منذ طفولتي وأنا أراقب بإعجاب شديد مبنى مكتب البريد العام في الخليج الغربي بالدوحة، منبهرة بشكله الفريد الذي يشبه بيوت حمام الزاجل الضخمة، وكأن الرسائل تطير منه وإليه، حاملة قصص البشر من مكان إلى آخر.
كلما مررت بجانبه، كان المشهد يرسخ أكثر في ذاكرتي، خاصةً تلك الأقواس الخرسانية الضخمة النصف أسطوانية التي تزين سقفه، والتي عَرفت لاحقاً أنها صممت ليس فقط لتمنح المبنى شكله المميز، بل أيضاً لتدخل الإضاءة الطبيعية بنسب متفاوتة مشكلة ظلالاً بتصميم معين، وهذا يعتبر أمراً بالغ الأهمية مع درجات حرارة تتجاوز أحياناً 50 درجة مئوية في صيف قطر.
شُيد مبنى البريد في عام 1979، على يد المكتب الهندسي البريطاني تويست + ويتلي للمعماريين، ويضم بداخله إلى جانب قاعات الخدمات حوالي 25 ألف صندوق بريد، مما يجعله مركزاً حيوياً لخدمات البريد العامة، وفقاً لموقع ليزر سكانينغ.
بالنسبة لي، بقي هذا المبنى رمزاً جميلاً في حياتي، ليس فقط بسبب تصميمه الفريد، بل أيضاً لأنه يُمثل قصة نجاح معمارية جمعت بين الجمالي والوظيفي، إضافة إلى أنه بات جزءاً من ذاكرتي وطفولتي.
اليوم، رغم أننا نرسل رسائلنا بنقرة زر عبر البريد الإلكتروني وتطبيقات المحادثة، يبقى للبريد التقليدي نكهة خاصة، نكهة حنين إلى زمن كان الساعي فيه بطلاً، والطابع فيه وعداً.
وفقاً لموقع بريد المغرب، فإن الإنسان منذ أن بدأ يحلم بالتواصل مع من هم بعيدين عنه، وُلدت فكرة البريد، وكان ذلك قبل ظهور الكتابة، إلا أن الحضارات القديمة مثل المصريين القدماء والأشوريين واليونانيين ابتكروا طرقاً بدائية لنقل الرسائل، بعضها كان يُنقش على ألواح طينية ويحملها سعاة شجعان يعبرون الصحاري والأنهار.
والمدهش أنه في العصور القديمة لم يكن البريد مجرد مهنة بسيطة، بل كانت مغامرة خطرة، إذ كان الساعي يورث ممتلكاته قبل أن ينطلق برسالة، وكأنه يستعد لرحلة بلا عودة.
لاحقاً، أنشأت الإمبراطورية الفارسية شبكة بريدية مذهلة تمتد لأكثر من 2500 كيلومتر باستخدام الخيل، أما الرومان فقد أنشأوا نظاماً مذهلاً لنقل الرسائل أطلقوا عليه اسم “كورسوس بوبليوس”، كشبكة طرق ومحطات بريدية منظمة تفوقت على ما سبقها.
استمر نظام البريد في التطور منذ ذلك الحين حتى أتى اليوم الذي اُخترع فيه طابع البريد، وتعود جذور الفكرة إلى منتصف القرن التاسع عشر، حين كان المستلم هو من يدفع رسوم البريد، مما دفع الكثيرين لرفض استلام الرسائل المكلفة، لتتحمل بذلك مصلحة البريد كلفة نقل كم كبير من الرسائل ذهاباً وإياباً دون مقابل.
يروي حسين شيرازي في كتابه قصة البريد (2024) أنه عندما نزل السير رولاند هيل، مدير البريد البريطاني، في أحد الفنادق، ولاحظ فتاة تتسلم رسالة من لندن، وعندما طلب منها ساعي البريد دفع رسوم باهظة بسبب بُعد المسافة، رفضت وأعادت الرسالة، وهنا عرض رولاند تغطية التكاليف عنها، إلا أنها اعتذرت بلطف.
