ليس من باب الرفاهية أن تنص الفقرة الأولى من المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكل فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة”، وقبل هذا الإعلان بأكثر من أربعة عشر قرنا قال المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”، فحرية التنقل حق أصيل من حقوق الإنسان، لذلك يعتبر السجن واحدة من أشد العقوبات القانونية ردعا كونها تقيد هذا الحق الإنساني.
لا ريب أن الابتلاء بإعاقة حركية يشكل سجنا قهريا تفرضه الظروف الصحية على ذوي الإعاقة، ومع ذلك فقد نجح كثير منهم في تخطي تلك القضبان الخفية، وصعدوا سلم النجاح إلى أعلى قمم المناصب والمؤهلات، ولكن رغم هذه النجاحات تظل الإعاقة الحركية تحديا لا يستطيعون دائما اجتيازه كما يتمنون.
فتأتي رخصة السياقة لهذه الفئة كبصيص أمل يحي في قلوبهم حلم حرية التنقل والحركة، لتعيد إليهم ثقتهم في ذواتهم، وتوسع دائرة تواصلهم مع الآخرين.
أما كلمة رخصة بمعنى الإجازة فتعني في نظام التعليم إقرارا خطيا يكتبه أحدُ العلماء يعترف فيه بأنّ حامله قد قرأ عليه وأصبح أهلاً لممارسة التخصص كما يوضح كتاب دور المدارس لسباهيك عمر، وقد عُرِفت الإجازة منذ صدر الإسلام، إذ كانت مؤسساته التعليمية تمنح الدرجة الأكاديمية التي كان يطلق عليها حينئذ الإجازة، إلا أننا نرى أن هذا المصطلح غير محصور بصروح المؤسسات التعليمية، بل يمتد ليصل إلى أي نشاط يستدعي التصديق والاعتماد، كما في أهلية السياقة.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال عن كيفية منح إجازة السياقة أو الرخصة لمن ضيقت عليه الحركة، فلو كان الشخص المتقدم لوظيفة أو عمل غير قادر بدنياً على تحمل مهام ذلك العمل فغالباً لن يقبل في هذه الوظيفة، فكيف هو الحال بمن قد يعرض حياته وحياة الآخرين للخطر على الطرقات العامة؟
إن التعامل مع ذوي الإعاقة بشكل عام أصبح مؤخراً يتسم بالتيسير، فيجد المرء من حوله مباني تمهد لهم مداخلها الولوج، كما أصبحت تنظم العديد من الأنشطة الرياضية والبطولات المخصصة لهم، ويدعو كثير من المختصين إلى وجوب غض الطرف عن إعاقاتهم، والتعامل معهم كبقية الناس.
توضح الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أنهم “كل من يعاني من عاهات طويلة الأجل بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسّيَة، قد تمنعهم من التعامل مع مختلف الحواجز والمشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين” وتشجع الاتفاقية على مساواتهم “في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية وفي أي ميدان آخر، وما يشمل جميع أشكال التمييز”.
وفي لقاء مع السيد حسين الحداد عضو الاتحاد القطري لذوي الإعاقة حصر مفهوم ذوي الإعاقة ضمن الفئات التي لديها عجز بدني أو ذهني، وأضاف أن “الإعاقة الحقيقة تكمن في عدم تمكين المجتمع لذوي الإعاقة، أما الإعاقة كابتلاء فهي قدر ينبغي أن نرضى به ونتعامل معه”.
في الحقيقة استطاعت دولة قطر ومؤسساتها أن تطبق هذا المفهوم، فمن ناحية خصصت مدارس ومراكز واتحادات لإتاحة الفرصة لهم في جميع الأنشطة الرياضية والثقافية والاقتصادية، مثل مدارس الهداية، والاتحاد القطري لذوي الإعاقة، والجمعية القطرية لذوي الإعاقة المعنية بالجوانب الاجتماعية، ومركز الصم، والمركز الثقافي للمكفوفين.
وقد أشار الحداد إلى أن أصحاب القرار بدولة قطر استطاعوا دمج ذوي الإعاقة في المجتمع، وتوفير الوسائل والآليات الداعمة لهم، منوهاً لمثال مشروع الريل الذي تفخر به الدولة، إذ قال: “إنه أحد وسائل المواصلات العامة المجهزة لذوي الإعاقة وفقا لمواصفات قياسية عالمية.”
رغم التميز الذي وصل له مشروع الريل، ما زال التخطيط العمراني القطري يضطر سكانها إلى سياقة السيارة، ورغم الاتفاق العالمي على المساواة بين البشر، لا يمكن للمرء أن يتجاهل صعوبة سياقة السيارة على ذوي الإعاقة، لذلك وضعت الدول معايير وقوانين خاصة بإصدار رخص السياقة لهم.
فمثلاً في قطر ينبغي توفير شهادة طبية تبين طبيعة الإعاقة، على أن تكون صادرة من الجهة الطبية المختصة التي تحددها إدارة المرور كما تنص المادة 57 من اللائحة التنفيذية لقانون المرور الصادر بالمرسوم بقانون رقم (19) لسنة 2007، التي تبين أن على طالب الرخصة توفير مواصفات خاصة لمركبته، بحيث تكون معدة خصيصاً من حيث التصميم الفني بما يتناسب مع ظروفه الصحية.
وضح الحداد أن هناك أنواع مختلفة لذوي الإعاقة، فمنهم من يستطيع السياقة ومنهم من لا يستطيع، وأبرز الفئات التي لا تستطيع استخراج الرخصة لها هم “المصابون بنوبات الصرع، إضافة إلى ذوي الإعاقة البصرية من المكفوفين والمصابين بعمى الألوان، إلا إذا تطورت التكنولوجيا باستخدام القيادة الآلية،” وأضاف الحداد أن “الصم معظمهم لا توجد أمامهم عقبة تَحُول دون الحصول على رخصة السياقة،” مذكراً بالتقنيات التي تُحوّل الصوت إلى إشارات ضوئية ملونة.
وكما بينا سالفاً، يسعى قانون المرور القطري إلى معاملة ذوي الإعاقة دون تميز، فهو يسمح لهم بتجهيز سياراتهم لتناسب أوضاعهم الصحية بمواصفات خاصة تراعي معايير السلامة التي تضعها إدارة المرور وتتناسب مع ظروفهم الصحية، وكان حمد الحساوي هو أول من تغلب على التحديات الإدارية وأسس مشروع ورشة لتجهيز السيارات لذوي الإعاقة، وهو نفسه يعتبر واحداً منهم، كم أن تجربته لم تنجح فقط داخل قطر فحسب، بل لاقت أيضا اعترافاً وتقديراً دولياً.
فسواء كنا في شرق الوطن العربي أم في غربه، نجد التطبيقات والقوانين متشابهة، حيث تنص المادة 13 من القانون المغربي رقم 52.05 المتعلق بمدونة السير على الطرق على أنه: “إذا كان المرشح لاختبارات امتحان الحصول على رخصة السياقة مصابا بعجز بدني لا يتنافى مع سياقة المركبات ذات المحرك، أمكن تعويض هذا العجز بتهيئة خاصة للمركبة… تبعا لتعليمات الطبيب الذي أجرى الفحص الطبي… يجب أن تشير الشهادات الطبية إلى التقييدات والتهييئات أو إلى الأجهزة الخاصة، ويُبين ذلك في رخصة السياقة”.
وبالعودة إلى قطر يمثل الشاب غانم المفتاح مثالا ناجحا للتكيف مع تحديات الإعاقة الحركية فهو شاب طموح كما يصفه الحداد، فلم يتغلب فقط على إعاقته فحسب، بل قدم دورا توعويا مميزا للمجتمع ككل من خلال حساباته على منصات التواصل الاجتماعي، وحضوره لمختلف الفعاليات المحلية والدولية، كما أنه يعتبر مثالا حديثا نسبيا على قدرات ذوي الإعاقة على الصمود والإبداع.
فالمفتاح ولِّدَ بعيب خلقي ترتب عليه حرمانه من الأرجل، لكنه من خلال عزيمة لا تلين قام بتجهيز سيارته على النحو الذي يتناسب معحالته الصحية، ففي فيديو له منشور على قناته في يوتيوب، يعرض سيارة تم تجهيزها خصيصاً له، بحيث يستطيع الاستغناء عن دواستي الوقود والفرامل من خلال أذرع للتحكم تم تركيبها على عجلة القيادة لتكون في متناول يديه، إضافة إلى وضع مسند مرتفع محشو بالاسفنج على كرسي السائق، كي يجلس عليه ليتمكن من رؤية الطريق بشكل آمن.
في لقاء حصري مع المفتاح، أشاد بقوانين المرور في قطر قائلاً: “القوانين ملائمة لذوي الإعاقة بشكل كبير،” ونوه إلى أن “الحصول على الرخصة أمر سهل نظراً لتعاون الشرطة والداخلية القطرية خاصة مع ذوي الإعاقة”، ووضح المفتاح إلى أنه كان مهتماً بالسياقة منذ أن كان صغيراً في العمر، مما ساعده في الحصول على رخصة السياقة القطرية وعلى الرخصة الدولية كذلك.
تهدف التشريعات المرورية الخاصة بذوي الإعاقة إلى التوازن بين تيسير انخراطهم في الحياة العامة وضمان سلامتهم وسلامة الآخرين، وعلى الرغم من أنها قد تشكل قيودا إضافية على استخراج رخصة السياقة لهم، إلا أنها في الحقيقة تعكس اعترافا صادقا بهم وبحقوقهم كعنصر فاعل استحق عن جدارة لقب ذوي الهمم، له دوره الرئيس في بناء مجتمع يكفل تكافؤ الفرص نحو تنمية مستدامة.
[…] المجلة في باب المرور مقالاً حول رخص السياقة لذوي الإعاقة، واستطاعت الإعلامية هدى محمد أن تبرز دور دولة قطر في […]