عزم أصحاب القرار في قطر أن يجعلوا من دولتهم مركزاً ثقافياً واقتصادياً ورياضياً، ويحولونها لدولة مستدامة، بشعب واع ٍ ومتعلم، ومدرك لدوره الحقيقي للنهوض إلى آفاق جديدة يعزز دورها في المجتمع الدولي.
وللوصول إلى هذا الهدف، كان من الضروري أن تُرسم خطة مستقبلية وطموحة، ذات أهداف ورؤية واضحة تلبي تطلعات الشعب، وتراعي ما لدى الدولة من معطيات وموارد، وما ينقصها ويجب توفيره للوصول إلى الرفاه والازدهار.
ولتحقيق هذه الغاية النبيلة، كان لزاماً على الدولة أن تعبئ طاقات جميع أفرادها، وتسخر كل فرد فيها، مع إعداد الأجيال القادمة ضمن خطة استراتيجية محكمة، تمتد عبر الزمن وتستشرف آفاق المستقبل، بما يضمن تحقيق تنمية شاملة ويعزز وعي المجتمع بجذوره وتطلعاته، ماضيه ومستقبله.
وفي هذا المنحى تم وضع رؤية قطر الوطنية 2030، المرتكزة على التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، إذ تجهز مواطنيها للبناء، وتخلق مجتمعاً عادلاً وأميناً يستند على الأخلاق الحميدة، ويستطيع التفاعل والتعامل مع المجتمعات الأخرى، وقادر على تطوير اقتصاد متنوع وتنافسي يلبي احتياجاته بشكل مستدام، لا يضر ببيئته ولا بمستقبل أبنائه.
فكما قال حاكم قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في وثيقة الرؤية إن رؤية قطر الوطنية هي “جسرٌ يصل الحاضر بالمستقبل، وهي ترسم تصورا لمجتمع حيوي مزدهر تسوده العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ويحفظ التوازن بين البيئة والإنسان، وتشكل القيم الإسلامية العليا فيه والروابط الأسرية القوية دعامته الأساسية، وسبيلنا لتحقيق هذه التطلعات هو حشد طاقاتنا الجماعية وتوجيهها.”
التنمية البشرية
وفقاً لآخر تقرير نشر لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حصلت دولة قطر على المركز رقم 40، والذي يعتبرها من بين الدول ذات التنمية البشرية العالية جداً، وذلك استناداً إلى نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي، والعمر المتوقع عند الولادة، ومتوسط سنوات الدراسة، والعدد المتوقع لسنوات الدراسة.
التنمية البشرية، كما عرفها الاقتصادي الباكستاني محبوب الحق، هي عملية توسيع حريات الناس وفرصهم وتحسين رفاهيتهم، حيث تتعلق بالحرية الحقيقية التي يمتلكها الأفراد ليقرروا من يريدون أن يكونوا، وماذا يفعلون، وكيف يعيشون.
تركز التنمية البشرية على تحويل اقتصاد قطر الذي يعتمد بشكل رئيسي على النفط والغاز إلى اقتصاد قائم على المعرفة والتنافسية، ولتحقيق هذا التحول، تركز الدولة على تطوير نظم تعليمية وصحية عالية الجودة، بالإضافة إلى تعزيز قوة العمل المحلية والوافدة.
تهدف قطر إلى بناء نظام تعليمي عالي المستوى يرفع من قدرات مواطنيها، بحيث تتطور هذه الكوادر لتصبح قادرة على تقديم أفضل الخدمات وتتولى المهن الفنية والإدارية، وتلبي احتياجات سوق العمل الحالي والمستقبلي.
وفي هذا السياق ترى الدكتورة عذبة بنت ثامر آل ثاني الرئيس التنفيذي للإدارة وتطوير الأعمال في شركة ديار فينشي القطرية للإنشاءات في مقالها على جريدة الشرق، أن رؤية قطر 2030 متجهة نحو “اقتصاد قائم على المعرفة من خلال الاستثمار في رأس المال البشري الوطني وتطويره من خلال مجموعة متنوعة من الحوافز الاقتصادية والأطر الحكومية التي تشجع الاستثمار في التعليم والابتكار وتكنولوجيا المعلومات.”