لاحقاً، اكتشف هيل أن الفتاة كانت قد اتفقت مع خطيبها على تبادل رسائل مشفرة، عبر كتابة رموز على الظرف، فدائرة حول الأحرف الأولى تعني “أحبك”، وخط تحت اسم المرسل يعني “لست على ما يرام”، وتاج صغير في الزاوية يرمز إلى “سوف أزورك في الإجازة”، وهكذا كانت تَطّلع على أخبار خطيبها دون أن تدفع شيئاً.
التحقيقات كشفت أن هذه الحيلة كانت شائعة، مما تسبب بخسائر للبريد البريطاني، ومن هنا خطرت للسير رولاند فكرة ابتكار الطابع البريدي، عبر دفع المُرسِل للرسوم مقدماً وبسعر موحد، بغض النظر عن المسافة، لتنظيم المراسلات وتفادي التحايل، ثم تبنت العديد من الدول فكرة الطابع وأصبح أمراً عالمياً ممتداً من شرق العالم إلى غربه.
وعودة إلى مبنى مكتب البريد، الذي صممت حديقته من تلك الطوابع البريدية، على مساحة عشرين ألف متر مربع، ترتسم ثلاثة طوابع متصلة ببعضها البعض، بخطوط متناغمة تحيط بها المساحات الخضراء، فتبدو الأرض نفسها وكأنها رسالة مفتوحة للعابرين.
كل زاوية من الحديقة تنبض بحكاية طابع قطري، الأشجار، المسارات، أماكن الجلوس وحتى الممرات، جميعها صُممت لتكون امتداداً بصرياً ووظيفياً لمبنى البريد العام. وكأن الدولة أرادت أن تحفظ للذاكرة الجمعية مشهداً ظل محفوراً في وجدان القطريين طوال ثلاثة عقود مضت.
بين الأشجار الوارفة والممرات المخصصة للمشي والركض وركوب الدراجات، شعرت أني أسير فوق صفحات رسالة قديمة كتبتها قطر بيديها، ومع كل خطوة، كانت الحديقة تهمس لي “كل شيء هنا مستوحى من الطوابع التي حملت هوية هذا الوطن إلى العالم”.
حتى الأعمال الفنية التي زيّنت الحديقة، بإبداع الفنانتين القطريتين مريم المعضادي وفاطمة الشرشني، جاءت لتعزز هذه الفكرة، فهي ليست مجرد جداريات، بل رسومات تحكي باللون والشكل عن تراثنا القطري.
لم تكن الحديقة مجرد مساحة خضراء أضيفت إلى مدينة تتجمل، بل كانت رسالة حب مختومة بطابع، أرسلتها قطر لكل من يؤمن بأن الأماكن قادرة على احتضان أرواحنا كما تحتضن الطوابع رسائلنا.

يحكي موقع مؤسسة بريد قطر قصة البريد فيها، أنه في عام 1950 تأسست المؤسسة العامة للبريد في الدوحة، وكانت الطوابع البريطانية بفئات الروبية الهندية هي المستخدمة آنذاك، مطبوعاً عليها كلمة قطر باللغة الإنجليزية.
كانت البداية بسيطة، برسائل تُختم يدوياً وتُرسل عبر مكاتب قليلة، وظهر أول ختم لتاريخ الإرسال في عام 1953 في مكتب بريد الدوحة، وبعد سنوات قليلة امتدت الخدمة إلى دخان ومسعيد.
وفي عام 1961، بدأ القطريون بإصدار طوابعهم الخاصة التي تحمل عملتهم وهويتهم وصورة أميرهم، وطوابع أخرى عليها رسومات لإنجازات قطر ومناسباتها الوطنية.
بعد ثلاثة عقود أصدرت دولة قطر قانون رقم (14) لسنة 1990 في شأن تنظيم أعمال البريد، ونص على احتكار وزارة المواصلات والنقل تقديم الخدمات البريدية مع ضمان سرية المراسلات وعدم جواز الاطلاع عليها إلا وفق أحكام محددة.
حدد القانون أنواع المواد البريدية، مثل الرسائل والبطاقات والمطبوعات والرزم الصغيرة، ومنع إرسال مواد مثل المتفجرات والمواد المخلة بالعقيدة، كما نظم الحوالات البريدية وحدد مسؤولية الإدارة المختصة عن فقد أو تلف المواد البريدية المسجلة، وآليات التعويض، والمخالفات والعقوبات المرتبطة بانتهاك سرية البريد أو تزوير الطوابع.
استمر العمل بالاتفاقيات البريدية العربية والدولية النافذة، مثل الاتفاقية البريدية المعدلة الخاصة بهيئة بريد الخليج، الصادر بالتصديق عليها المرسوم رقم (16) لسنة 1984، وعلى قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني عشر للاتحاد البريدي العربي، الصادر بالتصديق عليها المرسوم رقم (1) لسنة 1987، وعلى اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية والاتفاقيات التجارية المتعددة الأطراف الملحقة بها، الصادر بالتصديق على انضمام دولة قطر إليها المرسوم رقم (24) لسنة 1995، مع منح وزير المواصلات والنقل صلاحية إصدار اللوائح التنفيذية.
لاحقاً، تم تحويل المؤسسة العامة للبريد إلى الشركة القطرية للخدمات البريدية، بموجب المرسوم بقانون رقم (16) لسنة 2009، برأس مال قدره 100 مليون ريال قطري.
تتخذ الشركة من الدوحة مقراً لها وتقدم الخدمات البريدية التقليدية وخدمات التوصيل الإلكتروني والتجارة الإلكترونية، مع الحق في تأسيس شركات أو شراكات محلية ودولية.
في عام 2017، أطلقت الشركة هويتها الجديدة تحت اسم “بريد قطر”، وأدارت 23 فرعاً حديثاً، كما حصلت على اعتراف الاتحاد البريدي العالمي كثاني أفضل مكتب بريد في العالم لعام 2018.
ثم صدر قانون رقم (15) لسنة 2023 لتنظيم الخدمات البريدية ملغياً القانون السابق الذي نص على أن هيئة تنظيم الاتصالات التي أنشأت في عام 2014، لتتولى الإشراف الكامل على قطاع البريد، بما يشمل إصدار التراخيص، وتنظيم المنافسة، وحماية سرية المواد البريدية، وضمان جودة الخدمات.
أصبح الترخيص شرطاً أساسياً لتقديم الخدمات البريدية، مع حظر تسليم أو تسلم مواد خطرة أو مخالفة للآداب. وألزم مقدمي الخدمة بالالتزام بشروط الأمن والسلامة، وتوفير معلومات دقيقة عن الأسعار وجودة الخدمات، وحفظ سجلات العمليات البريدية.
نص القانون على فرض غرامات تصل إلى 500 ألف ريال للمخالفين، مع تنظيم تسوية النزاعات قبل اللجوء إلى القضاء، كما حافظ على الامتياز الممنوح للشركة القطرية للخدمات البريدية لحين انتهاء مدته أو إلغائه.

وفي عام 2025، نشرت الجريدة الرسمية لوائح تفصيلية لتنظيم الخدمات البريدية، شملت آلية تقديم الخدمات، ومعايير جودة الخدمة، والتعامل مع المواد البريدية المشبوهة، وإجراءات مصادرتها أو حجزها عند الضرورة.
حددت اللوائح شروط ترخيص مقدمي الخدمة، بما يشمل الشفافية في التسعير وعدم التمييز بين العملاء، وألزمت مشغل البريد العام بتحديث سجل الرمز البريدي، وإتاحته للاستخدام العام.
كذلك وضعت اللوائح قائمة بالمواد المحظورة، مثل المواد القابلة للاشتعال والمخالفة للآداب العامة، مع التزام الهيئة بتحديث القائمة بانتظام.
وهناك قائمة بالمواد المحظور شحنها عبر خدمات بريد قطر، وتشمل المواد المتفجرة بجميع أنواعها، مثل الألعاب النارية، والمفرقعات، والبودرة المستخدمة في تصنيع المتفجرات، محظورة بشكل قاطع، كما تم التأكيد على منع شحن أي غازات مضغوطة، بما في ذلك أسطوانات البروبان، وأسطوانات الغطس، وعبوات الرذاذ المضغوط مثل بخاخات الشعر وعبوات الغاز المحمولة.
وأشار بريد قطر إلى أن المواد القابلة للاشتعال، مثل العطور، وطلاء الأظافر، ووقود الولاعات، وزيوت الطلاء والأصباغ، تشكل خطراً كبيراً ولا يُسمح بشحنها عبر البريد، كما أدرجت المواد الكيميائية المؤكسدة مثل الكلور ومركبات بيروكسيد الهيدروجين ضمن قائمة المواد المحظورة، إضافة إلى المواد السامة والمعدية بما في ذلك المبيدات الحشرية، والمواد الزراعية الكيميائية، والفيروسات، والبكتيريا، ومركبات الزئبق.
وأوضح البريد أن المواد المشعة، مثل المصادر الإشعاعية وكواشف الدخان، تُعد من المواد عالية الخطورة، ولا يمكن نقلها تحت أي ظرف عبر شبكة البريد، كما تشمل قائمة المحظورات المواد المسببة للتآكل مثل الأحماض والبطاريات السائلة، والمواد المغناطيسية والبضائع التي تحتوي على جليد جاف أو بطاريات ليثيوم غير مركبة أو بطاريات تتجاوز الحدود المسموح بها للطاقة.
وشدد بريد قطر على أن بطاريات الليثيوم، بما في ذلك البطاريات المستخدمة في الدراجات الكهربائية، والكراسي المتحركة الكهربائية، والهوفر بورد، وأجهزة الترفيه المحمولة مثل الكاميرات الرقمية وألعاب التحكم عن بُعد، تخضع لقيود صارمة ويُمنع شحنها ما لم تكن مركبة بشكل آمن داخل الأجهزة.
كما نبه إلى أن المواد المزيفة أو المقرصنة تُعتبر محظورة بشدة، ويعد نقلها عبر البريد جريمة اقتصادية خطيرة قد تؤدي إلى مصادرة الشحنات أو إتلافها، وأكد أن مثل هذه المواد، بما في ذلك الأدوية المقلدة، لا تهدد فقط حقوق الملكية الفكرية بل قد تشكل أيضًا خطرًا جسيمًا على صحة المستهلكين.
وأضاف بريد قطر أن هناك أنواعاً أخرى من المواد التي لا يُسمح بشحنها عبر خدماته، مثل الحيوانات الحية والزواحف، والأموال النقدية، والعملات المعدنية، والأوراق المالية القابلة للدفع لحاملها، والشيكات السياحية، والذهب والفضة والأحجار الكريمة والمجوهرات، ما لم تكن مشحونة ضمن ترتيبات خاصة ومؤمنة بالكامل.
وأكد بريد قطر في ختام بيانه التزامه الكامل بالتعاون مع الجهات الجمركية المختصة لمنع تداول هذه المواد، وذلك حفاظاً على سلامة البريد الوطني وضمان حماية الأفراد والمجتمع من أي مخاطر محتملة مرتبطة بالشحنات غير الآمنة.
وهكذا، بين مبنى البريد الذي شهد خطواتي الأولى وابتكار الطابع الذي نظم رسائل البشر عبر العصور، وبين الحديقة التي اتخذت من الطابع البريدي روحاً وجسداً، أدركت أن البريد في قطر لم يكن يوماً مجرد وسيلة تواصل، بل كان وما يزال ذاكرة وطن.
في كل تفصيلة، من أقواس المبنى إلى خطوط الحديقة الخضراء، كانت قطر تكتب رسالتها الأجمل “أن الأماكن، حين تحتضن قصصنا، تصبح جزءاً من قلوبنا”.
واليوم، كما في الأمس، أعبر بجوار مكتب البريد، أشعر أن الزمن كتب لي رسالة، ختمها بطابع من حب.