسفة على مر التاريخ أن يُنظّروا في أبراجهم العاجية لحلول مختلفة، فظهرت أيديولوجيات متعددة، روج لها قادة وزعماء يدّعون الحق.

لكن الكلمة الأخيرة كانت دائماً في كفة الأقوى.

عن عثمانَ بنِ عفانَ رضِيَ اللهُ عنه قال “إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ”، ذكره ابن كثير في موسوعته التاريخية البداية والنهاية.

Ahmad Okbelbab
Ahmad Okbelbab
يَنظُمُ الحروفَ كحبات اللؤلؤ، لكنها سرعان ما تنفرط ليجمعها من جديد بحثاً عن شيء ما، ثم في النهاية يستسلم أمام الكلمات التي تأسره، والمعاني التي تفاجئه.
مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية