spot_imgspot_img
بيتأيام عالميةاليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا محرقة اليهود - 27 يناير

اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا محرقة اليهود – 27 يناير

شاهدت ما لا يقل عن 7 مرات، وتأثرت في كل مرة بأحد أهم أيقونات السينما على مستوى العالم، فيلم قائمة شيندلر الذي أُنتج في عام 1993، أحد أنجح أفلام المخرج الأمريكي اليهودي ستيفن سبيلبرغ، وقد تنازل عن أجره في هذا العمل، تأكيداً منه على تعاطفه الكامل دون أدنى مقابل مع ضحايا المحرقة النازية من اليهود.

الفيلم مستوحى عن رواية سفينة شيندلر (1982)، ربما يستلهم العنوان جانب النجاة في قصة سفينة نبي الله نوح عليه السلام، وقد حازت الرواية على جائزة البوكر الأدبية، للكاتب الأسترالي من أصول أيرلندية توماس كينيلي الذي استمع قبلها بعامين إلى شهادة بولديك بفيفيربرغ، أحد اليهود البولنديين الناجين من الهولوكوست، واطلع على مذكراته التي كتبها عن رجل الأعمال الألماني أوسكار شيندلر الذي أنقذه هو وحوالي 1200 يهودي آخر من المحرقة النازية.

يقول كيلي في لقاء معه أجرته صحيفة التليغراف البريطانية إن الحظ لعب دور كبيراً في ظهور هذه الرواية إلى النور، فذات يوم من عام 1979، وهو في مدينة لوس أنجلوس، كان يبحث عن حقيبة جلدية، وفي أحد المتاجر، التقى صدفة ببفيفيربرغ الذي أخبره عن قصته مع شيندلر وكيف أنه أنقذه من معسكرات الاعتقال النازية، مقدماً له وثائق أصلية بما فيها قائمة شيندلر التي ضمت أسماء اليهود الذين أستنقذهم من أيدي النازيين.

ورداً على سؤال وجهه الإعلامي الأسترالي بيتر تومسون مقدم برنامج توكينغ هيدز (رؤوس متكلمة) على قناة إيه بي سي 1 الأسترالية إلى كينيلي “هل فعلاً كان أحد الأمور التي جذبتك إلى القصة هو الغموض الأخلاقي الملفت في شخصية شيندلر؟”، قال إن ما جذبه إلى كتابة هذه الرواية هو “أنك لا تستطيع تحديد أين تنتهي الانتهازية، ولا أين يبدأ الإيثار” في شخصية بطل الرواية، وقد استحوذت على الكاتب فكرة أن “الخير قد ينبثق من أكثر الأماكن غير المتوقعة”.

وهو ما نلاحظه أيضاً في تطور أحداث الفيلم، الذي واجه فيه شيندلر صراعاً نفسياً داخلياً بين الشر والخير، فالنفس البشرية تتنازعها نوازع متضاربة كأنها أمواج متلاطمة، إلى أن تستقر تدريجياً على موقف ما.

كلمة توماس كينيلي أثناء تسلمه جائزة البوكر الأدبية عن رواية فُلك شيندلر في عام 1982 

رُشح الفيلم لـ 12 جائزة أوسكار، وحصد منها 7 فعلياً؛ لأفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل كتابة سيناريو مقتبس، وأفضل تصوير سينمائي، وأفضل تصميم إنتاج، وأفضل مونتاج، وأفضل موسيقى تصويرية.

لحظة صعود ستيفن شبيلبرغ على المنصة للمرة الثانية بعد تسلمه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، ليتسلم هذه المرة جائزة أفضل إخراج
جون ويليام الحائز على جائزة أوسكار أفضل موسيقى تصويرية عن فيلم قائمة شيندلر، وهو يقود فرقة موسيقية يابانية في قاعة سنتوري في مدينة طوكيو أثناء عزفها لها

تبرز مفارقة بين أولائك الذين تهللت أساريرهم وأغرورقت أعيونهم فرحاً، إثر استلامهم جائزة الأوسكار في عام 1994 عن مشاركتهم في فيلم قائمة شيندلر من جانب، و الممثل مارلون براندو من جانب آخر، الذي قبل ذلك بعشرين عاماً، أرسل نيابة عنه إلى حفل توزيع جوائز الأوسكار في عام 1974 الفتاة ساشين ليتلفيزر، الناشطة في مجال الحقوق المدنية للهنود الحمر.

فما أن أُعلن عن فوز براندو بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن دوره في فيلم العراب، حتى فوجئت لجنة التحكيم ومعها الجمهور المتواجد في الحفل بالفتاة ليتلفيزر وهي تعتلي المنصة مرتدية زياً تقليداً للهنود الحمر.

ورغم تهيبها من الحشد الغفير، بدأت تقرأ رسالة براندو التي حمّلها إياها، معرباً فيها عن رفضه تسلم الجائزة، بسبب إدانته لصناعة السينما والتلفزة الأمريكية برمتها التي غضت الطرف لعقود عما تعرض له سكان أمريكا الأصليين من إبادة جماعية، إضافة إلى ما روجت له من عنصرية بغيضة تجاههم.

كلمة ساشين ليتلفيزر في حفل توزيع جوائز الأوسكار في عام 1974 بالنايبة عن الممثل مارلون براندو التي رفض فيها تسلم جائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن دوره في فيلم العراب، بسبب إدانته لموقف السينما الأمريكية تجاه ما تعرض له الهنود الحمر من إبادة عنصرية على يد المستعمرين البيض

أول مرة شاهدتُ فيها هذا الفيلم كانت في ألمانيا في منتصف التسعينيات، حيث كان مدبلجاً على إحدى القنوات التلفزيونية الألمانية، وكنتُ وقتها قد تمكنتُ بشكل جيد من اللغة، لكن ما لفت انتباهي هو تكرار عرضه سنوياً لعدة سنوات متلاحقة.  

وباستثناء لون الرداء الأحمر الذي كانت ترتديه طفلة صغيرة في بعض المشاهد العابرة، ومشهد لهب الشمعة، والمشهد الختامي لقبر شيندلر  على أرض الواقع، فقد صُورت كل لقطات الفيلم بالأبيض والأسود، لتعطي انطباعاً توثيقياً يُحاكي تقنيات التصوير أثناء الحرب العالمية الثانية، وأيضا لإضفاء شحنة عاطفية تعكس أجواء الكآبة والقهر.

تبدأ أحداث الفيلم في عام 1939 أثناء اجتياح ألمانيا النازية لبولندا، ثم يظهر بطل الفيلم أوسكار شيندلر، رجل الأعمال الألماني الانتهازي، والعضو في الحزب النازي، وهو يدخل مدينة كراكوف البولندية بهدف استغلال ظروف الحرب لتحقيق أرباح مالية كبيرة.

وبفضل مهاراته في التفاوض والرشوة، يستولي على مصنع لطلي الأواني للجيش الألماني بمادة مينا البورسلان، ويتعرف على المحاسب اليهودي إيتزاك شتيرن الذي سيساعده في إدارة المصنع وتوظيف العمال اليهود ذوي الأجور المنخفضة التي تصل إلى حد السخرة.

مع تصاعد الحرب العالمية الثانية، يجبر النازيون اليهود في كراكوف على الانتقال إلى حي غيتو معزول، وذلك قبل أن تبدأ عمليات الترحيل الجماعي إلى معسكرات الاعتقال والإبادة. 

كان شيندلر يركز في البداية على جمع الأرباح، لكنه بات لاحقاً لا يستطيع تجاهل الفظائع التي يرتكبها النازيون، وصدمه المشهد الوحشي لتصفية غيتو كراكوف بقيادة الضابط النازي آمون غوث.

مشهد من فيلم قائمة شيندلر يعرض تصفية النزيين لليهود المكدسين في حي غيتو عُزلوا داخله في مدينة كراكوف البولندية، واختباء طفلة ترتدي رداءً أحمر تحت سرير في أحد منازل هذا الغيتو

بعدما أطلع شيندلر عن قرب على مأساة اليهود على يد النازيين في أوروبا، بدأ يتحول من رجل جشع لا يعنيه إلا كنز الأموال إلى شخص خيّر يسعى لإنقاذ أرواح الأبرياء، وبمساعدة المحاسب اليهودي شتيرن، أعد قائمة بأسماء العمال اليهود الأساسيين لمصنعه، كي يمنحهم حماية من الترحيل إلى المحرقة، خاصة الموجودة في معسكر الاعتقال والإبادة بغرف الغاز في أوشفيتس.

بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، أنفق شيندلر كل ثروته لإنقاذ عماله من اليهود، ومع انتهاء الحرب، اضطر إلى الفرار لأنه كان رسمياً يعتبر عضواً في الحزب النازي.

قبل مغادرته، قدم له عماله رسالة شكر وخاتماً نُقشت عليه عبارة تلمودية تقول “من أنقذ نفساً، فكأنما أنقذ العالم كله”.

مشهد من نهاية فيلم قائمة شيندلر يظهر شعور البطل بتأنيب الضمير لأنه عاش حياة مرفهة، وبكائه على أنه لم يستطع إنقاذ المزيد من اليهود بعد أن أنفق كل ثروته على رشوة ضباط نازيين، كي يتركوهم عنده في مصنعه، ولا ينقلوهم إلى معسكرات الإبادة

تنتهي أحداث الفيلم بمشهد ملون يظهر فيه الناجين الحقيقيين من قائمة شيندلر وأحفادهم وهم يضعون تكريماً له قطع حجارة صغيرة على قبره في جبل صهيون في القدس، ويمشي بجاور كل شخصية حقيقة من الباقين على قيد الحياة أثناء تصوير الفيلم الممثل الذي قام بتأدية دوره.

وتظهر في الختام زوجة شيندلر الحقيقية على كرسي متحرك، تدفعه الممثلة التي أدت دورها في الفيلم، وهي تضع قطعة حجر صغيرة على قبره.

المشهد الأخير من فيلم قائمة شيندلر

تكريم إسرائيل لمن أنقذوا يهوداً من الهولوكوست، وإجراءات تعويض الضحايا

قامت إسرائيل من خلال متحف ياد فاشيم بتخليد اسم أوسكار شيندلر وتكريمه في نفس عام إنتاج الفيلم، أي بعد وفاته بقرابة 20 عاماً، فيما يعرف بقائمة الصالحين بين الأمم الذي تبناه المتحف لتخليد وتكريم من حاولوا إنقاذ اليهود من الهولوكوست النازي.

من ضمن المكرمين، العربي الوحيد، محمد حلمي، الطبيب المصري الذي يذكر موقع مركز الأبحاث الإسرائيلي ياد فاشيم قصته بالتفصيل، حيث توجه إلى ألمانيا في عام 1922 لدراسة الطب في برلين، ثم عمل في معهد روبرت كوخ كطبيب أثناء الحكم النازي، وخاطر بحياته لإنقاذ عدد من اليهود، وقد خلدت إسرائيل اسمه بوضعه في قائمة الصالحين بين الأمم في عام 2013، وذلك بعد وفاته بأكثر من 30 عاماً، وقد رفضت عائلته في مصر تسلم هذا التكريم الإسرائيلي. 

عن الطبيب المصري محمد حلمي الذي أنقذ عدداً من اليهود من البطش النازي

صورت العديد من الأفلام السينمائية والوثائقية عن معسكرات الإبادة النازية لليهود، حتى أن هناك قصصاً موجهة للأطفال تحكي عنها، منها مثلاً موسوعة الأطفال ومحرك البحث المخصص لهم كيدل الذي أفرد موضوعات كاملة عن الهولوكوست وعن  توماس كينيلي كاتب رواية سفينة شيندلر التي اقتُبست عنها قصة فيلم قائمة شيندلر، وعن أوسكار شيندلر نفسه. 

وهناك مبادرات دولية للمطالبة بتعويض ضحايا الهولوكوست وأقاربهم، منها مثلاً مؤتمر المطالبات المادية لليهود ضد ألمانيا، وهو منظمة غير ربحية لها مكاتب في الولايات المتحدة وإسرائيل وألمانيا، تعمل على توفير تعويضات مادية للناجين من المحرقة حول العالم.

وقد تأسس مؤتمر المطالبات المادية لليهود ضد ألمانيا في عام 1951 بواسطة ممثلين عن 23 منظمة يهودية دولية كبرى، حيث يتولى التفاوض لتوزيع الأموال على الأفراد والمنظمات، بالإضافة إلى سعيه لاستعادة الممتلكات اليهودية المسروقة أثناء المحرقة.

وقد دفعت الحكومة الألمانية منذ عام 1952 حوالي 90 مليار دولار كتعويضات للأفراد عن المعاناة والخسائر الناتجة عن الاضطهاد النازي.

جولة داخل معسكر الاعتقال النازي لإبادة اليهود في أوشفيتس

الموقف الدولي من اليهود

صدر وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى التي انتهت في 11 نوفمبر 1918،وكان من نتائجها اختفاء ثلاث إمبراطوريات وظهور كيانات سياسية بديلة، وهي الإمبراطورية الألمانية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية وأخيراً الإمبراطورية العثمانية.

ويعتبر وعد بلفور رسالة بعث بها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية وقتها، في عهد الملك جورج الخامس، وتنص على:

وزارة الخارجية،
في 2 نوفمبر سنة 1917.
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.
وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.
المخلص
آرثر بلفور

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وزوجته يطلعان في المكتبة البريطانية في لندن على النسخة الأصلية من وعد بلفور

مع نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، وانتصار دول الحلفاء على دول المحور، صدر ميثاق لندن المؤرخ في 8 أغسطس 1945، وهو الاتفاقية الموقعة بين حكومة المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية، وحكومة الولايات المتحدة، والحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية، وحكومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية بشأن محاكمة ومعاقبة مجرمي الحرب الرئيسيين لدول المحور الأوروبي، المعروفة بمحاكمات نورنبيرغ وقد تم تباعاً التصديق على هذا الميثاق من قبل 20 دولة أخرى.

محاكمات نورنبيرغ في عام 1945

وكبديل عن منظمة عصبة الأمم، نشأت الأمم المتحدة في 1945، ومما جاء في ميثاقها المادة رقم (92) التي تنص على أن “محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق وهو مبني على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من الميثاق”.

تأسيس منظمة الأمم المتحدة في عام 1945

وفي 29 نوفمبر 1947 تبنى قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 (الدورة الثانية)  إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين التاريخية، وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة؛ واحدة عربية: تبلغ نسبة مساحتها 42.3٪، وأخرى يهودية: تبلغ نسبة مساحتها 57.7٪، أما الثالثة فتشمل القدس وبيت لحم على أن تكون تحت وصاية دولية.

ملاحظة: رابط النسخة الإنجليزي من قرار 181 (الدورة الثانية)
https://www.un.org/unispal/document/auto-insert-185393/

وقد تبنت الجمعية العامة هذا القرار في جلستها العامة رقم 128، بتاريخ 29 نوفمبر 1947، بموافقة 23 صوتاً، ورفض 13 صوتاً وامتناع 10 أصوات،وغياب صوت واحد، على النحو التالي:

أيدت القرار كل من: أستراليا، وبلجيكا، وبوليفيا، والبرازيل، وبيلاروسيا (روسيا البيضاء)، وكندا، وكوستاريكا، وتشيكوسلوفاكيا، والدنمارك، وجمهورية الدومينيكان، والإكوادور، وفرنسا، وغواتيمالا، وهاييتي، وأيسلندا،و ليبيريا، ولوكسمبورغ، وهولندا، ونيوزيلندا، ونيكاراغوا، والنرويج، وبنما، وباراغواي، وبيرو، والفلبين، وبولندا، والسويد، وأوكرانيا، وجنوب أفريقيا، والاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وأوروغواي، وفنزويلا.

واعترض عليه كل من: أفغانستان، وكوبا، ومصر، واليونان، والهند، وإيران، والعراق، ولبنان، وباكستان، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، وتركيا، واليمن.

وامتنع عن التصويت كل من: الأرجنتين، وتشيلي، والصين، وكولومبيا، والسلفادور، وإثيوبيا، وهندوراس، والمكسيك، والمملكة المتحدة، ويوغوسلافيا.

وغابت تايلاند عن التصويت.

ومن المفارقات امتناع المملكة المتحدة عن التصويت على قرار تقسيم فلسطين، رغم أنها كانت قبل ذلك بثلاثة عقود، سباقة بوعد بلفور الداعي إلى وطن قومي لليهود في تلك البقعة نفسها.

وبعد حرب 1948 وتهجير 80٪ من سكانها العرب، وتأسيس دولة إسرائيل، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (الدورة الثالثة) في 11 ديسمبر 1948، حيث أكد في مادته (11) على “وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة”، وهو ما لم ينفذ أبداً منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن حتى الآن. 

وقد قام من جانبه بن غوريون، الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية آنذاك، في 14 مايو 1948 بالإعلان عن وثيقة استقلال إسرائيل، وقد أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء للدولة الوليدة، وقد اعترفت بها تدريجياً معظم دول العالم، ورفضتها دول أخرى، إلى جانب بعض الدول التي سحبت اعترافها بها، مثل إيران التي اعترفت بها في عصر الشاه، ثم سحبت اعترافها بها عقب الثورة وإنشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية. 

بن غوريون يعلن عن وثيقة استقلال إسرائيل في عام 1948

ثم في اليوم التالي مباشرة من إعلان بن غوريون لوثيقة الاستقلال، تقدم بطلب إنضمام إسرائيل إلى عضوية الأمم المتحدة، لكن قوبل طلبه بالرفض، ثم حاول مرة أخرى خلال أقل من سنة، وأيضاً قوبل طلبه بالرفض، وعند محاولته الثالثة، تمت الموافقة على قبول عضوية إسرائيل في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 273 (الدورة الثالثة)، الصادر في 11 مايو 1949.

جدير بالذكر، أن هناك على مستوى العالم ميول انفصالية في عدد من الدول، منها مثلاً؛ ما نجده لدى بعض أكراد العراق وتركيا وسوريا، وإقليم الباسك في إسبانيا، والصحراء الغربية في المغرب، وولايتي تكساس وكاليفورنيا في الولايات المتحدة.

لكن هذه النزعات الانفصالية لم تصل أبداً إلى التصويت عليها في الأمم المتحدة، على عكس ما حدث من قبول على قرار تقسيم فلسطين التاريخية، وربما يكون ما تعرض له يهود أوروبا من إبادة جماعية على يد النازية سبباً رئيسياً في تعاطف عدد كبير من دول العالم مع تأسيس وطن قومي لليهود.  

ووفقاً لموقع الأمم المتحدة فقد أشارت الجمعية العامة في 22 نوفمبر 2004 “في قرارها 59/26 إلى أن عام 2005 سيصادف الذكرى السنوية الستين لانتهاء الحرب العالمية الثانية التي جلبت حزناً لا يوصف للبشرية وهيئت الظروف المناسبة لإنشاء الأمم المتحدة”.

وبعدها بشهرين تقريباً، في 24 يناير 2005، “عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورة استثنائية للاحتفال بالذكرى الستين لتحرير معسكرات الاعتقال النازية، وعُقد هذا الاجتماع الرفيع المستوى بناء على طلبات من حوالي 30 دولة عضو ذكرت أنه “لا يجب السماح بحدوث مثل هذا الشر مرة أخرى” وكان هذا الأمر الأول من نوعه”.

من جانبها، أصدرت الأمم المتحدة عدة قرارات تدين إنكار الهولوكوست، وتطالب بإحياء ذكراها، وكلمة هولوكوست مفردة مشتقة من الكلمة الإغريقية العامة (هولوكاوستن) التي تعني “الأضحية المحروقة بالكامل”، ثم أصبحت فيما بعد تعني وفقاً لتعريف الموسعة البريطانية “القتل الممنهج تحت رعاية الدولة لستة ملايين من الرجال والنساء والأطفال اليهود، وملايين آخرين على يد ألمانيا النازية وحلفائها خلال الحرب العالمية الثانية”.

ومن ضمن قرارات الأمم المتحدة بخصوص الهولوكوست؛ قرار الأمم المتحدة 7/60 عن إحياء ذكرى الهولوكوست (2005)، وقرار الأمم المتحدة 61/255 عن إنكار الهولوكوست (2007)، وقرار الأمم المتحدة A/76/L.30 عن إنكار الهولوكوست (2022)، التي تطالب بالتذكير والتعريف بها، لمنع تكرارها، وترفض إنكارها جزئياً أو كلياً.

رسالة الأمين العام بمناسبة اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست

تشريعات بعض الدول التي تُجرِّم إنكار الهولوكوست أو التهوين من شأنه

ويعتبر في بعض الدول التشكيك في الهولوكوست أو التشكيك في عدد الستة ملايين ضحية من اليهود على يد النازيين جريمة يعاقب عليها القانون، فمثلاً نجد في النمسا قانون الحظر لعام 1947 الذي تنص مادته( 3ز) على أن “كل من يشارك بأي وسيلة غير تلك المحددة في المواد 3أ إلى 3و في الأنشطة ذات الطابع النازي، يُعاقب بالسجن من سنة إلى عشر سنوات، وفي حال كان الجاني أو النشاط شديد الخطورة، قد تصل العقوبة إلى 20 سنة”، كما تنص المادة (3ح) منه على أن “يُعاقب أيضاً وفقاً للمادة (3ز) كل من ينكر أو يقلل من شأن الإبادة الجماعية النازية أو غيرها من الجرائم النازية ضد الإنسانية، أو يبررها أو يوافق عليها بشكل فاضح، سواء في مطبوعات أو عبر البث الإذاعي أو في أي وسيلة إعلامية أخرى أو علناً بأي شكل يتيح وصولها إلى عدد كبير من الناس”.

أما في ألمانيا فتنص الفقرة الثالثة من القانون الجنائي الألماني في مادته 130 الخاصة بمعاقبة التحريض على الكراهية على أن “يعاقب بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات أو بغرامة كل من يوافق علناً أو في تجمع على فعل ارتكب تحت حكم النازية من النوع المنصوص عليه في المادة 6 الفقرة 1 من القانون الجنائي الدولي، أو ينكره أو يقلل من شأنه بطريقة تُعتبر مناسبة لزعزعة السلام العام.”

أما في فرنسا، فقد تم اعتماد قانون رقم 90-615 لمنع الأفعال العنصرية والمعادية للسامية وكراهية الأجانب (1990)، المعروف بقانون غيسو، حيث تنص مادته رقم (9) على أن “يُضاف بعد المادة 24 من قانون 29 يوليو 1881 بشأن حرية الصحافة مادة جديدة تحمل الرقم 24 مكرر، وتنص على ما يلي: «المادة 24 مكرر: يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في الفقرة السادسة من المادة 24 كل من يشكك، بإحدى الوسائل المشار إليها في المادة 23، في وجود جريمة أو أكثر من الجرائم ضد الإنسانية كما هو محدد في المادة 6 من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية المرفق بميثاق لندن المؤرخ في 8 أغسطس 1945 والتي ارتكبها أعضاء منظمة تم إعلانها إجرامية بموجب المادة 9 من ذلك الميثاق أو ارتكبها شخص أدين بهذه الجرائم من قبل محكمة فرنسية أو دولية”.

ومن أبرز الذين تعرضوا لعقوبات قضائية في فرنسا بسبب التشكيك في الهولوكوست وفي عدد ضحايا النازية من اليهود، الأكاديمي الفرنسي روبير فوريسون، الذي أوقف جراء تصريحاته تلك عن التدريس في جامعة ليون، خاصة بسبب مقالاته في صحيفة لوموند الفرنسية التي تبرأت منه فيما بعد، وبسبب كتابه كتابات مراجعة (1999).

كتب فوريسون مجموعة من البحوث على مدار عشرين عاماً نفى فيها محرقة الهولوكوست، حيث أنه كذّب شهادات من تحدثوا عن المحرقة وأنكرها بالكلية، إضافة إلى أنه لم يقتنع بأعداد المتوفين الذي يظن أنهم بضعة ألوف قليلة، ويقول إنه لم يجد أمراً صريحاً واحداً من هتلر، أو من هملر، أو من غوبلز، أو من القيادة الألمانية، أو من السلطات الألمانية يحض على إبادة اليهود، بل على العكس، وجد أن هناك من الألمان من أعدموا على يد السلطة النازية، لأنهم قتلوا يهوداً.

وعندما راجع مذكرات البنت الهولندية اليهودية آن فرانك التي يروج بأنها قتلت على يد النازيين، اكتشف أنها مزيفة، كونها كُتبت بحبر معاصر لم يكن قد اخترع، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وعندما زار فوريسون المعتقلات وجد أن المادة التي يدعي مؤيدو نظرية المحرقة أن النازيين استخدموها لقتل اليهود، كانت مجرد مبيدات تستخدم لقتل البراغيث والحشرات ولا تؤثر على البشر، وكانوا يضيفونها على الجثث لكي لا تنتشر الأوبئة.

وقد دافع نعوم تشومسكي، الأستاذ الفخري في اللسانيات في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن حق فوريسون في حرية التعبير، بغض النظر عما يقول.

موقف نعوم تشومسكي من مبدأ حرية التعبير

يقول آدم نوسيتير في مقال له في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان روبرت فوريسون، منكر الهولوكوست والملاحق قانونياً من قبل الفرنسيين، يرحل عن 89 عاماً (2018) إنه “رغم كونه (فوريسون) مكروهاً في بلده، إلا أنه كان مُكرّمًا في إيران، حيث تلقى جائزة من رئيسها آنذاك، محمود أحمدي نجاد، المعروف بمواقفه العدائية تجاه إسرائيل واليهود، تقديراً “للشجاعة والمقاومة والنضال””.  

مشاركة فوريسون في مؤتمر في إيران يناقش أدلة وجود الهولوكوست

يقول د. روبرت روزيت المؤرخ في المعهد الدولي لأبحاث الهولوكوست في مركز ياد فاشيم الإسرائيلي، ومدير مكتبته سابقاً في مقال له على موقع  المركز بعنوان عندما يصبح إنكار التاريخ تحريضاً على العنف إنه “في عالم مثالي، يجب أن يُعتبر من ينكر حقيقة تاريخية مثبتة بوضوح، مثل ارتكاب الهولوكوست، موضوعاً للسخرية، يجب أن يكون موضع ازدراء لا يقل عن الشخص الذي يصر على أن الأرض مسطحة أو أن الشمس تدور حول القمر”.  

ويضيف إن “إنكار الهولوكوست هو شكل من أشكال معاداة السامية، ومعاداة السامية في عصرنا لا تزال تحرض بشكل متكرر على العنف ضد اليهود كأفراد وضد اليهود عموماً”.  

كما يرى أن “القوانين التي تقيد ما يقوله الناس يجب أن تكون الملاذ الأخير وتُستخدم بحذر شديد، ومن المحزن، ولكنه حقيقي، أنه في الوقت الحالي، في أماكن كثيرة، لا تزال مثل هذه القوانين ضرورية”. 

وترى أ. د. دينا بورات الأستاذة الفخرية في تاريخ اليهود الحديث في قسم التاريخ اليهودي بجامعة تل أبيب في مقطع فيديو، من دورة نشرها حساب مركز الأبحاث الإسرائيلي ياد فاشيم على منصة يوتيوب بعنوان: إنكار الهولوكوست والتضليل، أن إنكار الهولوكوست والتهوين من شأنه يحمل شكلاً من أشكال معاداة السامية، حيث ترى أن منكري الهولوكوست والمشككين فيه يزعمون أن الشعب اليهودي اختلق قصة الهولوكوست المروعة، لتضليل الرأي العام العالمي والسيطرة على ألمانيا.

وتضيف أن هذا التضليل يصل إلى نشر مزاعم كاذبة عن تعاون الصهيونية مع النازية، بزعم أن اتفاقية هعفراه التي وُقعت في عام 1933 بين الوكالة اليهودية وألمانيا النازية لتهجير يهود ألمانيا، تعتبر دليلاً على أن الصهاينة سهلوا قتل اليهود الذين لم يعتبرهم الصهاينة مناسبين لرؤيتهم المستقبلية.

مقطع من دورة قدمها مركز الأبحاث الإسرائيلي ياد فاشيم بعنوان: إنكار الهولوكوست والتهوين من شأنه، تشرح فيها البروفيسورة د. دينا بورات، المؤرخة الرئيسية في المركز، والأستاذة الفخرية في تاريخ اليهود الحديث في قسم التاريخ اليهودي بجامعة تل أبيب

معاداة السامية

يرفض د. عبد الوهاب المسيري في المجلد الثاني من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.. نموذج تفسيري جديد (1999) عبارة (معاداة السامية) ويستخدم بدلاً عنها لوصف الظاهرة التي تشير إليها عبارة (معاداة اليهود)، ويقول إن “(معاداة السامية) ترجمة للمصطلح الإنجليزي (أنتي سيميتزم)، ونستخدم في هذه الموسوعة عبارة (معاداة اليهود)”، ويضيف “بدلاً من ترجمة المصطلح، فقد فضلنا هنا توليد مصطلح جديد هو (معاداة اليهود)، لأنه أكثر دقة ودلالة، كما أنه أكثر حياداً ولا يحمل أية تضمينات عنصرية،ولا أية أطروحات خاطئة”

وقد تبنى الملحدون الغربيون مصطلح “معاداة السامية” الذي يشير إلى سلالة سام بن نوح عليه السلام، رغم أنهم لا يؤمنون بوجوده أصلاً، كونه شخصية توراتية خيالية من وجهة نظرهم تناقض نظرية داروين للتطور البشري.

إضافة إلى أن اليهودية كدين يؤمن بها على سبيل المثال بعض السلاف وبعض المغاربة وبعض الإثيوبيين، وأعراق أخرى متنوعة، ولا يقول أحد أن اليهود ينتمون إلى عرق واحد.

وقد ظهر مصطلح السامية كمصطلح لغوي يضع بعض اللغات تحت هذا التصنيف، وحتى هنا، نجد أن اليهود لا يتحدثون كلهم بالضرورة إحدى اللغات التي يُطلق عليها أنها سامية.

وينتقد موقع حملة ضد معاداة السامية الموسوعة البريطانية لأنها على حد قوله تشير “في مدخلها عن معاداة السامية إلى أن الشعوب العربية و”الساميين” الآخرين لا يمكنهم أن يكونوا عنصريين ضد اليهود”، ويضيف الموقع قائلاً “ترتكب الموسوعة البريطانية مغالطة اشتقاقية، والنتيجة هي تعزيز الصورة النمطية المعادية للسامية بأن “الساميين” لا يمكنهم كراهية اليهود، هذا جهل وخطير، وسنكتب إلى الموسوعة البريطانية لتصحيح هذا الخطأ بشكل عاجل”.

الموقف التاريخي من اليهود

على المستوى العربي، يبدو بشكل عام أن التعاطف الجماهيري مع ضحايا المحرقة النازية من اليهود محدود، إما لقلة المعلومات عن تفاصيلها، أو بسبب الغضب الشعبي مما يتعرض له الفلسطينيون.

وعموماً، لا تسمح النظرة الإسلامية باتهام اليهودي أو غيره بدون بينة، وواجب المسلم أن يقف مع أي مظلوم أو مستضعف، بغض النظر عن دينه، وبغض النظر عن مشاعر الحب أو الكره تجاهه.

يقول الله تعالى في سورة المائدة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”.

ويكفي أن نذكر أن تسع آيات من سورة النساء أنزلت من أجل تبرئة يهودي اتُهم ظلماً بالسرقة في زمن رسول الله ﷺ ، وذلك في قوله تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا”.

يذكر سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن (1978) أن “القصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأنصار- قتادة بن النعمان وعمه رفاعة- غزوا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم (رفاعة)، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله ﷺ، فقال: إن طُعمة بن أبيرق سرق درعي، (وفي رواية: إنه بشير بن أبيرق، وفي هذه الرواية: أن بشيراً هذا كان منافقاً يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب!).

فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي (اسمه زيد ابن السمين)، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى رسول الله ﷺ، فقالوا: يا نبي الله: إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علماً، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك.

ولما عرف رسول الله ﷺ أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس. 

وكان أهله قد قالوا للنبي ﷺ قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي- إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت!

قال قتادة: فأتيت رسول الله ﷺ فكلمته.

فقال: «عمدت إلى أهل بيت يُذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟» قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله ﷺ في ذلك.

فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله ﷺ، فقال: الله المستعان.. 

فلم نلبث أن نزلت: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً}- أي بني أبيرق- وخصيماً: أي محامياً ومدافعاً ومجادلاً عنهم- {واستغفر الله}- أي مما قلت لقتادة- {إن الله كان غفوراً رحيماً}.. {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم}- إلى قوله تعالى: {رحيماً}- أي لو استغفروا الله لغفر لهم- {ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه}- إلى قوله: {إثماً مبيناً}.. {ولولا فضل الله عليك ورحمته}. إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}.. فلما نزل القرآن أتى رسول الله ﷺ بالسلاح فرده إلى رفاعة”.

تفسير الشعراوي لآيات من القرآن نزلت للدفاع عن يهودي اتهم ظلماً بالسرقة

وليس لدى المسلم حرج شرعي من التعامل مع اليهود أو غيرهم من أتباع أي ديانة أخرى، بل إن الإسلام سمح بعلاقة شديدة الخصوصية وهي علاقة الزواج بين المسلم واليهودية أو المسيحية، إذ يقول الله تعالى في سورة المائدة “…وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ…”.

وقد شهد التاريخ الإسلامي على احتضان المسلمين، حكاماً ومحكومين، لليهود والمسيحيين كعناصر فاعلة في إثراء الحضارة والتعايش السلمي، منهم على سبيل المثال الحاخام والفيلسوف والطبيب اليهودي أَبُو عمْرَان مُوسَى بن مَيْمُون بن عُبَيْد ٱللّٰه ٱلْقُرْطُبِيّ، الذي وُلد في الأندلس في القرن الثاني عشر وتوفي في القاهرة، المعروف باسم موسى بن ميمون، وعمل لفترة كطبيب شخصي لصلاح الدين الأيوبي.

إن العداء الديني التاريخي الذي تبناه مسيحيو أوروبا ضد اليهود بتهمة تآمرهم على المسيح عليه السلام، لا يوجد له نظير في العالم الإسلامي تجاه اليهود، فرفض المسلم لأي عقيدة تخالف عقيدته، لا يعني أنه يحق له احتقار معتنقيها.

قال تعالى في سورة الأنعام “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ…”.

وحتى الآن تجد الكنائس في أوروبا حرجاً من التماثيل والرسومات التي تبرز اليهود وكأنهم يرضعون من أنثى خنزير، يقول يوزيف فيرنسهوفر في مقال له في جريدة زود دويتشه تسايتونع الألمانية إن ” “أنثى خنزير اليهود” موجودة في الكنائس والكاتدرائيات منذ ما يقرب من 800 عام، فالمنحوتات المعادية لليهود تأخذ أشكالاً، مثل المزاريب المنحوتة أو النقوش أو الأعمال النحتية، ومعظم هذه التماثيل تعود إلى العصور الوسطى، وحتى يومنا هذا، ما زالت موجودة في نحو عشرين كنيسة ألمانية، بعضها دون أي توضيح تاريخي”.

ويضيف “عادةً ما تُظهر “أنثى خنزير اليهود” وهي تُرضع يهودي أو أكثر، ويظهر أنهم يهود من قبعة اليهود التي فُرض ارتدائها على الرجال اليهود بأمر من السلطات، وأحياناً يظهر اليهود وهم يُطعمون خنزيراً، أو يركبونه، أو يجمعون فضلاته، أما عرض اليهود في مشاهد حميمة مع الخنزير فكان إهانة مضاعفة؛ أولاً: لأن الخنزير يُعتبر نجساً في العقيدة اليهودية، وثانياً لأن الخنزير كان رمزاً للشيطان في الفن المسيحي في العصور الوسطى”.

المحكمة الألمانية في فيتنبرغ تسمح ببقاء تماثيل الكنائس التي يُطلق عليه إنثى خنزير اليهود

وإذا اتجهنا بعيدا عن ألمانيا صوب عمدة الأدب الإنجليزي وليم شكسبير، نجد في مسرحيته تاجر البندقية تصريحات اعتبرها بعض النقاد الأدبيين معادية لليهود، خاصة فيما يتعلق بشخصية المرابي اليهودي شايلوك.

يقول د. براندون أمبروسينو في مقال له في مجلة اسمیتسونیان بعنوان بعد مرور 400 عام، لا يزال العلماء يناقشون ما إذا كانت مسرحية شكسبير “تاجر البندقية” معادية للسامية “كتب الناقد الأدبي هارولد بلوم في كتابه شكسبير واختراع الإنسان (1998): “لا بد أن يكون المرء أعمى وأصم وأبكم حتى لا يدرك أن الكوميديا العظيمة والمتناقضة تاجر البندقية هي مع ذلك عمل معادٍ للسامية بشكل عميق”، وعلى الرغم من شغفه الشديد بشكسبير، اعترف بلوم في موضع آخر بأنه يشعر بالألم من التفكير بأن المسرحية ألحقت “ضرراً حقيقياً… باليهود على مدار أربعة قرون”.

يضيف أمبروسينو قائلاً “لا يحتاج الأمر إلى عبقرية أدبية مثل بلوم لاكتشاف العناصر المعادية لليهود في المسرحية. يظهر شايلوك باعتباره اليهودي الجشع النمطي، الذي يُبصق عليه من قبل أعدائه المسيحيين ويُهان باستمرار، تهرب ابنته مع مسيحي وتترك تراثها اليهودي، وبعد أن يتفوق عليه المسيحيون، يُجبر شايلوك على اعتناق المسيحية، ويختفي بعد ذلك من المسرحية دون أن يُسمع عنه مرة أخرى”.

حوار على حساب متحف التراث اليهودي يناقش معاداة السامية في معالجة وليم شكسبير لشخصية شايلوك اليهودي في مسرحية تاجر البندقية

لذلك يشكل هذا الإرث من العداء الأوروبي المسيحي تجاه اليهود عاراً ثقيلاً على نفوس الأوروبيين، لكن يبدو أنه من الأعراض الجانبية لهذا البلاء، أنهم يسقطونه جزافاً دون سند على علاقة المسلمين باليهود، ذلك على الرغم من أن الصراع الإسلامي اليهودي مصطلح غير موجود تاريخياً، خلافاً مثلاً للصراع الإسلامي المسيحي الممتد منذ الحروب الصليبية في العصور الوسطى، مرورا بعصور الاستعمار الأوربي لشتى بلاد المسلمين.

بدليل أن المغرب الذي احتضن المسلمين الفارين من محاكم التفتيش في الأندلس، احتضن معهم أيضاً اليهود الفارين من بطش إسباني مسيحي لا يفرق بين مسلم أو يهودي. 

وما نسبة اليهود المغاربة إلا خير شاهد على ذلك.

إن الصراع بين اليهود والعرب أو بين اليهود والمسلمين هو صراع افتعلته بريطانيا لمصالحها الخاصة، ثم استثمرته الولايات المتحدة لمصالحها أيضاً.

هذا الصراع لم يكن له أدنى وجود قبل العقد الثاني من القرن العشرين، فالطوائف المختلفة موجودة ومتجاورة في العالم الإسلامي منذ قرون، وحتى الآن.

فمتى تتوقف الرأسمالية العالمية عن تصدير عقد تسلطها على العرب والمسلمين، وترحم اليهود قبلهم؟

Ahmad Okbelbab
Ahmad Okbelbab
Since 2005, Ahmad has been teaching video editing and graphic design both online and in-person for leading entities such as Al Jazeera Media Network, Deutsche Welle Academy, and Al Faisaliah Group, gaining deep experience in e-learning content development, using Canvas LMS, and multimedia production with tools like Camtasia, Adobe Suite, and Final Cut Pro. His role since 2016 as an audiovisual translator at Al Jazeera, working between Arabic, English, and German, has built on his background in storytelling and video editing. Academically, Ahmad holds a BA in Mass Communications from Cairo University (2004), a Diploma in Filmmaking from New York Film Academy (2009), and has pursued Master Courses in Audiovisual Translation at Hamad Bin Khalifa University (2018), endorsed by the University of Geneva.
مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية