spot_imgspot_img
بيتقانونواقع اللِّسان المُبين بين الإقْصَاء والتقنين

واقع اللِّسان المُبين بين الإقْصَاء والتقنين

بادر أبو الأسود الدؤلي بتكليف من علي رضي الله عنه إلى وضع علامات إعرابية على كلمات القرآن الكريم، لضبط تلاوة حديثي العهد بالإسلام من فئة العجم التي كانت تلْحن في قواعد اللغة، وبعد ذلك بأكثر من ثلاثة عشر قرناً وضع المُشَرِّع القطري قانوناً مؤلفاً من خمسة عشر بنداً للحد من تشوه ألسنة أبنائها وآثار غزو ثقافي يتهدد لغة الضاد.

عاش العرب قبل الاستعمار أحرارًا أُبَاة للضَّيْم، لُسْنًا فِصَاحًا، يتفاخرون بإجادة القول كما يتفاخرون بالشَّجاعة والكرم، وأسعفتهم بديهةٌ حاضرةٌ، ولغةٌ رنَّانةٌ غنيَّةٌ، واشتعلت بينهم حروبٌ ومنازعاتٌ؛ فازدهرت الخطابة عندهم.

والمَرْءُ منَّا مَسْتورٌ تحت بَيَانه بِلِسَانه؛ فإذا أَبَانَ.. بَانَ.

فما الَّذي حدث للعرب والعربيَّة في زماننا؟

كَتَبَ إليَّ -عبر مواقع التواصل الاجتماعي- شخصٌ لا أعرفه؛ قائلًا:

بما أنَّك مِن أهل اللُّغة والاختصاص؛ فأودُّ أنْ أستشيرك في أمر مهم عندي.

قلتُ: أنا لستُ مِن أهل اللُّغة والاختصاص؛ وإنَّما بَيَّاع كلام مِن أهل التَّدريب والإعلام.

قال: زادك الله تواضعًا سيِّدي، لكنّي أتابع –بشغف– منشوراتك اللُّغويَّة، وكتاباتك الأدبيَّة، وروحك الأبِيَّة، فأنا مشروع شاعر عظيم نشأتُ على شِعْر الرَّعيل الأوّل وفُحُول البيان، وأودُّ أنْ تنصحني –بحُكم خبرتك– كيف أستزيدُ مِن ديوان العرب، كي أَنَالَ منه الأَرَب؟

وأحْسَبُ أنَّك بهيئتك وشَارَتك، وسَمْتك وإشارتك، قد فهمتَ مرادي، ووصلك ما في فؤادي.

قلتُ وقد رَاقَنِي كلامُه: هذا أمرٌ كان حديثَ المجالس، وشَحْذَ الذَّاهن والهاجس، وكان سابقًا باسقًا رائقًا فائقًا؛ فأضحى لا يُشغل البالَ، ولا يُهيِّجُ البَلْبالَ، بعد أنْ أنطقَ العِيُّ الأفواهَ الصَّامتة، وأسْكَتَ الأَلسُنَ النَّاطقة، فإنْ أَعجَزَكَ حديثُهم أوَّل مَرَّة؛ فلا لَوْمَ على مَنْ قال ولا مَعَرَّة.

أَمَا وإنَّك بهذه الهِمَّة الَّتي تُناطح الثُّريَّا -كما تزعمُ-، وتريدُ أنْ تَسْلُكَ مَسْلكَ الأكابر؛ فعليك بـ(قلائد) المتنبِّي، و(أهاجي) الحُطَيْئة، و(حَوْليَّات) زُهير، و(اعتذارات) النَّابغة، و(هاشميَّات) الكُمَّيت، و(نقائض) جرير والفرزدق، و(لطائف) كُشاجم، و(خَمْريَّات) أبي نوَّاس، و(زُهْدِيَّات) أبي العتاهيَّة، و(تشبيهات) ابن المعتز، و(مدائح) البُحْتري، و(رَوْضيَّات) الصّنوبري..؛ فإنْ لم تتخرَّج في مدرسة فُحُول الشِّعْر، وتَتَّبع خُطُواتهم؛ فلا أَشَبَّ اللهُ قَرْنَك.

قال لي: مَن هؤلاء يا أستاذي؟ أهؤلاء شعراء؟!

قانون حماية اللغة العربية

لم تكتفِ دولة قطر بالجانب الثقافي أو التعليمي لدعم اللغة العربية، فكان لها خطوة مميزة في حمايتها من خلال إصدارها للقانون رقم 7 لسنة 2019 بشأن حماية اللغة العربية الذي ألزم “جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية بحماية ودعم اللغة العربية في كافة الأنشطة والفعاليات التي تقوم بها”، كما نص على أن “تُصاغ تشريعات الدولة باللغة العربية، ويجوز إصدار ترجمة لها بلغات أخرى، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.” كما وضح القانون أن “اللغة العربية هي لغة المحادثات والمفاوضات والمذكرات والمراسلات التي تتم مع الحكومات الأخرى والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية والمؤتمرات الرسمية، مع إرفاق النص باللغة الأخرى المعتمدة لتلك الجهات.”

ويلزم القانون المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة بتدريس اللغة العربية كمادة أساسية مستقلة ضمن مناهجها، وفقاً للقواعد والضوابط التي تضعها وزارة التعليم والتعليم العالي.

وشدد القانون على ضرورة الالتزام باللغة العربية من خلال وضعه لعقوبة مالية كبيرة تبلغ نحو 14 ألف دولار في حالة مخالفته، وذلك “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يُعاقب بالغرامة التي لا تزيد على (50,000) خمسين ألف ريال”.

وقد رحبت الأوساط الأكاديمية القطرية بهذا القانون، وعلى حد قول الدكتورة امتنان الصمادي؛ أستاذة اللغة العربية بجامعة قطر في حوار معها على موقع الجزيرة نت التي ترى “أن الدول العربية بحاجة لمثل هذا القانون لإعادة النظر في هويتها والتأكيد عليها، موضحة أن القانون الجديد يحمل 15 بنداً مفصلاً تفصيلاً دقيقاً حتى لا تُترك الأمور عائمة.”

ومن جانبها رحبت سعادة السيدة لولوة الخاطر، المتحدث الرسمي السابق باسم وزارة الخارجية القطرية في تصريح خاص لجريدة الشرق القطرية، قائلة إن “قانون حماية اللغة العربية، لم يتم إصداره من فراغ، بل جاء نتيجة إدراك القيادة حول الحاجة الحقيقية إلى هذا القانون، لافتة إلى أن اللغة تعد حاضنة الهوية، وأنه لا يمكن المحافظة على الهوية دون المحافظة على اللغة العربية.”

وأضافت أن “المسألة تحتاج إلى تفعيل، وتحتاج إلى نوع من التفاهم وتضافر الجهود، فهذه المسألة ليست مسألة إلزام وإجبار بل مسألة تتطلب أن يدرك الجميع أن هناك حاجة للمشاركة، وأننا جميعا يجب أن نعمل بشكل جماعي لسد الثغرات الموجودة”.

لكن الكاتبة القطرية انتصار السيف ترى في مقال لها نشرته جريدة الراية القطرية أن التشريعات القانونية لحماية اللغة العربية خطوة ضرورية لكنها “لن تُؤْتِي أُكُلها إن لم تُنشَأ مؤسّسة لُغويّة تُعنى بالشأن اللغويّ في قطر؛ مثل: إنشاء مَجْمَع اللغة العربيّة، لأنَّ الوضع اللغويّ سيبقى عائماً دون رقابة إن لم يكن تحت مؤسّسة رقابةٍ لُغويّةٍ تشريعيّة وتنفيذيّة تشرّع وتنفّذ القرارات اللغويّة، التي تصبّ في صالح اللغة العربيّة”

وتأكيداً لما قالته السيف نرى في الجزائر مثالاً لبلدٍ قاوم التجريف الثقافي من قِبل المحتل الفرنسي، إذ يرى د. بن يحيى طاهر ناعوس في دراسة له حول المشروع الوطني لتعميم استعمال اللغة العربية في الجزائر أنه رغم القانون رقم 91-05 المؤرخ في 16 يناير سنة 1991 المتضمن تعميم استعمال اللغة العربية “ما زالت الجزائر تعاني من صراع خفي، لكن حاد، بين الفرنكفونيين والمعربين.”

وأضاف ناعوس أن “الجزائر تعاني من مشكلات كثيرة جراء هذه الازدواجية، إذ عكفت، منذ استقلالها في 5 تموز/ يوليو 1962، على تكريس ثوابت الدولة الجزائرية والهوية الوطنية، ونص دستورها الأول الصادر في العام 1963 في مادته الخامسة، على أن اللغة العربية هي اللغة القومية والرسمية للدولة، لكن محنة التعريب استمرّت منذ مطلع الاستقلال، مروراً بعهد الرئيس هواري بومدين سنة 1971، حيث بدأت اللغة العربية تأخذ طابعاً رسمياً.”

لكن الاهتمام البالغ باللغة أخذ منحى آخر في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، حيث استطاع الفرنسيون أن يفرضوا سيطرتهم مرة أخرى، وتصدوا لقانون اللغة العربية، مرغمةً البرلمان الجزائري على إلغاء قرار التعريب، “بحجة أن الظروف الدولية لا تسمح بذلك، وبمعنى آخر أنّ باريس وضعت (فيتو) في وجه اللغة العربية في الجزائر،” كما قال ناعوس.

فالقانون الجزائري لم يرسخ أسساً تقوم اللغة، كمؤسسة أو مجمع يدعم القانون ويصحح مسار التشويه الذي جرى لعروبتها.

الحاجة إلى قانون لحماية اللغة العربية

يشير موقع إسلام أون لاين إلى مشاركة د.علي الكبيسي، المدير العام للمنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية في ندوة بعنوان قراءة في قانون حماية اللغة العربية في قطر التي استضافتها مكتبتها الوطنية بالتعاون مع مبادرة الأدب القطري عن الواقع والصراع اللغوي في دولة قطر وتحديات العولمة.

يقول د. الكبيسي إن “اللغة العربية مكوّن رئيس من مكوّنات الهوية العربية، وإن إدراك العلاقة التفاعلية بين اللغة والهوية يتطلب وعياً لغوياً سليماً، وغياب هذا الوعي هو السبب الرئيس في عدم تقدير مكانة اللغة العربية وأهميتها”.

ووضح الدكتور الكبيسي في لقاء معه على قناة العربي أن المسؤولين ومتخذي القرار واعون تماماً بالمخاطر التي تواجهها اللغة العربية “ولكن غالبية الشعب من الأسرة إلى التعليم إلى الإعلام إلى غيرها من الأمور لم يبلغوا مرحلة الوعي من المخاطر التي تتهدد اللغة”، والدليل على وعي السياسيين “إصدار مواثيق باللغة العربية، كما في الإمارات، أو قانون اللغة العربية كما في الأردن وقطر”.

الدكتور علي الكبيسي يشيد بقانون اللغة العربية

ورغم أن شبه الجزيرة العربية هي منبع اللغة العربية، إلا أن دول الخليج تواجه تحديات لغوية من نوع خاص، فقربها الجغرافي من إيران أدى إلى صراع ثقافي، كما أن المؤثرات الهندية على دول الخليج منذ القدم بسبب التجارة زادت مع بزوغ عصر النفط والرخاء الاقتصادي الذي جذب ملايين الأيدي العاملة من شبه القارة الهندية، وهو ما أنتج لغة هجينة يطلق عليها علماء اللغة مصطلح بيدجن لا تتقيد بقواعد أي من اللغتين.

وهذه اللغة الهجينة أو البيدجن تُنشئ مفردات دخيلة على العربية، مثل كلمة (سِيدة) بمعنى إلى الأمام في خط مستقيم، وكلمة (سامان) بمعنى أغراض، وكلمة (كتشرة) بمعنى النفايات، إلى أخره من كلمات.

ومع اهتمام دول الخليج بالنهضة الاقتصادية وما يصاحبها من تطوير للتعليم زادت جرعة الاهتمام بتدريس اللغة الإنجليزية، مع انتشار ملحوظ للمدارس الخاصة الدولية، وهو ما أدى إلى شعور عام لدى أولياء الأمور بأن اللغة العربية ليست ذات أولوية في اتقانها، ظناً منهم أن اللهجة المحكية تكفي، بل نشأ كثير من الأطفال في رعاية خادمات لا يعرفن العربية، وهو ما أحاطهم ببيئة لغوية دخيلة.

من جانب آخر ربما لا يَعرِفُ الكثيرون أنَّ بداية التَّعليم العالي في مِصْرَ على سبيل المثال كان باللُّغة العربيَّة، يقول عمر طوسون أحد أشهر أمراء أسرة محمد علي في كتابه الصنائع والمدارس الحربية في عهد محمد علي باشا (1935) إن مدرسة الطِّبّ التي أنشئت في سنة 1827 في عهد جده الكبير كان التَّعليم فيها بالعربيَّة، رُغم أنَّ أوائل مَن دَرَّسَ فيها كانوا من الفرنسيِّين، والإيطاليِّين، والأسبان، والألمان، وظلَّ التَّعليم العالي في مصرَ مُعَرَّباً ستين عاماً، حتَّى جاء الاحتلال البريطانيّ، وفرض تعليم الطِّبِّ باللُّغة الإنكليزيَّة سنة 1887.

وقد أكَّد لي أستاذي في دورة تعلم اللغة اليابانيّة أنه قبل هذه النَّكسة اللغوية في مصر كان اليابانيُّون يُبعثون إليها من أجل التعرُّف على الوسائل الَّتي اتَّبعتها في نهضتها الحديثة الرَّائدة آنذاك، ويبدو أن مصر كانت مؤهَّلةً لبلوغ ما حقَّقته اليابانُ من تقدُّم مذهل فيما بعد، لولا أنْ وَأَدَ الاحتلالُ ذلك الأمل بتحويل لغة التَّعليم إلى لغة أجنبيَّة، وقضى على قوَّة الإبداع والاختراع.

إن اهتمام الغيورين على اللغة العربية يمتد على بقعة جغرافية شاسعة تعرضت لموجات متتالية من غزو ثقافي يستدعي تضافر الجهود ثقافياً على المستوى الشعبي، وسياسياً على مستوى المسؤولين ومتخذي القرار.

مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية