تنطوي بعض الرياضات الاستعراضية على مخاطر كبيرة، ومع ذلك، هناك من يتميز بمهارة فائقة رغم تحدياتها، ولكن مهما كان المرء محترفاً وذا خبرة طويلة، فإن أي خطأ قد يكون كفيلاً بتحويل عرضٍ مبهر إلى مأساة تودي بأرواح شباب خاضوا غمارها بشغف وشجاعة.
من بين هذه الرياضات الاستعراضية، فن التبوريدة، أو الفنتازيا، وهي إحدى فنون الاستعراض التقليدية المغربية في الفروسية التي أُدرجت ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي في عام 2021.
ويعود هذا الفن إلى القرن السادس عشر، إذ يعكس تقاليد عسكرية متوارثة من التراث العربي والأمازيغي، ويُحيي طقوساً وأعرافاً قديمة، يستعرض فيها الفارس مهاراته في التحكم بالخيل، والتنسيق بين حركاتها بدقة وسرعة وشجاعة، مع طلقات البنادق المعروفة بالمكحلة، مما يُضفي طابعاً حماسياً فريداً.
إلا أن هذه البنادق تظل سلاحاً ذي حدين، فقد تساهم في تحقيق الانتصارات وجمع النقاط في المسابقات، ولكنها قد تؤدي أيضاً إلى وقوع حوادث مميتة للفرسان، كما يحدث أحياناً في المهرجانات الوطنية المغربية.
قرأت العديد من المقالات عن حوادث التبوريدة، يذكر موقع عربي21 قصة فارس تُوفي في فعاليات موسم مولاي عبد الله أمغار بالجديدة في عام 2023، بعد إصابته بطلقة بارود خاطئة، وآخر انفجرت بندقيته في وجهه أثناء إخراجها من سيارته استعداداً للمشاركة في الفعاليات المقامة في بوعدة سيدي يحيى وفقاً لموقع صوت العدالة، وآخر في عام 2024 انفجرت بندقيته في وجهه أثناء العرض كما يروي قصته تلفزيون 36.
هذه الحوادث المؤلمة دعت العديد إلى المطالبة بتشديد الإجراءات الواجب اتخاذها، لضمان سلامة المشاركين في الأنشطة التقليدية والتراثية، وإعادة تقييم معايير الأمن والسلامة المتبعة لحماية حياة المشاركين في هذا النوع من الفعاليات التي تعتبر جزءاً من الهوية الثقافية المغربية.

ذكّرتني قصص التبوريدة باستعراض السيارات الذي يقوم به بعض الشباب أثناء قيادتها والمعروفة في قطر باسم التحفيص، وتعرف كذلك في دول خليجية أخرى بالتفحيط والتقحيص والتشحيط، وهو أسلوب قيادة يقوم خلاله السائق بالتحكم في سيارته بمهارة عالية، إذ يجعلها تنزلق أثناء الانعطاف بإتجاه معاكس، مع الحفاظ على السيطرة الكاملة عليها.
يجتمع الشباب في ساحات وشوارع فرعية نائية، بعيداً عن أعين السلطات، لأن هذه الرياضة ممنوعة، كونها خطرة وتهدد حياة الناس.
وقد أعجبني سجع لأحد الدعاة يقول فيه “كيف يحوّل بعض شبابنا هذه النعمة إلى نقمة .. رأيناهم بالموت يلعبون .. وبالأرواح يغامرون .. وبالأبرياء يضحون .. وللأموال يبددون.”
ثم وصف هذه الرياضة الاستعراضية بلعبة الموت، ثم أكمل سجعه قائلاً “تفحيط وتطعيس .. وتربيع وتخميس .. وجنون وتهويس.”
وهناك حملات كثيرة في دول الخليج تدعو إلى توجيه الشباب نحو ترك هذه الرياضة لخطورتها وسوء ممارستها، فمنهم من يحرمها دينياً، وآخرين يجرمونها قانونياً، وهناك من يعتبرونها مضيعة للوقت والمال كما أشار الداعية في سجعه.
إلا أنه من الجيد أن الدولة لم تنصاع لهذه الضغوطات، وسمحت لهؤلاء الشباب بممارسة هذه الرياضة بشكل نظامي، لتفريغ طاقاتهم في حلبات مخصصة.
ويدل هذا على أن الدولة بدأت تستوعب أن هذه رياضة تحتاج إلى مكان وتدريب لممارستها بطريقة احترافية، وهذا ما رأيته في بعض الدول التي تتسابق فيها الشركات لرعاية المهرة من هؤلاء السائقين، وتجهيز مركباتهم بصورة تسمح لهم بالاستعراض بشكل أفضل.
في مقابلة مع المتسابق البريطاني المحترف أولي سيلكوك في موقع مجموعة ويذام بعنوان كيف تكون متسابق درِفت محترف؟، تحدث فيه سيلكوك عن تطور رياضة الدريفت، وهو المصطلح الذي يُطلق على التفحيص باللغة الانجليزي، ويعني بالعربية الانجراف.
حيث قال إنها رياضة تنافسية في المملكة المتحدة، وأشار إلى الالتزام المطلوب للوصول إلى المستوى الاحترافي، بالإضافة إلى التفاصيل التقنية لسيارته نيسان سيلفيا إس 13 المجهزة بمكينة بقوة 675 حصاناً.
كما أكد سيلكوك على النمو السريع لهذه الرياضة، والاستثمارات الشخصية والمالية الكبيرة التي يقدمها السائقون، وأهمية الرعاية وجودة المنتجات التي تلعب دوراً كبيراً لرفع مستوى أداء السيارة.
في مقال آخر في موقع أكاديمية تاكسيس للدريفت، يربط بين الدريفت وسباقات السيارات التقليدية، حيث يوضح أن الدريفت ليس مجرد استعراض بل يعزز مهارات أساسية في القيادة مثل التحكم في السيارة، ونقل الوزن، وضبط دواسة الوقود.
يستمد المقال مصداقيته من خبرة ديف أوغبورن، وهو سائق سباقات محترف وسائق اختبار في شركة غوديير، إذ يبرز كيف يساعد الدريفت في بناء ذاكرة عضلية، وتحسين ردود الفعل، وزيادة القدرة على التكيف، مما يجعل السائقين أكثر كفاءة، ليس فقط في السباقات، ولكن أيضاً في القيادة اليومية وتجنب الحوادث.
وفي هذا السياق قامت قطر بتجهيز بدائل آمنة للشباب، من خلال إنشاء حلبات سباق قانونية تتيح لعشاق السيارات ممارسة مهاراتهم في بيئة آمنة، وتم إطلاق برامج تدريب على القيادة الرياضية الاحترافية، لتوجيه طاقات الشباب نحو رياضات السيارات الرسمية، بدلاً من التحفيص العشوائي، وبدأت بتنظيم مسابقات تحت إشراف الجهات المختصة، لتقديم خيارات بديلة وممتعة للشباب.
فقد شهدت قطر في عام 2024 منافسات بطولة قطر للاستعراض الحر التي أُقيمت في نادي قطر لسباق السيارات والدراجات النارية، بمشاركة أكثر من 55 متسابقاً وحضور جماهيري كبير وفقاً لصحيفة الشرق.
شهدت المنافسات التي استمرت لأكثر من خمس ساعات، أداءً مميزاً من المتسابقين، وتم تتويج الفائزين من مدير عام النادي، الشيخ جبر بن خالد آل ثاني.
وفي يناير 2025 بدأت فعاليات نادي حلبة سيلين الرياضي (مواتر) التي تتضمن سبع بطولات متنوعة، بهدف تقديم تجربة رياضية وترفيهية مميزة لعشاق رياضات السيارات، مع جوائز مالية تصل إلى نصف مليون ريال قطري.
تأسس نادي تأسس في عام 2020، لتنظيم بطولات مميزة تعزز رياضات السيارات ولمكانة قطر كوجهة ريادية لرياضات السيارات على مستوى المنطقة.
شهدت حلبة مواتر انطلاق أولى فعاليات الموسم مع بطولة الشل، وهي مهارة أخرى تتطلب القيادة على عجلتين فقط، ويهدف الموسم إلى توفير منصة آمنة ومنظمة للشباب وعشاق رياضات السيارات، للتعبير عن شغفهم في بيئة تتسم بالأمان والسلامة.
المؤسف أن بعض الشباب ما زال يمارس هذه الرياضة بشكل غير نظامي، واضعين أنفسهم في موقع قد يودي بحياتهم، رغم ما قامت به الدولة من مساعٍ لإرشادهم.