ويعتبر الدكتور علي الرؤوف مفهوم الاقتصاد المعرفي “هيكلاً عالميا ًجديداً يسيطر فيه إنتاج السلع المعرفية والخدمات المعلوماتية على فرص الثراء والعمل على السواء، وهو هيكل يعتمد بصورة جوهرية على تقنيات المعلومات والاتصالات التي أصبحت المحرك الاقتصادي الجديد.”
على اعتبار أن الإنتاج مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعلومات والمعرفة وعلى فكرة الإنتاج من خلال الابتكار، وطبيعة هذا المنتج المعرفي انه غير مادي وغير محدود بحدود قومية آو جغرافية، فثورة الاتصالات حولت الأسواق من محلية أو إقليمية إلى دولية عالمية.
التوطين والإحلال
شهدت قطر نمواً سكانياً متسارعاً يعود الجزء الأكبر منه للزيادة المستمرة في قوة العمل الوافدة المصاحبة للنمو الاقتصادي السريع، وما نجم عنه من توسع في الحركة العمرانية والمشاريع الاستثمارية وازدياد مطرد في الإنفاق الحكومي.
وقد أدى كل ذلك إلى ارتفاع كبير في نسبة العمالة الوافدة في قوة العمل، وبالأخص إلى تزايد غير مدروس وغير متوقع في حجم العمالة غير الماهرة، مما يتطلب تحديداً لمسار التنمية وحجم ونوعية العمالة الوافدة المستهدفة الذي يتماشى مع متطلبات الدولة من حيث العمالة المستهدفة كماً ونوعاً.
قدم الباحث أحمد مبارك مجموعة من التعاريف لمفهوم التوطين، إذ يرى بعضهم أن التوطين عبارة عن “تأهيل المواطن للقيام بمهام وظيفة معينة كانت مسندة أعمالها إلى كفاءات غير وطنية، بشرط أن تكتمل جميع عناصر أداء العمل في المواطن”
وبعضهم يرى التوطين من منظور أشمل، حيث يعتبرونه “نظاماً متكاملاً لإدارة الموارد البشرية يشمل عملية خلق بيئة تشجع العمالة الوطنية على الوصول إلى أقصى طاقاتها وقدراتها في السعي لتحقيق احتياجات المنظمة وأهدافها”.
يركز هذا النظام على توطين الوظائف وتطوير المهارات، من خلال صياغة سياسات وممارسات تهدف إلى تحقيق أفضل أداء للعمالة الوطنية، ويتم ذلك عبر التكامل والترابط بين إدارة توطين الوظائف وأنشطة الموارد البشرية، لإيجاد بيئة تعزز قيمة العنصر البشري المواطن وتجعله محور الاهتمام.
وعليه، فإن عملية توطين الوظائف ليست مجرد إحلال أو توظيف للعامل المواطن مكان العامل الأجنبي بل ترتبط بكونها نشاطاً كاملاً لتحقيق الولاء الوظيفي في سبيل تحقيق الأهداف الحالية والمستقبلية من خلال استراتيجيات توظيف فعالة.
قوانين وقرارات
يمثل توظيف المواطنين في المناصب والشواغر المناسبة لهم أحد أولويات الدولة في مجالات التنمية البشرية من خلال زيادة حجم العمالة الوطنية في مجمل قطاعات الدولة.
ولهذا تبنت الدولة مشروع التوطين (التقطير) في القطاعين الحكومي والخاص، وسنت قوانين وأصدرت قرارات لتوفير الوظائف والأعمال للمواطنين، واستبدال وإحلال العمالة الوافدة بعمالة وطنية.
تنص المادة 28 من الدستور القطري على أن “تكفل الدولة حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية والتعاون المتوازن بين النشاط العام والخاص لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وزيادة الإنتاج وتحقيق الرخاء للمواطنين ورفع مستوى معيشتهم وتوفير فرص العمل لهم وفقاً لأحكام القانون”.
