spot_imgspot_img
بيتالطفلالكفالة في مواجهة التبني

الكفالة في مواجهة التبني

استمعت إلى حلقة قديمة من برنامج حياة وناس على إذاعة مونت كارلو الدولية التي تناولت موضوع التبني في العالم العربي، ورغم أهمية الطرح، فوجئت بما بدا وكأنه تعزيز مفرط في منح المسيحيين امتيازات اجتماعية خاصة، أو كأن الحلقة تسعى لإثبات أن هناك خللاً أو ظلماً في الفقه الإسلامي، بسبب تحريمه للتبني.

ورغم أنني لا أعارض حق أي طائفة في تنظيم شؤونها وفق معتقداتها، فإن طريقة عرض الحلقة اتسمت بنَفَس عاطفي أحادي الجانب، ركّز على إبراز التجربة المسيحية وكأنها تقدم نموذجاً مثالياً، متجاهلاً أن الإسلام لم يُهمل هذه القضية، بل قدّم حلاً دقيقاً وإنسانياً من خلال تشريعه للكفالة والحث عليها، التي تحفظ للطفل كرامته وتصون نسبه وهويته.

لقد جاء الإسلام ليعالج الانحرافات الجاهلية في التبني، حيث كان يُنسب الابن لغير أبيه، وتترتب عليه أحكام شرعية غير صحيحة، ومع ذلك، لم يمنع الإسلام رعاية الأيتام، بل جعلها من أعظم القربات، ويكفي قول النبي ﷺ الذي رواه الترمذي”أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين ، وأشارَ بأصبُعَيْهِ”.

 لم يكن الطرح العام للحلقة حوارياً بقدر ما كان تبشيرياً موجهاً بشكل فج، يُظهر الشريعة الإسلامية وكأنها تقف حائط صد من قِبله العذاب ضد الإنسانية، ولا ريب أن مثل هذا الطرح بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية متوازنة.

منذ اللحظة الأولى، انطلقت الحلقة من زاوية واضحة عبر استضافة الدكتور نجيب جبرائيل، مستشار الكنيسة المصرية ورئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، إذ تحدث بحرارة منافحاً عن ضرورة سن تشريع قانوني يخوّل للمسيحيين في مصر تبني الأطفال مجهولي النسب. 

إلا أن اللافت في حديثه أنه لم يكتف بعرض المطلب القانوني، بل أدخل مزاعم غريبة عجيبة، منها أن “كل لقيط في مصر يُسجل مسلماً”، حتى لو وُجد أمام باب كنيسة أو كان مسيحيّاً! فكيف يعرف الطفل إن كان مسلماً أم مسيحياً وهو لا يزال رضيعاً مجهول الأبوين؟ وكيف لمجتمع غالبيته من المسلمين أن يسمح لمن ولد على الفطرة أن يوسم بغير الإسلام، بعد أن تنازل والديه عن حقهما فيه؟

في استجداء عجيب لأي زيادة في عدد المسيحيين من أي باب كان، حتى لو كان من خلال مطالبة علنية على وسائل الإعلام تتمسح بمنطق مغلوط يسفه من تشريعات الدولة بادعاءات إنسانية مزيفة.

الأغرب من ذلك، أن الحلقة مرّت مرور الكرام على مداخلة الدكتورة آمنة نصير، عميدة سابقة في الأزهر، والتي جاءت فقط في قلب تقرير صوتي مسجل، دون أن تُمنح فرصة للنقاش أو التفاعل، خلافاً لما سُمح به مع بقية الضيوف. 

ورغم أن كلمتها كانت حاسمة، إذ أوضحت خطر التبني من منظوره الشرعي، وأن الإسلام اجتث المشكلة من جذورها بتحريمه له، وأقر بديلاً إنسانياً دقيقاً هو الكفالة، لكن هذا الرأي قُدّم وكأنه مجرد هامش على كواليس حلقة تصدّرت فيها السردية الكنسية.

حتى الدكتور جاسم الخواجة، الأخصائي النفسي الكويتي، أشار إلى أن دولة الكويت وضعت حلولاً عملية لمجهولي النسب، حيث تمنحهم الجنسية الكويتية مباشرة وتخصص لهم معاشاً شهرياً، حتى في حال كفالتهم من قبل أسرة ما. 

