توجد في لسان العرب بعض الألفاظ التي لها أكثر من معنى، ويسمونها “المشترك”، كلفظ العين التي تعني العين الباصرة، أو عين الجاسوس، أو عين الماء، وغير ذلك، ولفظ القضاء أيضاً مشترك، له أكثر من معنى.
فيطلق لفظ القضاء على الأمر، كما في قوله تعالى ” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ”، ويطلق كذلك على إتمام الأمر، ومنه قول يوسف عليه السلام للسجينين “قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ”، أي فُرغ منه، ويطلق أيضاً على الفعل، مثل قول السحرة إلى فرعون “فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ”.
ويطلق على الإرادة كما في قوله عز وجل “وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ”، ويطلق على الموت، كما يصف قوله تعالى الظالمين في جهنم “وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ”، ويطلق على الأداء، كما في قول الله تعالى “فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ” أي أديتموها، ويطلق على الصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ”، ونعرف كذلك القضاء والقدر، وغير ذلك من المعاني.
ومحور الحديث في هذا المقال ما يشير إلى الحكم والإلزام، مثل قضيت عليك بكذا، وقضيت بين الخصمين وعليهما، وهو أمر أقره الشرع كما دلت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وما اجتمع عليه فقهاء الأمة وعلماؤها.
فالله تعالى قال لنبيه داود عليه السلام “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ”، وقال القرطبي إن هذه الآية “تدل على الأصل في الأقضية”، وأن على نبي الله داود عليه السلام أن يحكم بين الخصوم بما أنزل الله، ولا يتبع الهوى المخالف لأمر الله.
وهكذا وجه الله سبحانه وتعالى الرسول ﷺ في قوله ” إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً”.
وفي الحديث المتفق عليه عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول “إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْران، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ”، فالحكم بين الناس ينبغي أن يكون مبنياً على عِلم، ولا يتولى القضاء إلا العلماء العارفون بأحكامه وضوابطه، حتى يتم القضاء بالعدل وعن علم.
القضاء في زمن الخلفاء الراشدين
يقول الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في كتاب النظام القضائي في الفقه الإسلامي (1994) إن الرسول ﷺ كان يتولى القضاء بنفسه، ولما فتح الله على المسلمين الأمصار، أرسل ولاة كانوا حُكّاماً وقضاةً ومعلّمين.
أما في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ظل القضاء جزءاً من الولاية العامة، ولكن مع توسّع الدولة الإسلامية في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، استقل القضاء عن أعمال الولاة، وأصبح القضاة يتفرغون للفصل في القضايا بسبب كثرتها في المدن الكبيرة كالكوفة والبصرة وفي مصر.
ويوضح الدكتور رأفت أن القضاة في عهد الخلفاء الراشدين “لم يكن من اختصاصهم الحكم إلا في الخصومات المدنية، وأما القصاص والحدود -وهي العقوبات التي حددها الشرع، كعقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر- فلم تكن من اختصاصهم، بل كانت من اختصاص الخلفاء، وولاة الأمصار”، حيث أن الفصل في هذه القضايا يتطلب الحيطة والحذر والدقة والنظر.
وينطبق الأمر نفسه على العقوبات التأديبية مثل الحبس، فكان “لا يأمر بها القاضي، بل يأمر بها الخليفة أو عامله”، كما قال الدكتور رأفت.
وكان القرآن الكريم في زمنهم هو المرجع الأول، وتليه سنة الرسول ﷺ، فإن لم يجد فيهما فلدى القاضي مجال للقياس وغيره من الأدلة الأخرى، وأخذ مشورة الآخرين بما يتفق مع القواعد الشرعية العامة.
وهذا المنهج يمكننا استخلاصه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن، قال له “كيف تقضي إذا عَرض لك قضاءٌ ؟، قال أقضي بكتابِ اللهِ، قال فإن لمْ تجدْ في كتابِ اللهِ ؟ قال فبسنةِ رسولِ اللهِ، قال فإن لمْ تجدْ في سنةِ رسولِ اللهِ؟ قال أجتهدُ رأيي ولا آلُو، قال فضرب رسولُ الله ﷺ على صدرِهِ، وقال الحمدُ للهِ الذي وفقَّ رسولَ رسولِ اللهِ لما يُرضي رسولَ اللهِ”
والخلفاء الراشدون استشاروا كبار المسلمين عند غياب النصوص، كما يظهر من قضاء أبي بكر وعمر، اللذين كانا يستندان على الكتاب والسنة أولاً، ثم على القياس والإجماع، إضافة إلى أن القضاء آنذاك كان ملازماً للإفتاء، حيث كان القضاة يراعون الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة في استنباط الأحكام.
وقد عيّن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه قضاة مستقلين مثل شُريح بن الحارث في الكوفة وأبا مريم في البصرة، كما أنشأ بيت مال المسلمين، ورتّب أرزاق القضاة، فجعل للقاضي راتباً شهرياً.
شُريح وفرس عمر
وُلد شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، قاضي الكوفة، المعروف بعدله وحكمته في اليمن، وأسلم في حياة النبي ﷺ، لكنه انتقل من اليمن إلى المدينة في عهد الصديق رضي الله عنه، وقد عُرف باتزانه وعدله، وكان مثالاً يُحتذى به في النزاهة والحكمة، تاركاً إرثاً من المواقف والقرارات التي تدل على فهم عميق للشريعة وأخلاقيات القضاء.