وعلى هذا الأساس يشترط قانون الموارد البشرية المدنية رقم (15) لسنة 2016 في المادة 13 “في من يُعين في إحدى الوظائف: أن يكون قطري الجنسية، فإن لم يوجد فتكون الأولوية لأبناء القطرية المتزوجة من غير قطري، ثم الزوج غير القطري المتزوج من قطرية أو قطري، ثم مواطني دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ثم مواطني الدول العربية، ثم الجنسيات الأخرى.”
نص القرار الأميري رقم (58) لسنة 2021 المتعلق بإنشاء ديوان الخدمة المدنية والتطوير الحكومي، في المادة 4، على الصلاحيات والاختصاصات الممنوحة لتحقيق أهدافه، ومن بينها “اقتراح وتنفيذ سياسات توطين الوظائف بالتنسيق مع الجهات الحكومية.”
ويستهدف ديوان الخدمة المدنية والتطوير الحكومي جميع الوظائف التي يشغلها غير القطريين، عبر خطة الإحلال والتوطين للوظائف الحكومية، ويقول محمد الجعبري في مقاله في جريدة الوطن إنه وضع خطة “توطين 4% من الموظفين القطريين وإحلالهم بدلًا من الموظفين الأجانب سنويًا، وذلك في الجهات الحكومية الخاضعة لقانون الموارد البشرية المدنية.”
وفي مسار آخر يقول الجعبري إن الديوان سيتكفل بتدريب “الكوادر البشرية الوطنية ضمن خطة الإحلال والتجديد، بما يؤهل تلك الكوادر لشغل الوظائف التي يشغلها غير القطريين.”
إضافة إلى أن هناك قرارات تحفيزية وتشجيعية لاستقطاب العمالة الوطنية، مثل قرار مجلس الوزراء رقم (6) لسنة 2024 بمنح علاوة استقطاب للموظفين القطريين العاملين بالكادر الإداري لجامعة قطر.
ويمنح القانون الموظفين القطريين العاملين بالكادر الإداري لجامعة قطر “علاوة بمسمى علاوة استقطاب ” بنسبة (20%) من الراتب الأساسي للموظف، وذلك بالإضافة إلى بدل طبيعة العمل المقرر لهم بقرار مجلس الوزراء في اجتماعه العادي (12) لعام 2010 المشار إليه، ويكون صرف تلك العلاوة بذات الضوابط الواردة بذلك القرار.”
حلول إضافية
إن سيطرة العمالة الوافدة على مختلف قطاعات العمل ولدت ضرورة تبني سياسات التوطين والإحلال التدريجي للعمالة الوطنية محل العمالة الوافدة باعتبار أن ذلك هو الخيار الأمثل.
إن نسبة الوافدين المقيمين في قطر تبلغ حوالي 86% تقريباً بناءً على إحصائيات جهاز التخطيط والإحصاء، ومعظمهم من الذكور، إذ أن نسبة الذكور تبلغ 65%، ونسبة الإناث 35%، مما يخلق مشكلة ديموغرافية أخرى.
بلا شك، أدى ذلك إلى توفير حياة مرفهة للمواطن القطري، تفوق بمراحل تلك التي يعيشها الوافدون المقيمون، الذين يواجهون تحديات التضخم وارتفاع الإيجارات وغيرها من الصعوبات المادية.
يبدو أنه بات من الضروري أن تضع الدولة، إلى جانب استراتيجيتها في التوطين والإحلال، استراتيجية أخرى تمنح الجنسية القطرية للوافدين المتميزين وأصحاب الكفاءات العالية.
يجب تفعيل المادة 6 من قانون رقم (38) لسنة 2005 بشأن الجنسية القطرية والتي تنص على أنه “يجوز بقرار أميري منح الجنسية القطرية لمن أدى خدمات جليلة، أو من يمتاز بكفاءة خاصة تحتاج إليها الدولة، أو الطلاب النابغين ذوي القدرات العلمية الواعدة، ويجوز بناء على مقتضيات المصلحة العامة أن يقتصر منح الجنسية القطرية في هذه الحالة على الشخص وحده مع احتفاظه بجنسيته الأصلية.”
فهناك كفاءات متميزة وأناس كثر من أصحاب القدرات الفذة من الوافدين والمقيمين في قطر، وحينها ستتمكن من رفع عدد العمالة الوطنية وستحل مشكلة الخلل الديموغرافي التي تعاني منها.