من الناحية الجزائية، شددت إدارة المرور العقوبات على من يمارس هذه الرياضة بطريقة غير نظامية، وفي فيديو نشرته وزارة الداخلية القطرية على حسابها في منصة أكس، نرى سيارة تُحفّص في منتصف طريق عام، رصدتها كاميرات المراقبة، وهي تتحرك بسرعة مفرطة في أحد شوارع الدوحة، وسائقها يُقْدِمُ على حركات متهورة.
استطاعت وزارة الداخلية القطرية تحديد هوية السائق وصادرت سيارته، ولم تقف العقوبة عند هذا الحد، بل فرمت السيارة بشكل كلي مع تصوير لعملية الفرم كتحذير لباقية المتهورين المحتملين على الطرقات، وممارسي التحفيص بطريقة غير نظامية.
ثم وضح المقطع أن المادة 57 من قانون المرور “تحظر سياقة مركبة على الطريق برعونة أو عدم تحرز أو بكيفية تعرض حياة الأشخاص والأموال للخطر”
“وفي حال ارتكاب هذا الفعل يُعاقَبُ بالحبس مدة لا تقل عن شهر، ولا تتجاوز 3 سنوات، وبالغرامة التي لا تقل عن 10 آلاف ريال ولا تزيد عن 50 ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك وفق نص المادة 94 من ذات القانون.”
واختُتم مقطع الفيديو بعبارة تقول “وزارة الداخلية لن تتوانى في اتخاذ كافة الإجراءات القانونية اللازمة ضد المخالفين للأنظمة والقواعد المرورية المعمول بها.”
قد يكون للعقوبات دور في الردع، ولكن الهدف الرئيسي يكمن في إحداث تغيير في السلوكيات وجعل القيادة الآمنة جزءاً من ثقافة المجتمع، وهنا يأتي دور الأنشطة البديلة ودور الإعلام الإرشادي والتوعوي.
وتعد التوعية المجتمعية من أهم الأدوات لمكافحة ظاهرة التحفيص وتقليل الحوادث الناتجة عنها، حيث تهدف إلى نشر الوعي بين الشباب والمجتمع حول مخاطر القيادة المتهورة وتأثيراتها السلبية على الأفراد والمجتمع ككل.
وفي دراسة في صحيفة المدينة تبين أن التوعية تعتمد على وسائل عدة، من بينها الحملات الإعلامية التي تشمل إنتاج أفلام وثائقية وتوعوية تُظهر خطورة التحفيص مع شهادات حية لضحايا الحوادث وعائلاتهم.
وتشمل هذه الحملات قنوات التلفزيون والإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي، لعرض النتائج الكارثية للتحفيص، من خلال نشر مقاطع فيديو واقعية وإحصائيات مرعبة، إضافة إلى استضافة خبراء مروريين وأطباء ورجال أمن في البرامج الحوارية، للحديث عن التبعات القانونية والصحية والنفسية الناجمة عن حوادث هذه الرياضة الخطرة.
وحري بالمختصين أن يقوموا بإدراج التوعية المرورية ضمن المناهج المدرسية، لتثقيف الطلاب في سن مبكرة حول مخاطر القيادة الطائشة، وتنظيم ورش ومحاضرات بالتعاون مع الجهات الأمنية، لشرح القوانين المتعلقة بالتحفيص والعقوبات المترتبة عليه وآثاره على المجتمع، بالإضافة إلى استضافة أشخاص تعرضوا لإصابات تحفيصية، ليسردوا تجاربهم أمام الطلاب، بغية تقديم رسالة أكثر تأثيراً.
وقد يكون من الجيد استضافة أبطال هذه الرياضة، ومن لديهم انجازات عالمية في هذا المجال، فالاستعانة بالمؤثرين والمشاهير تحفز الشباب نحو اتخاذ مسار الاحترافية الآمن، بعيداً عن الطيش غير النظامي.
وكما أن سوء استخدام بندقية التبوريدة قد يتحول إلى أداة خطرة تودي بحياة الشباب، إذا لم يتحرز مستخدميها من صلاحيتها وكيفية تصنيعها، كذلك حال السيارات، إذا استخدمت بتهور قد تصبح أداة قاتلة تعرض أرواحهم وأرواح الآخرين للتهلكة.