لا أذكر أني تصدقت بصدقة أو أخرجت زكاة إلا وخلال فترة وجيزة – كأنها فعل متبوع برد فعل – آتاني عمل أو مبلغ من المال لم أكن أتوقعه، ومن حيث لا أحتسب، وكنت غالباً أتعمد أن آخذ عهد الله على من يستفيد من هذه الصدقة أو الزكاة – أن إذا تحسنت ظروفه المادية وأصبح لديه فائض عن الاحتياجات الأساسية له ومن يعول – يسارع بإخراجها بدوره لشخص آخر ويلزمه بنفس العهد لتكون صدقة ممتدة من شخص إلى الذي يليه دون انقطاع.
وكنت أقول للمستفيد الأول أن هذا المبلغ ليس ديناً عليه لي وإنما دين عليه لله كوقف ممتد، أرجو من الله أن يستمر إلى قيام الساعة.
وقد راجعني صديق في أمر الزكاة، ولفت انتباهي إلى أن هذه الفريضة التي تشكل الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتحول إلى دين على المستفيد منها، لأنها حق يؤخذ له بقوة الأمر الإلهي، كما ورد في قوله تعالى من سورة التوبة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
وهنا تحضرني قصة المهندس صلاح عطية الذي جعل الله شريكاً له في تجارته.
بدأ المهندس الزراعي صلاح عطية في قرية تفهنا الأشراف في محافظة الدقهلية في شمال شرقي دلتا مصر باشتراك تسعة من الشباب في مشروع بسيط حلموا به معاً أثناء فترة تجنيدهم الإلزامي.
وفي عام 1974، اتفق التسعة على إنشاء مزرعة دواجن بتكلفة إجمالية 2000 جنيه، لكنهم كانوا يبحثون عن شريك عاشر، لتسهيل العمليات الحسابية للمشروع.
وخلال بضعة أيام عاد إليهم عطية باقتراح غريب، وهو أن يكون شريكهم العاشر هو الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال تخصيص نسبة 10% من الأرباح لإنفاقها في وجوه البر، فوافقوا على ذلك، وأسموه في عقد الشركة «الشريك الأعظم».
كانت حصيلة الأرباح في الدورة الأولى لمزرعة الدواجن أكثر مما كانوا يتوقعون، فقرروا في الدورة التالية زيادة حصة «الشريك الأعظم» إلى 20%، لكن لم تلبث أن تكررت الأرباح الهائلة، فزادوا حصة «الشريك الأعظم» إلى 30%، وهكذا دواليك إلى أن وصلت حصة «الشريك الأعظم» إلى 50٪.
بدأ الشركاء ينسحبون واحداً تلو الآخر، للتفرغ لطموحاتهم الشخصية ومشاريعهم الخاصة، ولم يتبق إلا عطية الذي جعل المشروع في نهاية المطاف بأكمله وقفاً لله تعالى بحصة 100%، لا يأخذ من أرباحه شيئاً، اللهم إلا راتباً بسيطاً نظير إشرافه على المشروع وإدارته له، كي يغطي منه نفقاته الضرورية للحياة.
توفي عطية في عام 2016، دون أن يظهر في وسائل الإعلام طوال فترة حياته، ودون أن يكون له أي نشاط سياسي أو حزبي أو دعوي، تاركاً ورأه وقفاً يبلغ حجمه حوالي مليار جنيه، بنى منه في قريته مستشفى، إضافة إلى عدد من المعاهد الأزهرية، للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في قريته وفي القرى المجاورة.
كان طموحه أن يبنى كلية في هذه القرية الصغيرة التي لا يتجاوز تعداد سكانها 6000 نسمة، لكن الحكومة رفضت، بسبب أنه لا يوجد لها محطة قطار، فتكفل ببنائها، أما الكلية فقد أصبحت أربع كليات، لتكون بذلك قرية تفهنا الأشراف القرية الوحيدة على مستوى مصر التي يوجد بها كليات جامعية.
وقد انصب اهتمام المؤرخين المسلمين على سير الساسة والعسكريين والعلماء، لا على سيرة عامة المسلمين كمجتمع مكون من أفراد، لذلك أشار الأكاديمي القطري حسن الرميحي في لقاء معه على برنامج “بودكاست داخل الصندوق” على يوتيوب الذي أسهب في الحديث عن الوقف ومهيته وتحولاته على مر العصور.
بدأ الرميحي بتعريف الوقف من زاوية اجتماعية على انه ممارسة خيرية كانت ولا تزال موجودة تعبر عن فاعلية الفرد رغبة منه في تقديم عمل خيري للمجتمع، بشرط أن يكون لديه أصل ما يدر أموالاً، مثل عقار يدر إيجاراً، أو أرض تدر حصاداً، أو صندوق استثماري يدر أرباحاً، وبذلك يتحول الأصل من ملكية واقفه إلى ملكية الله تعالى، ولا رجوع عن ذلك القرار، وبالتالي لا يُباع ولا يُورّث حتى قيام الساعة.
سعى الرميحي إلى تبسيط المعنى لمشاهديه، لذا عرفه من زاوية اجتماعية، إلا أن ما قاله لا يختلف عن كلام الفقهاء واللغويين، حيث يقول الحموي في المصباح المنير وقفت الدار وقفا حبستها في سبيل الله”،
ويقول الحسيني في تاج العروس “الحبس: كل شيء وقفه صاحبه وقفا محرما لا يباع ولا يورث من نخل أو كرم أو غيرها، كأرض أو مستغل يحبس أصله وتسبل غلته”،.
فحق الملكية حق له قدسيته في الشريعة الإسلامية، لدرجة أن من مات دفاعاً عن ماله يعتبر شهيداً، كم ورد في الحديث النبوي الذي رواه سعيد بن زيد عن رسول الله ﷺ “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ”.
ولا يستطيع أحد في شرع الله أن يغصب ملك أحد، إلا بمسوغ شرعي، كأن يكون سداداً لدين عليه أو تحقيقاً لمصلحة عامة مع تعويض المالك تعويضاً عادلاً عما نُزعت منه ملكيته، فإن تطوع أحدهم بأن جعل ما يملك لله، بأن حبس نفعه في وجه من وجوه البر، فلا يمكن بعد ذلك أن يصادر أو يورث، وليعم بذلك نفعه على من يستوفي شرط واقفه دون انقطاع.
وفي توازن عجيب بين ملكية الفرد وتكافل المجتمع نجح الإسلام في رفع سقف طموح الفرد دون حدود، كل حسب سعيه وجهده، ولكنه في الوقت نفسه فرض في أموال الأثرياء حقاً للفئات المستضعفة في المجتمع، ومنع التعدي على الأملاك ولو تحت ذريعة سلطان الدولة، خلافا لما نشاهده في المجتمعات الشيوعية التي جعلت الملكية مشاعاً وخنقت أي طموح فردي، مما أضر بالمجتمع على مستوى التنافس والابداع.
فإذا كان ملك الأفراد يحظى بهذه الحماية الصارمة، فكيف بما أُوقف لله؟
وبدلاً من منظور صراع طبقات المجتمع في المنظور الشيوعي وما يبثه من أحقاد متبادلة بين الطبقة البرجوازية الثرية وطبقة البرولتاريا العاملة، وكذلك بدلاً من المنظور الرأسمالي الذي يرى أن البقاء للأقوى ويسوغ احتكار الهوامير واستعباد الضعفاء، ولا يسمح هذا المنظور الرأسمالي بأي تنمية بدون غبار الربا الذي تنبأ به رسول الله ﷺ، ورواه عنه أبو هريرة “ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ لا يبقى منهم أحدٌ إلا أكل الرِّبا، فمن لم يأكلُه أصابه من غُبارِه”.
وينفرد المنظور الاقتصادي الرباني الداعي إلى الحب في الله بأن يكون السعي في الخيرات، من خلال العطاء الدنيوي المحدود في انتظار المقابل الأخروي اللامحدود محركاً لا ينبض وقوده، ولا يخفت عزمه، مصداقاً للحديث النبوي الذي رواه أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ”.
