عادة عندما يأتيك اتصال في وقت متأخر من الليل، ينتابك القلق، وترتجف يداك لأن مثل هذه الاتصالات المتأخرة لا تبشر غالباً بالخير.
أتاني مثل ذلك الاتصال المفاجئ، فهبط قلبي رعبًا حينها، ليخبرني عقلي الباطن سريعاً أن المتصل بي يحمل خبراً سيئاً عن أهلي، خصوصا أننا مغتربون عن الوطن، فويلات الغربة تظهر جلياً في قلوبنا، بسبب بعدنا عن الأهل.
كان اتصالاً من صديقتي التي تشاركني الغربة في تركيا، سكن الخوف قلبي وذهبت إليها مسرعة حين كلمتني مجهشة بالبكاء تطلب لقائي عاجلاً، سألتها مراراً: “هل حصل لأحد شيء؟” حاولت طمأنتي أن أهلنا بخير، ولكني من شدة قلقي لم أصدقها.
ما إن وصلت إليها رأيت علامات الإنكسار على تقاسيم وجهها، والحزن يسكن عينيها بشكل لافت، وبعد نوبة بكاء طويلة وأنا صامتة في ذهول لمعرفة سبب كل هذا الانهيار.
قالت لي: زوجي تزوج بأخرى، وأشعر بأن ضلوع صدري ضاقت من شدة القهر.
جلست أستمع لها، لم أنبس ببنت شفة! راحت تستذكر المواقف الصعبة التي جمعتهما، تارة تبكي وتارة تبتسم وجعاً، ووسط الحديث جملةٌ واحدة تكررها: زوجي كسرني وحطم ذكرياتنا إلى شظايا تجرحني.
سألتها كيف عرفت بزواجه، وهل صارحها بذلك أم أخفى الأمر عنها؟
كان هذا فصل الوجع في قلبها، فقد عرفت من صديقة لها، علمت بالأمر صدفة، حتى أنها لم تصدق في البداية.
وقع الخبر كان شديداً عليها، فقد أخبرتني باكية أنها شعرت أن البيت الذي بنته على مر السنين بالمودة والمحبة قد انهار بداخلها في لحظة واحدة، وأن الثقة في قلبها انهدمت وأصبحت كومة خراب.
أخبرتني صديقتي أنها على علم بالحكم الشرعي وأن زوجها لم يتعد حدود الله، لكنه تعدى حدود الحب الذي تكنه له، فهو يعلم أنها شديدة الغيرة، وأن صدرها يضيق إذا شعرت أن إحداهن استلطفته، فكيف به وهو يعيش مع امرأة أخرى حياة كاملة.
آثرت الصمت حينها، بل وانعقد لساني لتهدئتها، وعندما عدت إلى المنزل تواصلت صباح اليوم التالي مع أخصائية نفسية، سألتها عن مخرج من مشاعر التمزق والانكسار التي تشعر بها المرأة جراء التعدد، لاسيما أن كثيراً من الزوجات يطلبن الطلاق في بداية الأمر، ثم بعد فترة من الزمن تطول غالباً، لا يجد بعضهن بسبب الأبناء بداً من قبول الأمر الواقع فيقبلنه على مضض.
فهناك أعراض نفسية حادة ومشاعر بالدونية والنقص والتقصير تصيب المرأة بعد ارتباط زوجها بأخرى، لا تنحسر إلا بعد فترة زمنية ليست بالقصيرة.
ويوضح الدكتور الاستشاري الصحة النفسية والعلاقات الأسرية محمد هاني في لقاء له على قناة أم بي سي مصر أن الرجل غالباً يعدد لإشباع رغباته وليس لسبب شامل وواضح، مما يصيب زوجته بأنواع من الضرر كالتشوهات النفسية وفقدان الثقة، ويرى أن لها الحق في أن تطلب الطلاق للضرر، تجنباً للدخول في نوبات اكتئاب أو أن تصاب بجلطات أو أن تحاول الانتحار.
لكن في المقابل يرى عباس محمود العقاد أن إيجابيات تعدد الزوجات ليست حكراً على الرجال دون النساء، فالزوجة التي تزوج عليها زوجها – حتى ولو كانت عقيماً أو مريضةً ولا تريد فراق زوجها – يسمح لها الإسلام أن تحتفظ به دون جبرها على الطلاق وحرمانها من زوجها.
ويضيف العقاد أن المرأة التي تقبل الزواج من رجل متزوج، لا يجبرها الإسلام على ذلك، كما أن منع تشريع التعدد يَحْرِم المرأة من مساحة الاختيار الأوسع بين العزاب والمتزوجين، فهناك ظروف تفضل المرأة فيها أن يكون لزوجها زوجات أخريات، على أن تكون عشيقة في الظلام.
ففي كتابه حقائق الإسلام وأباطيل خصومه يقول “ولا حرج على المرأة في تشريع تعدد الزوجات متى كان الرأي فيه موكولاً إلى مشيئتها تأبى منه ما تأباه وتقبل منه ما لا ترى فيه غضاضة عليها أو ترى أنه ضرورة أخف لديها من ضرورات تأباها.”
فمنع تشريع التعدد يُضيّق الخناق على الرجال والنساء معاً، فلماذا يرفض بعضهم تشريعاً قد يقبله البعض الآخر تلبيةً لاحتياجته أو ضروراته الخاصة؟
ويستطرد العقاد في توضيح فكرته قائلاً “ومن تلك الضرورات أن يحتفظ الرجل بزوجته عقيماً أو مريضةً لا يريد فراقها ولا تريد فراقه، ومنها أن يتكاثر عدد النساء في أوقات الحروب والفتن مع ما يشاهد من زيادة عدد النساء على الرجال في كثير من الأوقات، فإذا رضِيت المرأة في هذه الأحوال أن تتزوج من ذي حليلة فذلك أكرم لها من الرضا بعلاقة الخليلة التي لا حقوق لها على زوجها وأكرم لها كثيراً من الرضا بابتذال الفاقة أو بذل النفس في سوق الرذيلة”.
وكمثال على تشريع يجرم تعدد الزوجات، ينص القانون التونسي في أمر 13 أوت 1956 المتعلّق بإصدار مجلة الأحوال الشخصيّة، في الفصل 18، “تعدّد الزوجات ممنوع،” ويكمل المنع بعقاب المعدد “بالسجن لمدّة عام وبخطية قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك أو بإحدى العقوبتين، ولو أنّ الزواج الجديد لم يبرم طبق أحكام القانون.”
أما الفصل 21 يعاقب كلا الزوجين بالسجن مدة ثلاثة أشهر، ويعتبر الزواج المبرم “باطلاً”، بل يبطل الزواج بأكمله، “وإذا استأنف أو استمر الزوجان على المعاشرة رغم التصريح بإبطال زواجهما يعاقبان بالسجن مدة ستة أشهر”.
قد أباح الإسلام تعدد الزوجات ووضع له ضوابط في سورة النساء، يقول تعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا”.
ولم يجعل الشرع الإسلامي تعدد الزوجات مطلقاً دون قيود، ففي رواية للترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: “مَنْ كانتْ له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يومَ القيامةِ وشِقُّه مائلٌ”.
وبالعودة إلى قصة صديقتي التي علمت صدفة بزواج زوجها عليها، فإن كثير من التشريعات العربية قننت تعدد الزوجات من خلال إخبار الزوجة السابقة بإقدام زوجها على عقد زواج جديد مع امرأة أخرى، كما تلزم هذه التشريعات بإخبار المرأة قبل الزواج من رجل متزوج بحالته الاجتماعية، كما نرى ذلك جلياً في القانون القطري والأردني وغيرهما.
تشترط المادة 14 من قانون الأسرة القطري رقم (22) لسنة 2006 أنه “في جميع الأحوال تخطر الزوجة أو الزوجات بهذا الزواج بعد توثيقه”.
وبالنظر لمدونة الأسرة المغربية نجد أنها تشترط موافقة الزوجة السابقة حتى لو لم تشترط هي ذلك في عقد النكاح، إضافة إلى “إعطاء الحق للمرأة المتزوج عليها، في طلب التطليق للضرر”، وهو ما يترتب عليه إعطائها كامل حقوقها بعد الطلاق.
ويبقى تشريع تعدد الزوجات خياراً متاحاً لمن يحتاجه من الرجال أو حتى من النساء، ولا يمكن أن يُفرض على أحد، أما حظره فإنه يفتح الباب أمام العلاقات غير الشرعية المهددة للمجتمع برمته أو في أحسن الحالات أمام طُرق ملتوية للزواج غير الموثق رسمياً، مما يُضيع حقوق المرأة بالدرجة الأولى.
أما الظواهر السلبية لتعدد الزوجات التي نرصدها في مجتمعاتنا، فليست إلا نتيجة لسوء استغلال بعضهم لهذا التشريع، وهي ما ينبغي أن يركز المجتمع والمشرع على كيفية معالجتها، من خلال سد الثغرات وتهذيب الأخلاق.