ومما ميز شريح عدم اكتراثه بالفروقات الاجتماعية والسياسية في قضائه، بل كان ذلك سبباً في توليه قضاء الكوفة، إذ يروي الشعبي عامر بن شراحيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ساوم بفرس، فركبها ليشورها، أي ليعرضها ويُظهر قوتها وما فيها من محاسن، إلا أنها عطبت، فعاد للرجل وقال “خذ فرسك”، فرفض الرجل، فقال عمر “اجعل بيني وبينك حكماً”، فاختار الرجل شريح ليتحاكما إليه.
فقال شريح “يا أمير المؤمنين، خذ ما ابتعت، أو رد كما أخذت”، فعجب عمر بحكمه وقال “وهل القضاء إلا هكذا؟! سر إلى الكوفة”، فبعثه قاضيا عليها، ولم يكن يعرفه قبل تلك الواقعة.
ما أجمل أن يُطَبق القانون بالتساوي على الجميع، ويكون القضاء نزيهاً، دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس، مما يبني الثقة بين المواطنين ودولتهم القادرة على استعادة الحقوق المسلوبة، وعندها يشعر الجميع بأن الحقوق مصانة، ويشعر الإنسان بالأمان، ويتعزز الانتماء، وحينها يسعى المواطن إلى دعم بلاده والالتزام بالقانون.
يقول حازم القواسمي نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة آكت لحل النزاعات إن تفضيل مواطن على آخر بسبب نفوذه أو علاقاته يخلق شعوراً بالظلم ويشجع على الفساد، ومع غياب استقلال القضاء وتطبيق القانون بشكل انتقائي، تسود الوساطة والمحسوبية، وتتعزز الفجوة بين القوي والضعيف، وتغيب العدالة.
لذلك على الدول وحكامها وقضاتها التمعن فيما قاله الفيلسوف شارل مونتسكيو في منتصف القرن الثامن عشر، في كتابه روح القوانين، إذ قال “القانون يجب أن يكون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً”، ولا يصبح “القانون مثل خيوط العنكبوت تمسك بالذباب الصغير بينما تسمح للدبابير باختراقها” كما قال جوناثان سويفت.
شٌريح ودرع علي
يروي الشعبي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إلى السوق فرأى درعه عند يهودي، قال علي “درعي سقطت مني يوم كذا وكذا،” فقال اليهودي “ما أدري ما تقول، درعي في يدي، وبيني وبينك قاضي المسلمين”، وكان قاضي المسلمين شريح، فذهبا إليه ليقضي بينهما.
قال شريح “ما تقول يا أمير المؤمنين؟”، قال علي “درعي عرفتها مع هذا اليهودي”، فسأل شريح اليهودي فقال “درعي في يدي”، فقال شريح “والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك كما قلت، ولكن لا بد من شاهدين.”
فدعا علي قنبراً فشهد له، ثم دعا الحسن بن علي فشهد له، فقال شريح “أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا أرى أن أجيزها”، فذكّره علي بقول رسول الله ﷺ “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”، فلم ينكر شريح ذلك، لكنه قال إن شهادة شباب أهل الجنة في هذا الموضع لا تجوز.
يرى الفقهاء أن الشاهد يجب أن يكون محل تصديق وبعيداً عن التهمة والشك، ولذلك غالباً ما تُرفض شهادة الأبناء لآبائهم أو العكس، بسبب احتمال وجود محاباة أو مجاملة بحكم العلاقة الوثيقة بينهم.
اختلف أهل العلم في شهادة الأقارب، حيث أجاز جمهورهم شهادة القريب لقريبه، بينما لم يجز أكثرهم شهادة الوالد للولد أو الولد للوالد، إلا بعضهم إذا كان الشاهد عدلًا.
قال الشافعي لا تجوز شهادة الرجل على الآخر وإن كان عدلاً، إذا كانت بينهما عداوة، وذهب إلى حديث مرسل رواه عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن النبي ﷺ “لا تقبَلُ شهادةُ ظَنِينٍ ولا خَصمٍ” يعني صاحب عداوة وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال لا تجوز شهادة صاحب غمر لأخيه يعني صاحب عداوة
أما الزهري فقد أشار إلى أن سلف المسلمين لم يكونوا يُتهمون في شهاداتهم بين الأقارب، لكن بمرور الزمن ظهرت ممارسات دفعت الولاة لرفض شهادة الأقارب، ومع تزايد الفساد في عصرنا، يبدو هذا الموقف أكثر واقعية.
ستون سنة في القضاء
أورد جمال الدين المزي في كتابه تهذيب الكمال في أسماء الرجال رواية ميسرة بن شريح عن أبيه قال: وليت القضاء لعمر وعثمان وعلي ومعاوية، ويزيد بن معاوية ولعبد الملك إلى أيام الحجاج فاستعفيت الحجاج، قال: وكان له مائة وعشرون سنة وعاش بعد استعفائه الحجاج سنة ثم مات.
شغل شريح القاضي هذا المنصب ستين عاماً، ملء أيام قضائه عدلاً وإنصافاً ونزاهةً.
ولا يقتصر دور الإنسان في القضاء على أروقة المحاكم، فقد يكون قاضياً بين موظفيه، أو بين أقربائه، أو بين ابنائه أو بين زوجاته.
والله يدعو المؤمن أن يسعى دائماً للإنصاف، إذ يقول تعالى في سورة المائدة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”، حتى لو كان الطرف الآخر مجوسياً، أو كافراً، أو منافقاً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو عاصياً، على المرء أن يلزم الحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
فالحق أبلج والباطل لجلج.