ورغم هذا النموذج المتقدم، استمرت الحلقة في تحجيم دور التشريع الإسلامي، وبدلاً من التوسع في استعراض هذه التجربة، ركّزت الأسئلة الموجهة للدكتور الخواجة على الاضطرابات النفسية التي قد يواجهها الأطفال المكفولون، في محاولة غير مباشرة لترسيخ صورة سلبية عن البديل الإسلامي للتبني.

المدهش في مداخلة محمد بركات، مدير مؤسسات الرعاية الاجتماعية – دار الأيتام الإسلامية في لبنان الذي قدّم تفسيراً غريباً لتحريم التبني في الإسلام، زاعماً أن السبب يعود إلى ما كان يفعله الرومان من بيع بعض الآباء لأبنائهم، وكأن التشريع الإسلامي جاء ردّاً على هذا السياق التاريخي. 

هذا التفسير يتجاهل الأساس الشرعي، ويُعد تفسيراً مضللاً وتشويشاً متعمداً تزيفاً لحقيقة النص القرآني الواضح الذي ربط تحريم التبني بمسألة الحفاظ على الأنساب ومنع اختلاطها، المتمثل في قوله تعالى من سورة الأحزاب: ” … وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ …”

وما من عجب في موقف قناة مونت كارلو التي في نهاية المطاف تخدم الأجندة الفرنسية المعادية للإسلام الذي يمكننا فهمه من خلال مقابلة وكالة الأناضول مع البروفيسور الفرنسي أوليفييه لو كور غراندمايسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة إيفري فال ديسون الذي ربط بين عداء فرنسا للإسلام وماضيها الاستعماري، حيث لا يمكن فهم موقفها العدائي له اليوم دون فهم هذا السياق التاريخي.

كما أشار  غراندمايسون إلى أن وسائل الإعلام الفرنسية تُفرد مساحة في برامجها لمعاداة الإسلام بنفس مساحة تغطيتها لمشكلة عالمية كبيرة مثل جائحة كورونا، وأنها ليست مجرد ردود فعل على أحداث معاصرة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الاستعمار والتمييز، مما يسلط الضوء على الحاجة إلى مراجعة جذرية لهذه السياسات لضمان العدالة والمساواة لجميع المواطنين.

وفي مثال آخر على استخدام فرنسا للإعلام كأداة لتأليب المجتمعات الإسلامية ضد مرجعياتها، بحجة “حقوق الطفل” و”العدالة الاجتماعية”.

ورد في حلقة تحت عنوان “التبني بين الحلال والحرام” على قناة فرانس 24، لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها تمثل نموذجاً آخراً لما يبدو أنه حملة ناعمة من الإعلام الفرنسي الرسمي لمهاجمة الإسلام، أو على الأقل إظهاره في ثوب يقيّد الرحمة والعدالة، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا إنسانية كالتبني والكفالة.

فيديو – التبني بين الحلال والحرام – فرانس 24

وكما جرى في برنامج مونت كارلو حياة وناس نجد مجدداً الاستراتيجية نفسها من مقدمة البرنامج بإظهار الحياد في اختيار الضيوف، وتوجيه الأسئلة، وطريقة عرض القضية، لا سيما في قضية الطفل شنودة الذي عُثر عليه داخل كنيسة، فتبنّته أسرة مسيحية، ثم نُزع منها وأُعيد تسجليه كمسلم، مما أثار جدلاً واسعًا حول الهوية. 

أججت الرواية موقفاً منحازاً للكنيسة ضد الحكم الشرعي الإسلامي، وكأن الإسلام يعرقل حق الطفل في الأمان والانتماء، مروجة بذلك للتبني المسيحي كحل للقضية.

المشكلة أن الحلقة لم تكتف بطرح قانوني أو اجتماعي، بل خاضت في تشويه مباشر للشريعة الإسلامية، إما بنفي نصوصها أو بالمطالبة باجتهادات تُفرغها من معناها.

هكذا، يبدو أن فرنسا عبر إعلامها لا تكتفي بتضييق الحريات الإسلامية داخل حدودها، بل تمتد لتقويض التشريع الإسلامي نفسه داخل حواضنه عبر قنواتها الناطقة بالعربية.

لا استنكر رؤية تشويه أنواع الرعاية الإسلامية ونظام الكفالة في منصات إعلامية غربية، لكنني أندهش عندما أراه يصدر من بني جلدتنا، ففي مقال مثير للاستغراب نُشر على موقع هسبريس المغربي لأحد الأخصائيين تطوع فيه باقتراح صادم يدعو إلى إلغاء نظام الكفالة الإسلامي، بدعوى أنه غير كافٍ وأنه يفتح المجال للتمييز. 

هذا الطرح ليس فقط سطحياً ومجحفاً، بل يحمل في طيّاته جهلاً بأصول الفقه الإسلامي وبُعداً تشويهياً متعمداً، فالكفالة في الإسلام ليست إجراءً إدارياً عابراً، بل قيمة أخلاقية وتشريعية عظيمة، تحقّق مصلحة الطفل وتحفظ نسبه وكرامته، دون خرق للأحكام الشرعية.

اللافت في المقال أنه يتجاهل الآثار النفسية والشرعية والاجتماعية للتبني، ويركز فقط على الكفالة بوصفها عائقاً في وجه الانتماء، متناسياً أن الإسلام لا يمنع الاحتضان والرعاية، بل يكرّم من يحملها على عاتقه. 

هذا النوع من الأطروحات لا يعبّر عن نقد بنّاء، بل عن انسلاخ ثقافي وتبنٍّ غير واعٍ لنماذج أجنبية دون مراعاة للهوية والمقاصد.

ورغم أن التبني محظور شرعاً وقانوناً في المغرب، إلا أن عدداً من الأسر المغربية لا تزال تميل إليه على حساب مفهوم الكفالة، مدفوعة بجملة من الدوافع النفسية والاجتماعية والثقافية المعقدة. 

هذه المفاضلة لا تنبع من تجاهل ديني أو قانوني، بقدر ما تعبّر عن حاجة شعورية عميقة لدى بعض الأزواج الذين يعانون من العقم، فيرون في التبني وسيلة لتعويض مشاعر الأبوة والأمومة بشكل كامل، حيث يُنسب الطفل إليهم ويحمل اسم العائلة، وهو ما لا توفره الكفالة، مما يترك في نفوسهم شعوراً بنقص العلاقة وافتقارها للرابطة القانونية والرمزية الأبوية الكاملة.

وتتعزز هذه الرغبة بتجربة اجتماعية قاسية، إذ غالباً ما يُنظر إلى الطفل المكفول بوصفه غريباً أو ضيفاً دائماً، وتُلقي الوثائق الرسمية التي تميّز بين المكفول والابن البيولوجي بظلالها على شعوره بالانتماء واندماجه في المجتمع.

أما من الناحية الإجرائية، فالكفالة في المغرب تمر بمسارات معقدة قد تُثني كثيراً من الأسر عن خوضها، وهو ما يدفع البعض إلى التبني غير الرسمي هرباً من التعقيد البيروقراطي. 

وفوق كل ذلك، يؤمن البعض أن التبني يمنح الطفل أماناً قانونياً كاملاً ووضوحاً في الهوية والحقوق، خاصة في الميراث والاسم، وهو ما لا يتحقق لهم بوضوح في الكفالة.

من جانب آخر بينت حلقة حياة وناس الأثر النفسي على الأطفال مجهولي النسب، فوفقاً للدكتور الخواجة ما يواجه الأطفال مجهولو النسب من أزمة نفسية عميقة، عندما يكتشفون لاحقاً أنهم متبنّون، تبدأ بتساؤلات وجودية مؤلمة: من أنا؟ من أمي؟ من أبي؟ هذه التساؤلات لا تكون عابرة، بل تتجذّر لتخلق لدى الطفل شعوراً بانعدام الجذور، وانفصالاً مؤلماً عن مفهوم الانتماء الإنساني، وشيئاً فشيئاً، يتسلل إلى نفسه إحساس بانعدام القيمة الذاتية، ويغيب عنه الإحساس بالأمان الداخلي.

هذه الحالة قد تتطور إلى اكتئاب مزمن، خصوصاً عندما يترسخ في وعي الطفل أنه كان مرفوضاً من قِبل والديه البيولوجيين، فيتولّد في داخله انطباع بأنه غير جدير بالحب أو الرعاية، مما يُضعف ثقته بنفسه ويشوّه صورته الذاتية.

وفي مواجهة هذا الفراغ العاطفي، قد يلجأ بعض الأطفال إلى سلوكيات هروبية كالإدمان أو التشرد أو الدخول في علاقات مضطربة، كردّ فعل على شعورهم بالنبذ وتحميلهم ذنباً لا صلة لهم به.

ومن هنا شدد الدكتور الخواجة على ضرورة أن تكون الأسر المحتضنة لهؤلاء الأطفال مؤهلة نفسياً، وخاضعة لتقييمات دقيقة، كي لا تُعيد إنتاج مشكلاتها النفسية في نفوس من يفترض أن تمنحهم الأمان.

لم يكن حديث الحلقة مقتصراً على الجدل الديني والقانوني حول التبني، بل تجاوز ذلك ليكشف عن وجه مظلم وخطير يرتبط بشبكات الاتجار بالبشر، حيث يتم استغلال غياب التشريعات الصريحة أو ضعف الرقابة القانونية في تهريب الأطفال تحت ستار التبني الإنساني.

فقد كشفت ضيفة الحلقة المحامية وفيقة منصور أن ما يبدو انخفاضاً في أعداد الأطفال داخل مؤسسات الرعاية ليس بالضرورة مؤشراً إيجابياً، بل قد يعني ببساطة أنهم خرجوا من دور الحماية إلى أسواق سوداء، يُباعون فيها لجهات خارجية تُتاجر بهم، سواء عبر شبكات الدعارة أو بيع الأعضاء أو التبني غير المشروع لأغراض تجريبية أو تجنيدية.

الحلقة حذّرت أيضاً من انتشار ما يُعرف بالتبني عبر الإنترنت، وهي سوق سوداء رقمية يُحدَّد فيها مصير الطفل لمن يدفع أكثر، بغض النظر عن أهليته أو نواياه، وفي هذا السياق، يصبح التبني، في غياب الضوابط، أداة للاتجار المقنَّع بالبشر.

وإذا كانت الإنترنت قد غيّرت شكل الاقتصاد والتواصل حول العالم، فإنها أيضاً كشفت وجهاً مظلماً لم يكن ليظهر، لولا هذا الانفتاح غير المنضبط، كما يدين الكاتب فهد عامر الأحمدي في مقاله بصحيفة الرياض “تجارة الأطفال وتأجير الأرحام التي تنشط من خلال الإنترنت السوداء… حيث يمكن بالنقر على صورة الطفل المطلوب الاختيار من بين أطفال العالم كما تُختار سلعة، بل وتُرفق بسعر البيع أو تاريخ المزايدة عليه مع عائلات أخرى.”

ما كان يُمارس في الخفاء أصبح اليوم سوقاً رقمية سوداء تُدار خلف شاشات مضيئة وببطاقات ائتمانية، وتُغلف أحياناً بشعارات إنسانية مثل الحق في التبني أو “مساعدة الفقراء.

إن اختزال الطفل في سلعة، والأمومة في عقد، ليس فقط انتهاكاً للأخلاق والدين، بل قيماً مقلوبة، تستدعي منا وقفة حازمة في وجه كل ما يُسوّق على أنه إنسانية بينما هو وجه آخر للاتجار بالبشر.

تبقى الكفالة في الإسلام نموذجاً رحيماً ومقنناً، يحفظ للطفل كرامته وحقوقه دون أن يخلّ بالضوابط الشرعية، وإن أي محاولة لتشويه هذا النظام أو دفع المجتمعات إلى استبداله بنماذج مستوردة، ما هي إلا انسلاخ عن الهوية وتغافل عن جوهر العدل الشرعي، فليس الحل في تفكيك الثوابت، بل في تفعيلها ضمن أطر قانونية واضحة تحمي الطفل وتكرّمه.

وكما أنه لا فارق بين مبضع الجراح وسكين القاتل إلا ضوابط الاستخدام، أما النوايا فلا محل لها من الإعراب أمام أعين بشر أعمتهم الظنون والشبهات، من أجل ذلك لا مفر من معايير محايدة لا تميل ولا تقيل.

Yousif Al Hamadi
Yousif Al Hamadihttp://www.qawl.com
مستودع أفكار لا تنتهي، بعضها وجد السبيل إلى أرض الواقع والآخر لا يزال، جميعها في ميدان الإعلام، مدعياً أنه أصبح فوق مستوى التأهيل.
مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية