غالباً ما أرى أطفالي ينجذبون إلى مسلسلات وأفلام الرسوم المتحركة التي تُنتجها شركات غربية أو آسيوية مثل سوني، وديزني، ودريم ووركس، ونيكولوديون، وجيبلي، وكارتون نتورك، وغيرها.
وأرى جلياً أن ما تنتجه هذه الشركات لا يمت بصلة إلى الهوية أو الثقافة الإسلامية أو العربية أو الإقليمية، وبالتالي لا يمكن أن أتجاهل واجبي نحوهم بمراقبتي لما يتعر ضون له.
لا أنكر أن معايير الجودة التي تلتزم بها هذه الشركات هي الأفضل عالمياً، فهي تعتبر بحق نماذج ممتازة في هذه الصناعة التي يتمنى أي منتج للرسوم المتحركة الوصول إلى مستواها، كما أتمنى أن يكون سوقنا الإقليمي متطوراً تقنياً وتحريرياً ليكون قادراً على التميز.
ومع ذلك، فإن المنافسة معها تكاد تكون مستحيلة، وفي الوقت ذاته، لا أرغب في أن يتأثر أطفالي بالقيم والمبادئ التي تروجها هذه الشركات، والتي تتعارض مع مبادئنا وثقافتنا وهويتنا.
اليوم يتابع أطفالنا خنزيرة تسخر من أبيها عندما يخطئ في المسلسل الكرتوني پيپا پيغ، في تناقض صارخ مع ما نحاول أن نزرعه في أبنائنا “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ”.
ناهيك عن تلك الجنية التي تعتمد على السحر لتسهيل حياتها في المسلسل الكرتوني الآخر مملكة بين وهولي الصغيرة، رغم أن الله سبحانه يقول “وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ”.
وكثيراً من الأعمال اليوم تعزز للقراصنة، رغم دناءة السرقة، ومؤخرا تعزز وتروج للعلاقات بين نفس الجنس كما في ستيفن البطل، رغم أن الله يلعنهم صراحة، وكل ذلك يُعرض أمام أعيننا، وأصبح التحكم بما يعرض شبه مستحيل.
رقابتي لما يشاهده أطفالي شخصية ونابعة من حرص أبوي، وتأتي بعد رقابة الدولة وغربلتها للمصنفات الفنية التي تُستورد وتوزع في البلاد.
فدولة قطر قبل قرابة النصف قرن حددت بشكل واضح ما يجب أن يُحظر نشره في قانون رقم 8 لسنة 1979 بشأن المطبوعات والنشر في المادتين 46 و47، إذ أنه يراعي عدم نشر ما يضر بسياسة واقتصاد البلاد، أو ما يضر بحقوق وكرامة وخصوصيات المتواجدين في هذا البلد.
ويحظر القانون كذلك نشر “كل رأي يتضمن سخرية أو تحقيراً لإحدى الديانات السماوية أو أحد مذاهبها، أو يساعد على إثارة النعرات الطائفية أو العنصرية أو الدينية”، وينسجم ذلك مع قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
وبشكل عام يحظر القانون نشر “كل ما ينافي الأخلاق أو يتضمن خدشاً للآداب العامة”، لكن مفهوم الآداب العامة غير محدد بشكل قاطع في التشريعات القانونية، ويخضع لتفسيرات مختلفة تعتمد على الظروف الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع، ويخضع كذلك لاجتهادات الفقهاء وآراء القضاة، كما يوضح د. هاشم منصور نصار في كتابه دور السلطات العامة في تكييف الجرائم التي يرتكبها الموظف العام (2018).
ويشير د. هشام منصور إلى أن “فكرة الآداب العامة على غرار فكرة النظام العام، من الأفكار المرنة المتغيرة التي يصعب تحديدها”، ويضيف أن الآداب العامة لا تمثل بالضرورة كل الأخلاق، “وإنما يُقصد منها قدر من هذه القواعد التي تمثل الأصول الأساسية للأخلاق في المجتمع، أي عبارة عن الحد الأدنى من القواعد الخلقية التي تعتبر لازمة للمحافظة على المجتمع من الانحلال، بحيث يُفرض على الجميع احترامها وعدم المساس بها.”
إن اختلاف الآراء القانونية والفقهية حول مفهوم الآداب العامة يؤدي إلى تباين في تطبيق القوانين على أرض الواقع، ويعكس تحدياً حقيقياً للقضاء أمام الوقائع المتعلقة بالجرائم المرتبطة بالآداب العامة.
ورغم تطور سياسة الدولة فيما يتعلق بالإعلام والثقافة والتعليم والتنمية من إنشاء لوزارات أو إلغاء أو دمج على مر العقود، استمرت المواد المتعلقة بالرقابة والمحظورة من النشر بقانون رقم 8 لسنة 1979 صامدة ومطبقة، وحتى التعديلات والمراسيم والقرارات ذات الصلة التي سُنت خلال هذه السنوات لم تلمسها.
وكل هذه القطاعات تعاونت بالفعل لتشكيل لجنة أو لجان مختصة بالرقابة، حسب المادة 64 من القانون نفسه، وتوجيه الجهات المصرحة بالاستيراد وتوزيع المصنفات الفنية لتوفير “الجيد فنياً واجتماعياً ودينياً وخلقياً وثقافياً، وذلك حفاظاً على التقاليد والآداب العامة المرعية في دولة قطر وللإسهام في رفع المستوى الثقافي العام.”
وهناك غالباً – رغم الانفتاح الذي أنجزته الدولة- ثلاثة مواضيع تؤدي إلى الحظر، أولها المثير للبلبلة السياسية، وثانيها الدينية التي تتعرض للذات الإلهية أو للأنبياء والرسل، وثالثها الأخلاقية وخاصة الجنسية منها.
والعجيب أن أحد الكتب الممنوعة هو رسالة دكتوراة في جامعة قطر قدمتها د. موزة الجابر بعنوان التطور الاقتصادي والاجتماعي في قطر بين عامي 1930 و 1973 (2002) التي نالت بناء عليها شهادتها، والتي في نفس الوقت تعد أحد المراجع للتاريخ القطري الحديث بشكل تحليلي أكاديمي ممنهج.
ويقول المهندس هاني الخراز عبر حسابه على منصة أكس إن أحد الاستشاريين في مكتب وزير الثقافة تواصل معه ووضح أن “الكتاب ممنوع من النشر في المكتبات ومعارض الكتب، ولكن ليس من حق أحد مصادرته من أي قارئ يطلبه عبر المتاجر الإلكترونية”.
وخلال السنوات القليلة الماضية تم حظر مجموعة من الأفلام لوجود شخصيات أو رسائل تروج للمثلية، ومنها فيلم السنة الضوئية (2002) أحد أفلام سلسلة توي ستوري من إنتاج شركة بيكسار الذي عرض علاقة حب بين امرأتين أثناء تناوله لنشأة شخصية باز لايتيير، وذلك كما ورد في مقال في فارايتي، وأدى ذلك إلى حظر الفيلم أو سحبه من دور العرض في دول عديدة ومنها قطر.
كما تم منع عرض فيلم شركة مارفيل دكتور سترينج في الأكوان المتعددة للجنون (2022) وهو ما أشارت إليه صحيفة هوليوود ريبورتر، في كل من السعودية والكويت وقطر بسبب ظهور شخصية جديدة مثلية، على اعتبار أن الشذوذ الجنسي مخالف للآداب، العامة مما يؤدي لحجب الأفلام التي تتناول مواضيع أو شخصيات منحلة جنسياً.
لم تعد مهمة الرقابة سهلة كما كانت في الماضي، فنحن اليوم نعيش فترة وصلت فيها تكنولوجيا البث إلى أعلى مستوياته، مستوى لم يشهده التاريخ من قبل، وأصبحت المعلومة ملكاً للجميع، فمع ظهور الإنترنت أصبح كل شي متاح للطفل والبالغ، ولم تعد وسائل الإعلام حكراً على أحد.
يقول وليام ميرن في كتابه دراسات إعلامية 2.0 (2014) أننا نعيش اليوم عالماً فيه إعلام حديث يتطور باستمرار، وما ولدنا معه وعرفناه في صغرنا أصبح تقليدياً، إعلام حديث لا يميز بين المرسل والمستقبل، معطياً أي أحد فرصة البث لأي أحد، فأصبحنا نعيش نموذج بث جديد يلغي العديد من القواعد والنظريات الإعلامية التي سجلتها الكتب وعلماء حقل الإعلام خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
غزى الغرب الدول الإسلامية لسنوات عديدة، ونحن نعيش اليوم مرحلة ما بعد الاستعمار، نعيش فترة لا نخطو خطوة إلا بإذن من الدول التي تدعي أنها عظمى، ومتطورة، وأولى، تاركة إيانا دولا صغيرة، نامية، وثالثة، نقلدها في كل صغيرة وكبيرة، إذ نبني منازلنا كما يبنون، ونخطط مدننا كما يخططون، ونلبس كما يلبسون، ونأكل الوجبات السريعة كما يأكلون، ونعلم أطفالنا لغتهم، بل نحتفل بأعيادهم، حتى فقدنا هويتنا، وأصبحنا جيلاً بعد آخر ننسى من نحن، ولا نبالي بما يحدث لنا.
لا أنكر أن هناك جهودآً متواضعة لإنتاج محتوى إسلامي، ولكن لا يرقى لمستوى الإنتاج الغربي، ولا حتى ينافس ما هو غير إسلامي على المستوى الإقليمي أو المحلي، فطبيعة السوق الغربي تسمح بتوفير عروض مدعومة مالياً وفكرياً لترتقي وتصل للعالمية، وللأسف تتسلل إلى منازلنا تحت أنظارنا ورغم أنوفنا، فكيف يمكننا استبدالها بما هو مناسب لثقافتنا تربوياً وقيمياً، بحيث على الأقل يتساوى في الجودة والمعالجة مع ما يقدمه الغرب؟
وقد سبق أن أتيحت لي فرصة التعاون لمدة عام كامل مع مؤسسة قطر أثناء تحول قناة الجزيرة للأطفال إلى قناة جيم، وكانت قبل هذه الخطوة تمتاز بإنتاج متميز بلغته العربية الفصحى العفوية المبسطة للطفل، حيث عقدت شراكة على مستوى جميع المدارس في قطر من جانب والقناة، مما أتاح الفرصة أمام تلاميذ المدارس لإبراز مواهبهم المختلفة على الشاشة، وهو ما عزز قدراتهم على التواصل والإبداع.
ومع تدشين قناة جيم البديلة انزلقت القناة للأسف إلى التوسع المطرد في استجلاب برامج أطفال غربية بقيم دخيلة أحياناً، ومما زاد الطين بلة أنها مررت أفكارها بثوب فصيح من خلال ترجمتها ودبلجتها، وصاحب ذلك حذف واجتزاء مقاطع غير مقبولة مجتمعياً، مما جعل المادة المقدمة ضعيفة قيمياً ومهترئة فنياً.
وكي نرتقي يوماً ما بانتاجنا الإعلامي، يتوجب علينا بداية أن نحدد ملامح ثقافتنا الإسلامية، وقيمنا التربوية التي يجب ترسيخها في عقول أبنائنا، والعناصر الفنية المناسبة لكل فئة سنية، ولا نتجاهل الجهود الغربية، بل نستفيد منها بما تقدمه من نماذج تمكننا من الوصول إلى ما نرجوه.