لا تصح مقولة “لكل إنسان من اسمه نصيب” كما تصح مع علي رضي الله عنه، فهو عال في النسب كونه ابن عم رسول الله ﷺ، وعال في المصاهرة بزواجه من فاطمة رضي الله عنها أحبّ بنات رسول الله ﷺ إليه، وعال في اليقين كونه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وعال في الحكم بشرع الله كونه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، وعال في الشجاعة في مواقف عدة منها مخاطرته بحياته وهو فتى صغير بالنوم في فراش رسول الله ﷺ ليلة الهجرة، وعال في الحكمة كونه المستشار الأول للخلفاء الراشدين الثلاثة السابقين له الذين آثروا بقاءه معهم في المدينة على الخروج في الفتوحات الإسلامية مع بقية الصحابة والتابعين.
وكان كذلك عال في العلم والفقه والقضاء، من خلال قدرته الفذة على استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة، وقدرته على الحكم بين المتخاصمين، فهو من كتاب الوحي في زمن كان من يكتب ويقرأ من القلة، كما كان من أكثر الصحابة معرفةً بأصول الفقه وفروعه.
وقد قرأت لعلي الصلابي في كتابه أسمى المطالب أثراً يقول فيه رضي الله عنه: “ما دخلَ نوم عيني ولا غمض رأسي على عهد رسول الله ﷺ في يوم حتى علمتُ ذلك اليوم ما نزلَ به جبريل عليه السلام، من حلال أو سُنة أو كتاب (قرآن) أو أمر أو نهي وفيمَن نزل”.
هذا الحب الشديد لطلب العلم من القرآن والحديث والتفسير وغيرها، جعله من أكثر الصحابة علمًا بهذا الدين، فكان رضي الله عنه يعلم أسباب نزول الوحي مكانها وزمانها، ففي رواية لعبد الرزاق عن معمر أن علياً وقف يخطب يومًا على المنبر فقال: “سلُوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلُوني عن كتاب الله، فوالله ما مِن آية إلا وأنا أعلمُ: أبليل نزلَت على رسول الله (ﷺ) أم بنهار، أم في سهل أم في جبل”.
وبسبب غزارة علمه تلك كان من أهل الفتوى، فقد ذكر ابن القيم أن الذين كانوا يُفتون من أصحاب رسول الله ﷺ مئة وبضع وثلاثون صحابيًا وصحابية فقط، وذكر أن عليا من المكثرين في الفتوى، ومنهم: عبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، واعتبره الإمام ابن حزم ثالث أكثر صحابي في كثرة الفتوى، ومن يَرجع إلى سُنن الترمذي ومصنف عبد الرزّاق ومصنف ابن أبي شيبة يجد أنه رضي الله عنه كان يُفتي في أثناء حياة رسول الله ﷺ.
وكان رضي الله عنه ملتزما في فتواه بالقرآن والسنة، ففي باب الصلاة كان لا يُجيز “صلاةً لجار المسجد إلا في المسجد. قيل له: ومن جارُ المسجد؟ قال: مَن سمع النداء” استنادا إلى الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله ﷺ “جاءَ أعمى إلى رسولِ اللَّهِ ﷺ ، فقالَ : إنَّهُ ليسَ لي قائدٌ يقودُني إلى الصَّلاةِ، فسألَهُ أن يرخِّصَ لَهُ أن يصلِّيَ في بيتِهِ، فأذنَ لَهُ، فلمَّا ولَّى دعاهُ قالَ لَهُ: أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ ؟ قالَ: نعَم. قالَ: فأجِبْ”.
نحن نجدُ قبسًا من اجتهاده في أبواب الفقه مثل باب الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والنكاح والطلاق والحدود والجنايات وغيرها، وهو ما يفسر رؤيته الكلية للقضاء؛ فقها وتنفيذاً وترتيباً.
فوفقا لابن الصلاح في كتابه أدب المفتي والمستفتي أن جمهرة من علماء أصول الفقه عرَّفوا الاجتهاد على أنه “بذل الجهد من الفقيه في استنباط الحكم الشرعي عن دليله، ولم يفرّقوا بين المفتي والمجتهد،” بل اعتبروا المفتي هو المجتهد المطلق، وهذا ما كان عليه عليّ رضي الله عنه منذ أواخر عصر النبوة وحتى زمن خلافته يتسم بعبقرية الاستنباط، ومراعاة النوازل والحالات، اتكاءً على هدي من الشرع الشريف.
ففي باب الطهارة سنرى فقه المصلحة ومقاصد الشريعة مثل حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل حاضراً في ذهنه كأصولي حاذق؛ فحفْظ النفس مُقدّم على تطبيق النصّ الحرفي لا سيما عند الضرورات التي تبيح المحظورات.
كما في قوله تعالى في سورة البقرة: “إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، وفي هذا الصدد افتى علي رضي الله عنه في مسألة تخص الطهارة بقوله: “إذا أجنبَ الرجلُ (صار جُنُباً) في أرضٍ فلاة (صحراء) ومعه ماء قليل، فليؤثر نفسه بالماء، وليتيمم بالصعيد”.
وقد كان علي رضي الله عنه في تلك المرحلة المبكرة من عُمر الإسلام يضع القواعد الأولى للفقه وأصوله وفروعه، ومنها القواعد الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها الصحيحة، ويلتزم بهذه الأصول لمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وكل ذلك قبل تبلور المدارس والمذاهب الفقهية.
ففي باب الزكاة والصدقة كما ورد في كتاب أعلام الموقعين لابن القيم أن عليا رضي الله عنه أسقط الزكاة عن عوامل البقر، أي التي تعملُ في الحرث والسقي وغيرها، ذلك أنها لا يُرجى منها في ذواتها تجارة.
ولمنزلته العلمية العالية، ومعرفته بكتاب الله وسنن رسول الله ﷺ، وبالحلال والحرام أرسله النبي ﷺ في أخريات عُمره قاضياً إلى اليمن، وأوصاه بأن لا يقضي بين اثنين حتى يسمعَ منهما جميعاً.
وهي القاعدة التي اتخذها علي وكل قُضاة الإسلام من بعده ولهذا يقول رضي الله عنه: “فما أَشكلَ عليّ قضاءٌ بعدُ”. ويعترف له الصحابة جميعا بهذه المكانة، فقد روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه قال: “أَقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا عليّ”، وعن ابن مسعود قال: “كُنّا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب”.
ونظراً لهذه المنقبة الكبرى في العلم والاجتهاد والفتيا والقضاء كان له رضي الله عنه دور بارز في قرارات السلطة التنفيذية فيما يشبه مجلس الشورى في عصرنا الحالي، فقد كان عضواً بارزاً في مجلس شيوخ الصحابة من أهل المشورة في الدولة زمن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، الذين كان معظمهم من كبار الصحابة الذين شهدوا موقعة بدر والسابقين الأولين في الإسلام. كما يؤكد المؤرخ والمحدث ابن الجوزي هذه الحقيقة حين قال: “كان أبو بكر وعمر يشاورانه، وكان عُمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن”.
وله في شؤون الأسرة رأي معتبر عند المذاهب الأربعة في حضانة الطفل، أهو حقّ للوالد أم للوالدة إذا انفصلا, وللعم أو للوالدة إذا مات الوالد, وهي قضية يتنازع فيها الأبوان الحضانة حتى يومنا هذا، وقد حكَم في هذه القضية بسؤال الطفل.
روى عمارة بن ربيعة المخزومي أنه قال: غزا أبي البحرين فقُتل فجاء عمَّي ليذهب بي، فخاصمته أمي إلى عليّ بن أبي طالب ومعي أخ صغير، فخيّرني علي رضي الله عنه ثلاثًا، فاخترتُ أمّي، فأبى عمّي أن يرضى فوكزه عليّ بيده (وهذا من هيبة القاضي، الذي من خلال وجود سلطة تنفيذية تؤيده كما نرى اليوم بوجود الشرطة بجواره في قاعة المحكمة لمنع وقوع أي شغب)، لذلك ضربه بعصاه وقال: لو بلغ هذا الصبي أيضًا خُيّر.
كذلك نرى في جُل أقضية علي رضي الله عنه أنه كان يهدف إلى المصلحة الشرعية والمقاصد الكلية ويدور في فلكها، فقد ظلّ يتمتّع بصلاحياته القضائية حتى في ظل خلافته ومُقامه في الكوفة حينذاك.
ذكر ابن قدامة في المغني بسنده عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال: “حضرتُ علي بن أبي طالب أُتي برجلٍ مقطوع اليد والرجل قد سرَق، فقال لأصحابه ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعَه يا أمير المؤمنين (أي يده اليسرى). قال: قتلتُه إذًا وما عليه القتل, بأيّ شيء يأكلُ الطعام؟ بأي شيء يتوضّأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسلُ من جنابته؟ بأيّ شيء يقومُ على حاجته؟ فردَّه إلى السجن أيامًا، ثم أخرجه، فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، ثم قرر جلده جلدًا شديدًا ثم أطلق سراحه”.
أما الأثر التالي فيتضح من خلاله أنه رضي الله عنه مع اجتهاده المطلق ومعرفته بأسس القضاء ومصادره القائمة على القرآن الكريم والسُّنة النبوية والاجتهاد ومراعاة المصلحة الشرعية، فكان حريصا على الشورى في النوازل والقضايا المعقّدة، وبهذا الأمر أسّس كما الصحابة من قبله قاعدة المجامع القضائية والفقهية التي نعرفها في يومنا هذا. وهو ما يطلق عليه في عصرنا المحاكم الكلية التي تتألف من لجنة من القضاة، أي أكثر من قاض, يكون الحكم فيها برأي الأغلبية.
وكان علياً يراعي الحسبة، أي الرقابة الإدارية أو الشرطة كما نعرفها اليوم، مراعياً مقصد تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، كقصته التي ذكرها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال, عندما حرق علي رضي الله عنه قرية زرارة التي كان يُصنع فيها الخمر، فلما تبين له استفحال خطرها، أمر بإحراقها، وقال: “أضرموها فيها، فإن الخبيث يأكلُ بعضه بعضًا فاحترقت”، فأحرق الخمر وأدوات صناعته وأبادها حتى لا يُعمل فيها من جديد.
ولعلي كذلك مكانته العلمية التي وضعت الأسس الأولى لنشأة مؤسسة القضاء في الإسلام، التي ستسير على نهجه ونهج الخلفاء والولاة والقُضاة من بعده بإنشاء طلبة العلم وتخصصهم في العلوم الشرعية، ثم الترقي في التدريس والإفتاء.
نرى ذلك بوضوح في حياة علي رضي الله عنه والذين تتلمذوا على يديه مثل كُميل بن زياد النخعي، أحد الذين عيّنهم ولاةً على بعض مناطق العراق، وأيضًا الصحابي رافع بن أوس الخزرجي الأنصاري، وكذلك أبان ابن الخليفة عثمان بن عفان، أحد رواة الحديث من التابعين الكبار، وأحد وُلاة المدينة المنورة في زمن عبد الملك بن مروان الأموي.
ونرى هذا في رسالته المذكورة في كتاب التذكرة الحمدونية لأبو المعالي والتي أرسلها إلى الأشتر النخعي والِيه على مصر وقتئذ وهي طويلة وفيها يقول: “اختر للحُكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك, ممن لا تضيق به الأمور، ولا تحكمُه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تستشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفُهم في الشُّبُهات، وآخذهم بالحجج، وأقلُّهم تبرّمًا بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على كشف الأمور، وأصرمهم على اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر من تعاهدَ قضاءَه، وأفسح له في البذل ما يُزيل عِلّته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس، وأعطه المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال عندك”.
ففي هذا النص نرى منهج علي رضي الله عنه في الشروط التي يجب أن تكون في القاضي مثل أن يكون طويل البال، صبوراً على فهم القضايا، يعود إلى الحقّ ولا يتمادى في الباطل إذا عرف الحق وبان له، غير معروف بالطمع إلى الأموال، ولا يقضي إلا بالأدلة والبراهين القاطعة، ويجعل المتخاصمين أمامه في منزلة واحدة، فلا يميل لأحدهما على حساب الآخر بسبب الإطراء أو المدح أو الرشوة، وحتى لا يقع في الرشوة يجب على رئيس الدولة أو الوالي أن يجزئ له في العطاء.
وكان علي رضي الله عنه يرى أنه لا يحق للقاضي أن ينقض حكمًا أصدره قاضٍ آخر ولا يخالف القرآن والسنة، كما لو كان الحكم صدر في محكمة ابتدائية ورأى قاض الاستئناف أن الحكم صائب ولا غبار عليه فأيده.
في رواية لعبيدة بن عمرو السلماني أن أهل نجران أرادوا نقض حكم حكمه لهم الخليفة عُمر رضي الله عنه، فجاءوا عليّا في خلافته فأبى وقال: “إن عمر كان رشيد الأمر ولن أرد قضاء قضى به عمر، ما دام هذا القضاء صحيحًا لا يخالف كتابا ولا سُنة” وفي رواية للبخاري أن علياً قال: “اقْضُوا كما كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فإنِّي أكْرَهُ الِاخْتِلَافَ، حتَّى يَكونَ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ، أوْ أمُوتَ كما مَاتَ أصْحَابِي”.
كذلك كان يحرص على أن يكون القاضي في مكان ثابت معروف لكافة المتخاصمين في المدينة، وهو بذلك قد وضع أسس إنشاء المحاكم في عصر الإسلام الأول، وذلك حتى لا يشق على أحد المشتكين الوصول إليه، ومن ثمّ كان يأمرُ القاضي شٌريح بالجلوس في المسجد الجامع بالكوفة لهذا الغرض، كما أمره وغيره من القُضاة ألا يأخذوا من المتخاصمين مالاً، وبذلك وضع قاعدة مجانية الحصول على الأحكام، وهذا من رحمة القضاء في تاريخ الإسلام الأول بعامة الناس وفقرائهم.
في مقابل ذلك كان عليّ يعطي القُضاة راتبًا شهريًا معلوماً من مال الدولة، فحين ولّيَّ القاضي شُريح على قضاء الكوفة جعل له 500 درهم فضة (حوالي 1450 جرام فضة) على كل شهر، وحرص في ممارسته القضائية قبل خلافته وبعدها على تحقيق قاعدة المساواة بين الخصوم، فحين نزل عليه ضيف لأيام، ثم عرف أنه جاء للحكم في خصومته، قال له: “ارتحل عنّا فإنّا نُهينا أن نُنزل خصمًا إلا مع خصمه”.
والأمر اللافت أنه حرص على وضع الأسس الأولى لمهنة المحاماة، فكان يوكل أخاه عقيلاً في المخاصمة، ولما كبر عقيل، وكَّلَ عبد الله بن جعفر بن أبي طالباً عنه أمام القضاء، وكان يقول “ما قُضي لوكيلي فلي، وما قُضي علَى وكيلي فعليَّ”.
كما كان يحترسُ من الشهود ويعمل على التفريق بين شاهد العدل وشاهد الزور، وإن تيقّن أن أحدهم كان يشهدُ زورًا كان يعمل على التشهير به وسط الناس حتى لا يأخذوا بشهادته أبداً كي لا تضيع الحقوق، ويسود الظلم، وفي هذا المنحى حماية للمجتمع، فقد رُويَ أن علي بن أبي طالب كان يأخذُ شاهد الزور إلى عشيرته ويقول: “هذا شاهد زور فاعرفوه وعرّفوا الناس به، ثم يُخلّي سبيله. فجعل عقوبة التشهير له بديلا عن عقوبة السجن”.
تلك بعض من الأسس النظرية التي قام عليها اجتهاد علي بن أبي طالب رضي الله في الأقضية، ناهيك عن إسهامه الفذّ في وضع القواعد الأولى لمؤسسة القضاء والمحاماة في تاريخ التشريع والقضاء في الإسلام في عصره المبكر، وهو نموذج يمكن أن نتلمس تطورّه على مر السنين والقرون التي تبعته.