علاقة الوقف بالدولة
بعد عصر النبوة بحوالي قرن ونصف كتب قاضي القضاة أبو يوسف الأنصاري في العصر العباسي – المتوفى في عام 798 – كتاب الخراج، ليبين فيه للحاكم المسلم المسؤوليات الشرعية التي يتوجب عليه الالتزام بها.
يلفت الرميحي الانتباه إلى أن كتاب أبي يوسف رغم تفاصيله الكثيرة عن المسائل المالية، لا يوجد به ذكر واحد لأحكام الوقف الإسلامي، مما يدل من وجهة نظره على أنه ليس من ضمن نطاق أعمال الدولة، وأشار الرميحي أيضاً إلى غياب مسألة الوقف في كتاب الأموال المعني بأحكام المال والزكاة والصدقات لأبي عبيد القاسم بن سلام، المتوفى في عام 838.
كانت مهمة الدولة الرئيسة آنذاك تنحصر في توفير الأمن الداخلي والخارجي عن طريق أجهزة الجيش والشرطة والقضاء، بينما يتولى القطاع الخاص باقي جوانب التنمية من تعليم وصحة وغيرها، مع وجود دور إشرافي رقابي للدولة يتمثل في جهاز الحسبة، أو على أقصى تقدير دور تكميلي في حالة عجز القطاع الخاص عن توفير متطلبات المجتمع بشكل كامل.
وعند مراجعة المصطلحات المرتبطة بمفهوم الوقف نجد أن الجهة التي تدير الوقف يُطلق عليها اسم المتولي، سواء كانت هذه الجهة هي الواقف بنفسه أو أي شخص أو جهة أخرى حددها الواقف، ولا يتدخل القاضي إلا إذا أصبح المتولي غير موجود، أو ثبت خلل في أهليته للإدارة، فدور القاضي كان دائماً في أضيق الحدود، أما الحاكم فلا شأن له على الإطلاق بهذا الوقف أو ذاك.
يبين الرميحي أن استقلالية الأوقاف عن الدولة جعلها لا تتأثر أثناء الصدمات السياسية أو حتى عندما يتغير رأس النظام، ومكنها من الاستمرار في رسالتها الخيرية دون تأثير سلبي على الفرد أو المجتمع، لذلك لم يتأثر تطور التعليم ولا طلاب المدارس ولا استقلال العلماء ولا بناء المساجد وعمارتها بأي تغيرات أو حتى انتكاسات سياسية، لأن الوقف لم يكن جزءاً من بيت مال المسلمين التابع للدولة، وإنما كان مبادرات فردية تطوعية لخدمة المجتمع، طمعاً في رضا الخالق سبحانه.
ويضيف الرميحي أن الحاكم حتى لو أوقف شيئاً ما لوجه الله، يعتبر من أوقاف الخاصة داخل المجتمع المسلم، فهو واقف ليس بوصفه سلطاناً، بل بوصفه واحداً من عامة المسلمين،و رغم شيوع فخمة وكبر وكثرة الأموال التي يوقفها الحكام عادة، إلا أنه كان باباً يمكنه من التدخل في لب ما يُعلم داخل المدارس.
ويمكن ملاحظة ذلك في زمن المماليك الذين كانوا متمذهبين على المذهب الشافعي، فكانوا يوقفون أموالاً كثيرة على المدارس الشافعية التي أصبح لها حضور كبير في مدن الشام، بسبب هذه الأوقاف التي أوقفت عليها، مما أدى ذلك بدوره إلى انتعاش الفقه الاسلامي الشافعي في زمانهم.
أما اليوم، فنحن نعيش في زمن أصبحت الصورة فيه معكوسة، إذ أصبحت هذه الجوانب التنموية من اختصاص القطاع العام بشكل رئيس وشبه حصري، وأصبح للقطاع الخاص دور تكميلي ثانوي، في حالة عجز الدولة عن مواكبة متطلبات المجتمع بشكل كاف.
يقول سيد المنسي في مقال له بعنوان الوقف في العصر الحديث إن اهتماماً شديداً ظهر”بضبط نظام الوقف من قبل الدولة؛ وذلك نظراً لأهميته ودوره وتنوع خدماته وتأثيره في حركة المجتمع، علاوة على أن النظام الوقفي أصابه الكثير من سوء الإدارة؛ مما ضيَّع أهدافه وأعطى الحجة لوضع اليد عليه، فقامت الدولة بإعادة تركيب نظام الوقف لمكافحة الهدر وبيع الأوقاف غير المنتجة وغير ذلك من الإجراءات؛ فكانت النتيجة في معظم الدول تراجعاً في عدد الوقفيات بامتناع الأفراد عن المبادرة الفعالة تجاه المجتمع، إضافة إلى ضياع أعداد كثيرة من الممتلكات الوقفية.”
أقسام الأوقاف
وككل الجوانب الاقتصادية تتشعب وتتنوع أقسام الأوقاف من حيث الحكم الشرعي، والجهة الموقوف عليها، وآلية الإدارة، ومضمون الوقف الاقتصادي، مما يعكس تطور هذا النظام عبر العصور وتنوع تطبيقاته بين الأفراد والدولة.
يستعرض الأستاذ الدكتور خالد المشيقح في كتابه الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا (2013) تصنيفاً شاملاً لأنواع الوقف كما عرفه المسلمون، فبحسب الأحكام الشرعية، ينقسم الوقف إلى مستحب وهو الأصل، أو واجب كأن يكون وفاءً بنذر، أو مباح كأن يكون وقفاً بجميع ماله، أو محرم كأن يكون الوقف محظوراً شرعياً، أو مكروه كأن يكون الواقف فقيراً ووارثه محتاج.
كما ينقسم الوقف بحسب الجهة المستفيدة إلى وقف على جهة عامة غير محصورة كالمساجد أو الفقراء، أو على جهة خاصة محصورة، كأن يكون على شخص أو فئة محددة كالأرامل أو الأيتام.
ويفصل التقسيم بين الوقف المشترك الذي يشترك فيه أكثر من شخص، والوقف الخاص الذي ينفرد به شخص واحد.
ويتغير الوقف أيضاً حسب حالة الواقف: وقف في حال الصحة الموفورة وهو الأصل، أو وقف أثناء المرض، وهنا لا يُعتد فيه إلا بثلث التركة، ولكن ما زاد على ذلك مرهون بموافقة جميع الورثة.
ويشمل الوقف أنواعاً مختلفة بحسب المحل، كأن يكون عقاراً، أو منقولاً، أو أموالاً نقدية، أو منافع، أو حقوقاً معنوية.
وينقسم الوقف إلى مؤبد لا يملك الواقف الرجوع عنه، أو وقف مؤقت ينتهي بانتهاء مدة محددة.
أما الاتصال والانقطاع، فتعددت أشكال الوقف، فبعضها متصل من البداية إلى النهاية كالوقف على طلاب العلم، وبعضها منقطع الابتداء والانتهاء كوقف على مستفيد لا وجود له، وبعضها يبدأ متصلًا وينقطع لاحقًا كوقف على شخص بعينه وينقطع مع وفاته، أو العكس كأن يضع شرطاً بعد وفاة المستفيد، يترتب عليه انتقال الوقف لعامة الفقراء.
وينقسم الوقف حسب الجهة الواقفة إلى أوقاف القطاع الخاص وأوقاف القطاع العام، بما في ذلك الإرصاد، كأن يكون تخصيص أرض من بيت المال لمصلحة عامة.
واقتصادياً، يُصنف الوقف إلى مباشر يعود ريعه مباشرة للجهة المستفيدة، أو استثماري يدار للحصول على عائد، كما يفرق الباحثون بين وقف الاستعمال ووقف الاستغلال.
ومن حيث الإدارة، هناك أوقاف مضبوطة تتبع إدارة مخصصة لذلك، وأخرى ملحقة يشرف عليها قائم تحت إدارة رسمية.
ويوضح الرميحي أن وقف الحاكم المعروف بالإرصاد هو وقف يوقفه شخصياً من بعض مال بيت المال، وهو ما يمكن اعتباره نوعاً من مخاطبة ود المزاج الشعبي الداعم بكثافة للأوقاف، لإضفاء شرعية على سلطانه، وقد كان العصر الذهبي للأوقاف في عهد المماليك، كونهم كانوا في الأصل عبيداً، ثم تحولوا إلى حكام يسعون لاستقطاب المجتمع تحت سلطتهم الجديدة.
كما اهتمت الدولة العثمانية بوقف السلاح، مما طور صناعة الأسلحة، واهتمت أيضاً بوقف النقود، من خلال وقف مبالغ تمول التجار على سبيل المضاربة والمشاركة في الأرباح، مما أدى إلى حركة تنمية غير مسبوقة، وهو ما تشهد عليه حواضر ومدن الدولة العثمانية، ومنها على سبيل المثال مدينة سراييفو.
وقد اتسع وقف إنارة المسجد الأقصى في عهد العثمانيين، خاصة من قبل زوجات السلاطين والمقتدرات، بسبب سماعهن لحديث نبوي رواه أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن ميمونة رضي الله عنها قالت “قُلتُ: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر، ايتوه فصلّوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قُلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن لم أستطع أن أصل إليه؟ قال: فتهدي إليه زيتاً ليُسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه”.

دور الاستعمار في تقليص حجم الأوقاف
عاش المسلمون ينعمون في ظلال الأوقاف الوارفة التي لم تتراجع إلا مع غزو الاستعمار الكئيب للعالم الإسلامي، حيث واجه المستعمر البريطاني الذي أتى للهند تحت غطاء تجاري مزعوم مع شركة الهند الشرقية عقبات إدارية بسبب انتشار الأوقاف التي لا يجوز شرعاً وقانوناً بيعها.
فاستشار المحتل البريطاني المستشرق وليم جونز أحد أساتذة جامعة أوكسفورد، حيث أوصى بدراسة الفقه الحنفي الذي يتبعه حكام الهند من المسلمين المغول، وهنا وجد المحتل ضالته من خلال إنشاء محاكم يرأسها قضاة بريطانيون يدّعون الاحتكام إلى الفقه الإسلامي بعد ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، ثم من خلال هذه المركزية القضائية لم يعد الوقف الإسلامي مبادرة يقوم بها الفرد في معزل عن سلطة الدولة.
وبذلك أصبحت السلطة الحاكمة قادرة لأول مرة في تاريخ المسلمين على إثارة الشكوك حول مشروعية الوقف الذُري الذي يكون وقفاً على ذُرية الواقف، استناداً إلى سوء تفسير الحديث النبوي الذي رواه أبو أمامة الباهلي في سنن أبي داوود “إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ؛ فلا وصيَّةَ لوارث”، فأبطل الأوقاف الأهلية.
أما المستعمر الفرنسي في الجزائر فقد لجأ لاستراتيجية أخرى بحجة أن الوقف يعوق التطوير العقاري والتنموي، واصطدم دموياً مع الشعب الجزائري.
ومع بداية القرن التاسع عشر انتقلت هذه الأفكار إلى والي مصر محمد علي باشا المهوس بالتحديث على النموذج الغربي، خاصة أن الأوقاف لا يجوز فرض الضرائب عليها، واستعان بمن أفتاه بجواز إلغاء الوقف.
وكي يستوعب محمد علي غضبة المصريين سنّ الدرجات الوظيفية والرواتب، ومنذ هذه اللحظة زاد توغل الدولة في اقتصاد الشعب، واعتماد الرعية عليها في معاشها.
وما زاد الطين بلة، أنه خلال بضعة عقود، أصدر السلطان العثماني في اسطنبول في العقد الرابع من القرن التاسع عشر قراراً بإرسال ريع أوقاف الإرصاد على مستوى الدولة إلى اسطنبول، لكي يُوزَع فيما بعد بشكل مركزي، بحجة مواجه الفساد، وأيضاً من أجل الصمود العسكري أمام هجمات الروس، مما أدى إلى انهيار صناعات ومدارس وأنشطة خيرية في مختلف ربوع الدولة العثمانية كانت تستفيد من هذه الأوقاف.
ثم تحولت الأوقاف في تنظيمها إلى قوانين وضعية ولم تعد اجتهاداً فقهياً يتطور مع متغيرات الزامن وتقلبات الظروف، ومن شواهد ذلك الجمود الفقهي مجلة الأحكام العدلية التي صدرت لأول مرة في 1882، واستمرت في النشر لقرابة ستة عقود، إلى أن أوقفها السلطان عبد الحميد آخر سلاطين الدولة العثمانية قبيل إلغائها في 1922 على يد مصطفى كمال أتاتورك.
وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الأوقاف اجتماعياً وذبول الاجتهاد الفقهي تحت وطأة سلطة الدولة، وبذلك لم يعد للفرد المسلم حافز أخروي للمساهمة في تطوير المجتمع وتنميته.
الوقف في دولة قطر
استلهم المشرع القطري في العصر الحديث من ميراث الفقه الإسلامي تشريعاته المنظمة للوقف وسنّ بنوداً تقننه وتدعمه، فغطى آخر قانون بشأن الوقف رقم (9) لسنة 2021 جوانب عديدة في 58 بنداً.
فأتت أنواع الوقف التي حددتها المادة رقم (5) قريبة من المفهوم الفقهي على النحو التالي: “وقف خيري: وهو ما يُخصص نفعه ابتداءً لجهة خير، ووقف أهلي: وهو ما يكون فيه الوقف على الواقف نفسه أو ذريّته، أو عليهما معاً، أو على أي شخص، أو أشخاص آخرين أو ذريّتهم، أو عليهم جميعاً، على أن ينتهي في جميع الأحوال إلى جهة خير معيّنة، ووقف مشترك: وهو ما خُصصت منافعه لجهة خير وجهة أهلية معاً، ووصية بوقف خيري أو أهلـي أو مشترك، وتُعد الوصية بأعمال الخير وقفاً، ما لم يشترط الموصي غير ذلك”.
ومن تشريعات الوقف في دولة قطر ما جاء في المادة رقم (6)، حيث “يجوز وقف أي مال، عقاراً كان أم منقولاً، بما في ذلك الأسهم والسندات، وجميع الأوراق المالية التي تقبل طبيعتها الوقف، والأصول غير الملموسة، وذلك متى كانت تلك الأموال مستغلة استغلالاً جائزاً شرعاً، كما يجوز وقف النقود للإقراض، أو لتحويلها إلى أصل، أو لإيداعها في حساب استثمار بالمصارف الإسلامية”.
كما أكد المشرع القطري على عدم جواز بيع الوقف أو استبداله، إلا بشروط، وذلك وفقاً للمادة رقم (15)، حيث لا يجوز إلا “للإدارة المختصة بيع الوقف أو استبداله بعد موافقة الوزير، إذا لم توجد جهة تنفق عليه، وخيف عليه من الهلاك أو تعطلت منافعه، وصار لا يُنتفع به فيما حُبس من أجله، ويتعيّن في حال بيع الوقف شراء أعيان جديدة تحل محل الأعيان المباعة واستثمارها في وجه من وجوه الاستشمار الجائزة قانوناً، وصرف ريعه في مصارف الوقف الأصلي، ويجوز لها بيع بعض الموقوف لإصلاح بعضه الآخر، إذا لم تكن عوائده كافية لإصلاح ما تَلُفَ منه”.
وللمساجد أهمية خاصة في القانون القطري، فأي مسجد بُني وافتُتِح للصلاة يُعتبر تلقائياً وقفاً لله تعالى، كما ورد في المادة (27) التي نصت على أن “تُعتبر المساجد، أرضاً وبناءً، أياّ كان من شيّدها، وقفاً لله تعالى، متى فُتحت وأقيمت فيها الصلاة للكافة، وتدخل في حكمها المرافق المخصصة لخدمتها، واستثناءً من ذلك إذا أقيم المسجد على أرض مملوكة للدولة دون موافقات الجهات المختصة فلا يعتبر وقفاً، إلا بعد موافقة هذه الجهات واستيفاء كافة الشروط والضوابط والمعايير التخطيطية والتراخيص اللازمة”.

أهمية الوقف في العصر الحالي
يُذكّر المنسي في مقاله بأن “التحول الذي طرأ على النظام الوقفي والاهتمام به لم يكن مجرد نتيجة ابتكار من وحي الخيال بل هي قضية تأسست على الرغبة في تحويل المجتمع من مجتمع معوز يفتقر إلى عناصر للدفع الذاتي إلى مجتمع يساند بعضه بعضاً، ليسدوا حاجتهم وليكملوا مسيرتهم ليصلوا إلى أكمل المعاني في الحقوق الإنسانية والفردية التي بها يعلو شأن كل أمة”.
ولا يتبقى على المجتمعات المسلمة إلا أن تتوسع في نشر الوعي بالوقف وأنواعه لاستعادة ازدهاره كما كان في الأزمنة السابقة، فأي دولة سترحب لا محالة بأي نشاط تطوعي يخفف من عليها أعباء تنيمة المجتمع وتطويره، فالتنافس فيها من شيم المؤمن الحريص على سد ثغرات أمته.
لا يمكن إنكار المبادرات التي يقوم بها العديد من الأفراد في مجال الأوقاف، ومثال على ذلك “وقف الوقوف” الذي أوقفت له فاعلة خير في قطر مبلغ 100 ألف ريال من أجل أن يولد أوقاف جديدة ويدعم أوقافاً قائمة بالفعل، إضافة إلى الندوات التي تنظمها الجامعات التي تدعو إلى تبني تشريعات تدعم تحويل الوقف الخيري التقليدي إلى وقف يواكب العصر الرقمي.
وقد تساءل المشاركون في الندوة العلمية حول الاستثمار الواقعي لأموال الوقف الخيري في جامعة قطر “ما المانع من إنشاء مدرسة رقمية تقدم التعليم عن بُعد؟ وما المانع من وجود تطبيقات تعليمية، صحية، وثقافية تسهم في أعمال البر وتسهم في بناء مجتمع مدني متقدم؟ وهو ما يمكن أن يتجاوز دائرة المجتمع القطري لينطلق الى المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي”.
إن تراجع الأوقاف في العالم الإسلامي أدى إلى انقراض أعمال من البر كانت في غاية اللطف والإنسانية، واستبدالها بمؤسسات تبنت نموذج المجتمع المدني الغربي الذي يفتقر إلى البعد الأخروي والاستقلالية المالية في كثير من الأحيان، مما أدى إلى فتور عامة المسلمين عن المشاركة فيه، كما فتروا عن الديمقراطية العلمانية مقارنة بارتباطهم بمفهوم الشورى الإسلامي.
فنموذج المجتمع المدني الغربي يُعاني مقارنة بالوقف الإسلامي من مشكلة انعدام المرجعية الدينية، والاعتماد المالي المؤقت، وغياب المشروع الحضاري المستقل، وتعرضه للتأثيرات السياسية، بينما يتمتع الوقف الإسلامي بديمومة مطلقة، واستقلالية شرعية، وشمولية خيرية.
إن هذه الرحمة التي يقدمها المسلم حباً وكرامة منه بهذا الحس المرهف في حياته وبعد مماته لمجتمعه من مسلمين وغير مسلمين، من بشر وغير بشر، طمعاً منه في غفران الخالق ورضوانه، لا يمكن أن تقارن بأي تشريع ضريبي تفرضه سلطة بشرية، أو ترصده حسابات بنكية، أو تروجه أفكار فلسفية.