كنتُ في ذلك اليوم من عام 1981 صبياً في الثانية عشرة من العمر، يجلس أمام شاشة التلفاز ليشاهد العرض العسكري ويستمع لخطاب المعلق الحماسي بمناسبة الذكرى الثامنة لحرب السادس من أكتوبر بين مصر وسوريا من جانب وإسرائيل من الجانب الآخر.
وأثناء عرض لقطة صعود طائرات الميراج إلى أعنان السماء وهي تطلق من محركاتها النفاثة كميات ضخمة من دخان كثيف بألوان زاهية، إذ فجأة تميل الكاميرا بزاوية حادة إلى الأرض وينقطع البث، لم يفهم أحد ماذا حدث، وبقي الناس في حالة ترقب سرعان ما تحول مع مرور الساعات إلى قلق ضاعفته فقرات الأغاني الوطنية التي لا تنتهي، خاصة بعدما أعقبتها تلاوة متصلة من آي الذكر الحكيم.
ليقطع المذيع الشك باليقين في نهاية اليوم معلناً وفاة الرئيس محمد أنور السادات في عملية اغتيال.
لم أكن مصدوماً ولم أكن متوقِعاً، كنت كمن يشاهد فيلماً لا علاقة له بالواقع، وفي اليوم التالي ذهبت مع أمي إلى بيت جدتي وكانت الشوارع خالية تماماً، في هدوء غير مسبوق، كأنه حظر تجول طوعي من الشعب.
كنت قبل هذه الواقعة ببضع سنوات وأنا في الصف الرابع أو ربما الخامس الابتدائي أكتب في حصة التعبير موضوعاً طُلب منا عن معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، لأصف دهشتي من لحظة نزول السادات من الطائرة المصرية الرابضة على أرض مطار بن غوريون وفي الخلفية ترفرف أعلام إسرائيل بنجمتها الزرقاء، فكتبت فيما ما زلت أذكره “ذهب الرئيس إلى إسرائيل في عقم دارهم”، فابتسم مدرس اللغة العربية معجباً بكتابتي، وقال لي أحسنت يا أحمد، لكنها “عقر دارهم وليست عقم دارهم”.
في خطابه الأخير بتاريخ 5 سبتمبر 1981 خطب السادات في مجلس الشعب موضحاً أسباب اعتقاله المفاجئ لعدد من الشخصيات الدينية والسياسية، فيما يعرف باعتقالات سبتمبر.
بعد هذا الخطاب بشهر واحد فقط، وتحديداً في يوم 6 أكتوبر وقعت حادثة المنصة التي اغتال فيها بضعة ضباط عسكريين مصريين رئيس البلاد أثناء حضوره ذكرى حرب أكتوبر التي شنت فيها مصر وسوريا هجوماً عسكرياً كبيراً على إسرائيل في عام 1973 لاستعادة أراضيها المحتلة.
يقول محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب إن الملازم أول خالد الإسلامبولي – أحد الضباط العسكريين المشاركين في عملية اغتيال السادات، والذي كان وقت العملية يبلغ من العمر 24 عاماً- ذكر أثناء التحقيق معه “ثلاثة أسباب محددة رداً على سؤال واحد هو : لماذا قررت اغتيال الرئيس السادات؟ كان السبب الأول هو أن القوانين التي يجري بها الحكم في البلاد لا تتفق مع تعاليم الإسلام وشرائعه، وبالتالى فإن المسلمين كانوا يعانون كافة صنوف المشقات، وكان السبب الثاني هو أن السادات أجرى صلحاً مع اليهود)، وكان السبب الثالث هو (اعتقال علماء المسلمين واضطهادهم وإهانتهم”.
جوانب نفسية
ومن الجوانب النفسية التي ربما لا يعلمها الكثيرون أن الإسلامبولي عندما ذهب لبيت شقيقته لآخر مرة قبل إقدامه على عملية الاغتيال ما ذكره هيكل، حيث “كتب رسالة وضعها في ظرف تركه لها مخبأ في غرفة نومها، ولم تعثر شقيقته على هذا الخطاب إلا بعد اغتيال السادات والقبض على شقيقها متهماً باغتياله.
قال الإسلامبولي في الخطاب: أرجوكم أن تسامحوني ، إنني لم أرتكب جريمة، إني لا أريد شيئاً لنفسى ولا أطلب ترقية أو مكافأة، وإذا حدث لأحد منكم ضرر بسببي فإني أرجوكم أن تسامحوني)، وفيما بعد وحينما كانت خالة الإسلامبولي تزوره في السجن ، فإنها سألته ألم يفكر فيما يمكن أن يصيب والده وأمه وبقية أسرته بسبب ما فعله ، وكان رده أنه فكر في الله وحده”.
على الجانب الآخر كان السادات سعيداً بما حققه من إنجازات في حرب 1973 وما تلاها من معاهدة سلام وانفتاح اقتصادي، فوفقاً لهيكل أجرى يوم 23 سبتمبر – أي قبل اغتياله بأسبوعين – لقاءً مع قناة إن بي سي الأمريكية، “وعندما سأله المذيع ما هو رأيك في المقارنة التي تُعقد بينك وبين الشاه؟”
رد السادات: “إنني في حيرة من الأمر حقيقة، إن مثل هذه المقارنة لا مجال لها على الإطلاق، وهؤلاء الذين يعقدونها هم أناس ملأ الحقد قلوبهم، إنك رأيت نتائج الاستفتاء، وكيف أن مائة في المائة من شعبي يؤيدون سياستي، فكيف يمكن عقد هذه المقارنة بيني وبين الشاه؟ وبأي شيء غير الحقد يمكن تبرير عقدها؟ من سوء الحظ أن هؤلاء الناس يخلطون بين المعارضة والحقد، إنهم يسعون إلى تشويه صورتي وصورة مصر، فيما يتعلق بصورتي فإن الأمر لا يهمني، ولكني لن أسمح لأحد أن يشوه صورة مصر”.
من المفارقات أن استجواب خالد الإسلامبولي بدأ فى نفس مستشفى المعادى العسكرى الذى كان جثمان السادات مسجى فيه، يقول هيكل “حاول أحد المحققين أن يكسر مقاومته بأن قال له إن الرئيس لم يُقتل، وإنما أصيب بجروح يتماثل للشفاء منه.”
ورغم أن خالد الإسلامبولي كان في أشد حالات المعاناة، إلا أنه لم يخدع، فقد نظر إلى المحقق بعينيه الغائرتين فى أورام الكدمات التي أصابته من أثر الضرب المبرح، وقال له “إنك لن تستطيع أن تخدعني، لقد وضعت في جسده أربعاً وثلاثين رصاصة، فابحث لك عن شيء آخر تخدعني به.”
يضيف هيكل أنه أثناء المحاكمة العسكرية للمتهمين، عندما سُئل خالد الإسلامبولي هل هو مذنب أو غير مذنب ، كان جوابه: “نعم، لقد قتلته ولكننى غير مذنب، لقد فعلت ما فعلت في سبيل الدين وفي سبيل الوطن”، وكانت إجابات كل المتهمين الآخرين متماثلة، وحين سُئلوا جميعاً عمن اختاروهم للدفاع عنهم من المحامين؟ كان جوابهم أيضاً متماثلاً “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا”.
وقد قضت المحكمة العسكرية العليا بالإعدام على خمسة من المتهمين، إضافة إلى أحكام بالسجن المؤبد على آخرين، وهو ما تم بالفعل، ولم تبريء إلا شخصاً واحداً.
القضاء العسكري في مصر
وقد طرأت بعض التعديلات على قانون رقم 25 لسنة 1966 بإصدار قانون الأحكام العسكرية، لكن يبقى القضاء العسكري في مصر مختصاً بحالات محددة، ويطبق على سبيل المثال على العسكريين وعلى طلبة الكليات العسكرية وعلى المعتدين على المرافق العسكرية وعلى المتواطئين مع جهات معادية، وعلى من يقع في أسر العدو بسبب إهماله أو مخالفته الأوامر عمداً، ومن أهم بنوده على سبيل المثال، المادة (106) التي تنص في فقرتها الأولى على أن “ينفذ حكم الإعدام بالنسبة للعسكريين رميا بالرصاص، أما بالنسبة للمدنيين فينفذ طبقاً للقانون”.
وعن كيفية اختيار القضاة العسكريين، تنص المادة (54) على أن “يصدر بتعيين القضاة العسكريين قرار من وزير الحربية بناء على اقتراح مدير القضاء العسكري”.
ويتخذ قانون الأحكام العسكرية موقفاً حازماً تجاه الاعتداء بالسرقة على العسكريين، فتنص المادة (136) “يعاقب بالإعدام أو بجزاء أقل منه منصوص عليه في هذا القانون كل من أقدم في منطقة الأعمال العسكرية على سرقة عسكري ميت أو جريح أو مريض، حتى ولو كان من الأعداء”.
أما بخصوص إعادة النظر في الأحكام المصدق عليها، فتنص المادة (112) على أنه “بعد إتمام التصديق، لا يجوز إعادة النظر في أحكام المحاكم العسكرية، إلا بمعرفة السلطة الأعلى من الضابط المصدق وهي رئيس الجمهورية”.
أم الطعن في الأحكام العسكرية، فوفقاً للمادة (117) “لا يجوز بأي وجه من الوجوه في الأحكام الصادرة من المحاكم العسكرية أمام أية جهة قضائية أو إدارية على خلاف ما نصت عليه أحكام هذا القانون”.
دستورية القضاء العسكري المصري
أما عن الموقف الدستوري للقضاء العسكري في مصر، فالمادة (204) من الدستور المصري التي تم اعتمادها بموجب الاستفتاء على تعديل الدستور في عام 2019 تنص على أن “القضاء العسكرى جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها ومن في حكمهم، والجرائم المرتكبة من أفراد المخابرات العامة أثناء وبسبب الخدمة.
وتوضح المادة (204) أيضاً أنه “لا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداء على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المنشآت التي تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة. أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداء مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم”.
ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى، وأعضاء القضاء العسكرى مستقلون غير قابلين للعزل، وتكون لهم كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية.
وهناك جدل عالمي بين فقهاء القانون حول القضاء العسكري، فمثلاً يتحفظ الفقيه القانوني الكولومبي فيديريكو أندرو-غوزمان على تبني بعض الدول للقضاء العسكري باعتباره من وجه نظره قضاءَ موازياً للقضاء المدنى.
ففي الجزء الأول من كتابه القضاء العسكري والقانون الدولي (2004) الصادر في سويسرا عن اللجنة الدولية للحقوقيين يقول “ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ المجال القضائي ﻟﺘﺼﻞ إلى ﺻﻤﻴﻢ احترام ﺳﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، ﻓﻔﻲ الكثير ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻠﺪﺍﻥ، ﺣﻮّﻝ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﻔﺮﻳﻖ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰﻩ المحاكم ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ إلى ﺃﺩﻭﺍﺕ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﻴﺪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﺗﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺿﺪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ المدنية، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ المحاكم ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ كثيراً ﻣﺎ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ المسلحة والمؤسسات ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﻣﺮﺍﻗﺒﺔ المجتمع”.
مفارقات القدر
أربعون عاماً بالضبط فصلت بين لحاق جيهان السادات في عام 2021 بزوجها إثر إصابتها بمرض السرطان، لتدفن بجواره في المكان ذاته الذي وضع هو فيه إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول قُبيل اغتياله بسويعات معدودة، فكانت بذلك شاهدة على مكان محنة مزلزلة، ولا ريب أنها كانت وقتها تجهل أنها تنظر إلى موضع قبره وقبرها.