قبل التسرع في الحكم على علاقة زوجية ما بأنها ميتة أو مسمومة، وقبل أن ننفض أيدينا من محاولة إصلاحها، وهو أمر غير مستحيل – إن صدقت النوايا – يستحق من الطرفين بذل كل ما في وسعهما لإنقاذ بيتهما الذي بنياه معاً في أجواء مفعمة بالأمل في حياة مستقرة، علينا أن ندرك أن الخلافات الزوجية باتت، رغم كل هذه المقدمات الإيجابية، شائعة بصورة مقلقة على مستوى العالم.
ففي إحصائية مفصلة نشرتها المنظمة الوطنية للعنف المنزلي عن العنف المنزلي في المملكة المتحدة، جاء فيها أن عام 2022 وحده شهد تعرض 2.4 مليون شخص للعنف المنزلي، منهم 1.7 مليون امرأة وحوالي 700 ألف رجل، سجلت منها الشرطة في تقاريرها أكثر من 1.5 مليون حادثة وجريمة متعلقة بالعنف الأسري، مما يمثل زيادة بنسبة 7.7% عن العام السابق، وتشير الإحصائية كذلك إلى أن النساء أكثر عرضة للتعرض للعنف المنزلي المتكرر والإصابة أو القتل في أبشع السيناريوهات.
ولا ريب أن الاضطراب المستمر والنكد الدائم في البيوت يهدد استقرار الأسرة ويعرض الأطفال لخطر التشرد والتفكك والضياع، وقد توصلت عدة دراسات نشرها موقع ليغال جوبز في عام 2022 في الولايات المتحدة إلى أن تقريباً نصف عدد الأطفال في المجتمع الأمريكي يشهدون عاجلاً أم آجلاً انفصال والديهم، وأن أطفال الطلاق بين 7-14 سنة أكثر عرضة بنسبة 16٪ لمشاكل سلوكية، وأن احتمال عدم إكمالهم للدراسة الثانوية يبلغ الضعف، إضافة إلى زيادة تدهور أوضاعهم الصحية والنفسية، مع معاناة أكبر تبلغ أربعة أضعاف في تكوين علاقات إجتماعية أو الحفاظ عليها، ناهيك عن ما يواجهونه من صعوبات في علاقاتهم العاطفية في المستقبل وزيادة معدلات الطلاق.
أما عربياً، ففي مقال لهيثم القباني في جريدة الراية يقول المحامي حسن عبدالله الخوري إن “قضايا النشوز التي تنظرها المحاكم مؤشر خطير لحجم تلك الظاهرة ما يتطلب تضافر جهود المجتمع للتوفيق بين الأزواج والتوعية بواجبات وحقوق كلا الزوجين للحد من تلك القضايا وما ينشأ عنها من مشاكل اجتماعية على الأسرة والأبناء”.
وقد تناول الكاتب أحمد عقب الباب في مقال له على مجلة قول فصل بعنوان أطفال الشقاق: النزيف الداخلي للخلع والطلاق ارتفاع معدلات الانفصال بين الأزواج في العالم العربي، وما يترتب عليها من صراع الوالدين على حق الحضانة والرؤية والنفقة، المصحوبة بأزمات نفسية يعاني منها الأطفال دون ذنب لهم أو جريرة.
أتذكر هنا حادثة لم تحصل لي شخصياً ولكن مع أقرب الصديقات لي، صديقتي فاطمة، دائماً ما كنا نتشارك الأفراح والأحزان ونتبادل النصائح، لكن في أحد الأيام، جاءتني وهي تحمل في عينيها حزناً شديداً، وكأن الدنيا قد ضاقت بها.
جلست فاطمة أمامي وبدأت تروي لي قصتها بصوت مرتعش، وتقول لا أستطيع أن أصدق ما يحدث لي، لقد رفع زوجي عليَّ قضية نشوز وأمرني بالطاعة، أنا في حالة صدمة، لا أستطيع استيعاب ما يجري
كنت أعلم أن زواج فاطمة يمر بمرحلة عصيبة، لكنها لم تذكر لي من قبل أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، عندها سألتها عن التفاصيل، فبدأت تسرد لي ما حدث.
قالت بدأت المشاكل بيننا منذ عدة أشهر، ليصبح فيها زوجي يوماً بعد يوم أكثر قسوة، كان يعاملني بجفاء ويغضب لأتفه الأسباب، حاولت بكل الطرق الممكنة أن أصلح الأمور لكن دون جدوى، لم أكن أستطيع تحمل المزيد من الإهانة والضغط النفسي، كانت تردد “هم العيال من جهة والخادمة مسافرة وأنظف وأرتب وأطبخ، وأنفخ، والمطلوب مني البحث عن راحته في كل الأوقات، وأين هي راحتي أنا؟”.
عندها قررت أن أذهب إلى بيت أهلي لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور، ليصفني في النهاية بالنشوز، وبدلاً من أن يحاول حل المشاكل بيننا، رفع عليَّ قضية طاعة والآن يأمرني بالعودة إلى المنزل والامتثال لأوامره دون أي اعتبار لمشاعري أو الأذى الذي تعرضت له، كنت أستمع إلى فاطمة، وأنا أشعر بالغضب والحزن لما تعانيه.
اقترحت عليها، أن تسعى إلى التفاهم مع زوجها من خلال جلسات نصح وإرشاد من أهل الخبرة والعقلاء من الذين يحظون بثقة الطرفين، ثم أوضحت لها أن القضايا الزوجية تتطلب صبراً وحكمة، وأنه ينبغي على الطرفين محاولة الإصلاح قبل اللجوء إلى القضاء والمحاكم.
في الأيام التالية، حاولت فاطمة التواصل مع زوجها من خلال مركز الاستشارات العائلية في قطر وفاق، وتمكنت من ترتيب جلسة للنقاش بحضور أفراد من العائلة، كانت هناك الكثير من العواطف المتضاربة، عاد زوجها للاعتراف بخطئه، وطلب منها العودة بشروط جديدة تحفظ كرامتها وتضمن حسن المعاملة، وفي النهاية تم التوصل إلى حل يرضي الطرفين.
النشوز بين اللغة والشريعة والقانون
لغوياً يُعرِّف النشوزَ إسماعيلُ بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح بأنه “الاستِعصاءُ والامتِناعُ والترَفُّعُ، مِن النَّشْزِ، وهو ما ارتفَعَ وظَهَر” ومنها نغمة نشاز أي خارجة عن اللحن المحدد.
أما في الشريعة الإسلامية فله صورتان؛ إما نشوز الزوجة على زوجها أو نشوز الزوج على زوجته.
ويُعرِّف ابن قدامه في كتابه المغني نشوز الزوجة بأنه “مَعصيةُ المرأةِ زوجَها فيما فرَضَ الله عليها مِن طاعتِه”، قال تعالى في سورة النساء “… واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ۖ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ۗ إن الله كان عليا كبيرا”.
والمقصود بالضرب كمحاولة أخيرة في ظروف محدودة مقيدة وبكيفية محددة، بعد العظة والهجر هو الضرب غير المبرح، فإن كان الضرب سيؤدي للتصعيد بين الزوجين فلا ينبغي اللجوء إليه على الإطلاق، وقد جاء في الموسوعة الفقهية “قال المالكية، وبعض الشافعية، والحنابلة: يؤدبها بضربها بالسواك ونحوه، أو بمنديل ملفوف، أو بيده، لا بسوط، ولا بعصا، ولا بخشب؛ لأن المقصود التأديب”.
وفي رواية لأبي داود أن رسول الله ﷺ كان قد نهى عن ضرب المرأة قبل نزول هذه الآية فتجرأ بعضهن على الرجال واحتقن الغيظ في نفوش أزواجهن، وهم لا يستطيعون فعل شيء حيال هذا النشوز الظاهر، فعن إِياس بنِ عبدِاللَّه بنِ أَبي ذُباب عن رسولُ اللَّه ﷺ أنه قال: “لا تَضْربُوا إِمَاءَ اللَّهِ، فَجاءَ عُمَرُ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّساءُ عَلَى أَزْواجهنَّ، فَرَخَّصَ في ضَرْبهِنَّ، فَأَطاف بِآلِ رسولِ اللَّه ﷺ نِساءٌ كَثِيرٌ يَشْكونَ أَزْواجهُنَّ، فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَقَدْ أَطَافَ بآلِ بَيْت مُحمَّدٍ نِساءٌ كَثير يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولئك بخيارِكُمْ”.
بل إنه ﷺ في أخر أيامه في خطبة الوداع أوصى الرجال بالنساء خيراً، فقال: “استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا ؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضِلَعٍ ، وإنَّ أعْوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعْلَاهُ ؛ فإنْ ذهبْتَ تُقِيمُهُ كسرْتَهُ ، وإنْ تركتَهُ لمْ يزلْ أعوَجَ ؛ فاسْتوصُوا بالنِّساءِ خيرًا”، رواه أبو هريرة في صحيح الجامع.
أما نشوز الزوج فيُعرِّفه الطبري في تفسيره بأنه “استعلاءً بنَفسِه عنها إلى غيرِها أثَرةً عليها وارتفاعًا عنها؛ إمَّا لبِغْضَةٍ وإمَّا لكراهةٍ منه”.
قال تعالى في سورة النساء “وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”.
وقد شرع الإسلام في حالة نشوز الزوج على زوجته إما أن تسترضيه بالتنازل عن بعض حقوقها عليه، أو تطلب التطليق أمام القضاء للضرر مع أخذ كامل حقوقها.
أما قانونياً فقد عرفت المادة 69 من قانون الأسرة القطري رقم 22 لسنة 2006 نشوز الزوجة الذي يُسقط عن الزوج نفقتها بأنه “إذا منعت نفسها من الزوج، أو امتنعت عن الانتقال إلى مسكن الزوجية دون عذر شرعي، أو إذا تركت مسكن الزوجية دون عذر شرعي، أو إذا منعت الزوج من الدخول إلى بيت الزوجية دون عذر شرعي، إذا امتنعت من سفر النقلة مع زوجها دون عذر شرعي، أو سافرت بغير إذنه، أو إذا عملت خارج المسكن دون موافقة زوجها، ما لم يكن الزوج متعسفاً في منعها من العمل”.
كما أن المادة 129 من نفس القانون أقرت أن من حق الزوجة أن تطلب التفريق للضرر ببينة ولو حتى بشهادة التسامع، أي بشهادة من سمع عن ملابسات الشقاق بينهما، فقد نصت على أن “للزوجة قبل الدخول أو بعده طلب التفريق للضرر الذي يتعذر معه دوام العشرة لمثلها، وعلى القاضي بذل الجهد لإصلاح ذات البين، وإذا تعذر الإصلاح وثبت الضرر حكم بالتفريق، ويثبت الضرر بالبينة، بما في ذلك شهادة التسامع”.
ومن المواقف التي لا تُلزم فيها المرأة بطاعة زوجها ولا تعد ناشزاً أن يأمرها بمخالفة شرعية أو قانونية، أو أن تمتنع عن معاشرته لسبب عضوي أو مرض نفسي أو لأنه لم يؤدي لها كامل مهرها، أو أن يحملها بما هو فوق طاقتها، أو أن يطالبها بفعل أمر تخاف منه، أو أن يطلب منها السكن في بيت لا يخصها وحدها هي وأطفالها منه، أو لأنه يمنعها من استكمال تعليمها، متى اشترطت عليه ذلك في عقد الزواج.
ومن الجدير بالذكر أن مدونة الأسرة المغربية لسنة 2021 لم يرد بها صراحة مصطلح النشوز، لكن ورد مصطلحان قريبان؛ الشقاق والضرر، وقد ألزم القانون المغربي الزوج بنفقة زوجته إلا إذا غادرت منزل الزوجية وامتنعت عن الرجوع إليه، إذ تنص المادة 195 على أنه “يُحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ إمساك الزوج عن الإنفاق الواجب عليه، ولا تسقط بمضي المدة إلا إذا حكم عليها بالرجوع لبيت الزوجية وامتنعت”.
كما أقر القانون نفسه حق المرأة في طلب التفريق مع أخذها لكامل حقوقها، إذا تزوج عليها زوجها، وهو ما نصت عليه المادة 45 من القانون نفسه التي جاء فيها أنه ” إذا ثبت للمحكمة من خلال المناقشات تعذر استمر الزوجة المراد التزوج عليها على المطالبة بالتطليق، حددت المحكمة مبلغا لاستيفاء كافة حقوق الزوجة وأولادهما الملزم الزوج بالإنفاق عليهم، يجب على الزوج إيداع المبلغ المحدد داخل أجل لا يتعدى سبعة أيام، تصدر المحكمة بمجرد الإيداع حكما بالتطليق ويكون هذا الحكم غير قابل لأي طعن في جزئه القاضي بإنهاء العلاقة الزوجية.”
وقد نصت المادة 97 من القانون نفسه على “في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، تثبت المحكمة ذلك في محضر، وتحكم بالتطليق وبالمستحقات طبقا للمواد 83 و84 و85 أعلاه، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر، ويُفصل في دعوى الشقاق في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب”.
أسباب نشوز أحد الزوجين على الآخر
إن تضخم الشعور بالأنا من جانب والمطالبة بالحقوق قبل تأدية الواجبات، يؤديان إلى شعور الطرف الآخر بالظلم، فإما يكتم في نفسه إلى أن يصل لمرحلة البغض، أو يرد على الإساءة بإساءة أخرى فيتصاعد الشقاق وتتعقد الأمور.
ومن أسباب النشوز أيضاً قلة الوعي ونقص الذكاء الاجتماعي وضعف التواصل، مما يجر كل طرف إلى عزلة نفسية تحت سقف واحد يُظلهما تُعرف بالطلاق الصامت.
كذلك يؤجج الخلافات بين الزوجين تدخل الأهل والأصدقاء بنصائح ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب تُحفِز هذا الطرف أو ذاك على سوء الظن بالآخر والتمرد عليه.
ولا يمكن أن نغفل الدور الخطير للقدوة السلبية التي يروجها الإعلام عبر برامج وأعمال درامية تبث أفكاراً مغلوطة ونماذج سلبية.
طرق علاج النشوز
بادئ بَدْءٍ، الوقاية خير من العلاج، فلابد من أن يتعلم الشباب قبل الزواج وفي بعض المناهج المدرسية ما ينتظرهم من تحديات في علاقة متشابكة ولصيقة مع إنسان نشأ في بيئة مختلفة، وكيفية احتواء الطرف الآخر بالحسنى وطيب العشرة.
فإذا ما دب الخلاف ووقع النشوز من أحد الطرفين، على الطرف المتضرر أن يسارع إلى كتم غيظه أولاً، والرد على الإساءة بالحسنى، وتقديم النصيحة المباشرة الواضحة للطرف الآخر، وتوضيح ما يزعجه.
ولا ريب أن لجوء الطرفين إلى جلسة علاج نفسي مع متخصص يمكن أن ترأب الصدع قبل استفحاله.
وعلى كل إنسان أن يعيد النظر إلى الحياة ككل وإلى الحياة الخاصة مع أهل بيته، من أجل تحديد أولوياته بناء على نظرة واقعية تحاول أن تتفهم الطرف الآخر وتشبع احتياجاته.
وهنا عبر كافة المنصات الإعلامية والاجتماعية، لابد أن يقوم الإعلام والباحثون والمختصون بتفنيد الأفكار المغلوطة والسلوكيات السلبية التي تأجج الصراعات بين الزوجين.
وفي لحظة صدق ومكاشفة بين المرء وذاته عليه أن يسأل نفسه بتجرد، هل يقبل أن يتعرض أبناؤه إلى ما يفعله هو في شريك حياته؟
فإذا كانت الإجابة بالنفي، عليه أن يراجع نفسه ولا يكون من المطففين.
[…] باب المرأة عرضت الإعلامية هدى محمد في مقالها النشوز: تورم الأنا وضمور الأخلاق ضرورة أن يبذل الزوجان جهدهما للحفاظ على البيت، […]