نَظَرتْ مرات ومرات خلال سنوات عمرها القصير في عين الموت شبه الزجاجية بحثاً عن الخلاص، لكن دون جدوى.
في الثالث من يوليو من عام 1950 رُزق بها والدها الذي كان قبل هزيمة ألمانيا واستسلامها في عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية عضواً في الجناح العسكري للحزب النازي، أو ما يعرف اختصاراً بالڤافِن إس إس، كان أباً تغلب عليه الصرامة العسكرية، شديد القسوة، ضاعف من إحباطته أنه كان شاهداً على الانهيار المهين لبلده، وانهيار مستقبله العسكري معه، فعكف على مقارعة الخمر، مما حوله إلى شخص عدواني عنيف حتى في داخل بيته.
نَظَرتْ في عينيه شبه الزجاجتين بحثاً عن حنان الأب، علها تجد تعاطفاً، لكن دون جدوى.
لم يكن انفصل والدها مفاجئاً، لتنتقل بعد ذلك مع أمها للعيش مع زوج أم أذاقها فصلاً آخر من مرارة عيش لا تقل عن مرارة العيش مع أبيها.
نظرت في عينيه شبه الزجاجتين بحثاً عن الرحمة، علها تجد تعاطفاً، لكن دون جدوى.
بعد أن طردتها أمها من البيت جراء الخلافات الدائمة معها، نشأت علاقة بينها وبين زميلها في المدرسة، لتحمل منه في سن السادسة عشرة طفلة لم تستطع أن تحتفظ بها في هذه السن الصغيرة فتبرعت بها للتبني.
ثم تكرر حملها في طفلة ثانية من علاقة أخرى في سن الثامنة عشرة، بل تعرضت للاغتصاب في ملهى ليلي قبل أن تلدها، ولتتكرر مأستها وتتبرع بها أيضاً للتبني.
في سن الثانية والعشرين حملت مجدداً في طفلتها الثالثة من صديقها كريستيان برتولد الذي كان يعمل مديراً لحانة تيبازا التي كانت تعمل فيها كنادلة في مدينة لوبيك في ولاية شليسفيش هولشتاين شمال ألمانيا.
هذه المرة قررت ماريانا باخماير الاحتفاظ بطفلتها آنّا التي أبصرت النور في عام 1972.
نظرت في عينيها وأدركت على الفور أنها باتت مركز حياتها وأملها الباقي من حب وحنان.
ترعرعت الطفلة في رعاية أمها التي استمرت في العمل حتى أوقات متأخرة من الليل في تلك الحانة، فكانت تأخذها معها أحياناً إليها لتنام على أحد المقعد في الزاوية وسط ضحكات الراقصين على صخب الموسيقى المرتفعة، أو تنتظرها وحدها في البيت بعد أن تعود من المدرسة، أو تتركها عند بائعة تعمل في محل بقالة في الجوار.
في أحد الأيام غلب النوم باخماير بعد ليلة متأخرة من عملها في الحانة، ولم تستطع الاستيقاظ لإرسال طفلتها إلى المدرسة التي سبق وأن تشاجرت معها بالأمس، فخرجت آنّا للعب مع صديقاتها.
استيقظت الأم وهي تظن أن ابنتها ذهبت إلى المدرسة، وبعد ظهر اليوم نفسه ذهبت في جلسة تصوير، بعد أن لفتت انتباه أحد الصحفيين بشاحنتها الفولكس فاجن المغطاة بالصور.
مر وقت طويل دون أن تعود الطفلة بدأ القلق ينتاب الأم التي سرعان ما اتصلت بالشرطة للإبلاغ عن ابنتها المفقودة.
في اليوم التالي طرقت الشرطة الباب لتبلغ الأم أنها وجدت جثة ابنتها.
ألقت الشرطة القبض على المشتبه به، ليتضح أنه الجار كلاوس غرابوفيسكي البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً ويعمل جزاراً.
خلال التحقيقات تبين أن آنّا لم تجد صديقاتها اللاتي ذهبت للعب معهن، فعادت أدراجها إلى البيت، وفي الطريق قابلها الجار كلاوس غرابوفيسكي وعرض عليها مشاهدة قططه الصغيرة، وبعد أن دخلت شقته اعتدى عليها جنسياً، ثم خنقها بجورب خطيبته الحرير الذي تركته في الغرفة الأخرى.
عندما عادت خطيبته إلى المنزل، أخبرها بما فعل، فدب بينهما شجار غادرت على إثره على الفور وأبلغت الشرطة بما حدث.
أثناء وجودها بالخارج، قام بوضع جثة آنّا في صندوق من الورق المقوى، وحملها على دراجته وأخذها إلى مكان على ضفاف قناة مائية، حيث دفنها في مكان ضحل.
وعندما وصلت الشرطة إلى منزله، كان قد ذهب، لكنه ترك ورقة لخطيبته يتوسلها فيها ألا تتخلى عنه، وقال إنه سينتظرها في الحانة التي يترددان عليها عادة للتفكير في كيفية الخروج من هذا المأزق.
في وقت لاحق من تلك الليلة، انتظرت الشرطة وصوله إلى الحانة وألقت القبض عليه.
لم تكن هذه أول جريمة اعتداء جنسي قام بها، ففي عام 1976 حُكم عليه بقضاء فترة طويلة من الزمن في منشأة للعلاج النفسي بتهمة الاعتداء الجنسي، بعد أن أدين مرتين بالاعتداء الجنسي على أطفال، لكنه خرج من محبسه، بعد أن وافق في إجراء قانوني يتم فيه إخصائه كيميائياً من خلال خفض هرمون التستوستيرون مقابل الإفراج عنه.
بعد عامين من إطلاق سراحه، ذهب إلى طبيب مسالك بولية، وطلب علاجاً هرمونياً يعكس عملية الإخصاء، وتمت الموافقة على هذا العلاج من قبل المحكمة، لأنه أبلغ عن آثار جانبية جسدية، كما أن لديه خطيبة يريد أن يكون معها أسرة، وتصورت المحكمة أنه بات شخصاً طبيعياً لا يشكل تهديداً للآخرين.
في 6 مارس 1981 كان موعد الجلسة الثالثة من جلسات تداول القضية في المحكمة ذهبت باخماير لحضور الجلسة في قبيل العاشرة صباحاً، ودخلت مرتدية معطفها إلى القاعة 157، وقبل انعقاد الجلسة لم تنظر في عيني القاتل هذه المرة، كي لا تهرب كعادتها، وقررت انتزاع العدل بأظافرها.
رفعت يدها بمسدس بيريتا صغير أخفته في جيب معطفها الطويل، وأطلقت على ظهر الجاني الذي كان جالساً ينتظر بدء الجلسة من مسافة ثلاثة أمتار ونصف 8 رصاصات، فأصابته بسبعة رصاصات أردته قتيلاً على الفور.
ألقت الشرطة القبض على الأم دون أدنى مقاومة منها بعد أن ألقت مسدسها على الأرض، لتسأل رجال الشرطة الممسكين بها “هل مات الخنزير؟”
بدأت المحاكمة التي هزت جريمتها المجتمع الألماني كله، وجذبت تغطية إعلامية محلية ودولية كبيرة، وانقسم الرأي العام بين متعاطف مع الأم المكلومة في طفلتها التي قُتلت في سن السابعة، وبين معترض على الاحتكام إلى شريعة الغاب والقتل خارج القانون.
نظرت باخماير في عيون المصورين في قاعة المحكمة، بحثاً عن تفهم أو تقدير، لكن دون جدوى.
كانت تواجه عدساتهم بكل ثقة كأنها عارضة أزياء، لا تبدو عليها مشاعر الندم أو الخزي.
باعت حقوق تغطية قصتها لصحيفة شتيرن الألمانية مقابل 250 ألف مارك لتنفقها على مصاريف الدفاع، وقد نشرت الصحيفة قصتها على صفحات أعدادها في سلسلة إخبارية مفصلة جذبت أعداداً كبيرة من القراء.
كما أسست مجموعة من المتعاطفين معها رابطة باسم تبرئة ماريانا باخماير جمعت لها 100 ألف مارك، وكانت تصلها في سجنها باقات الزهور وبطاقات التأييد.
نظرت باخماير في عيني القاضي بحثاً عن العدل، علها تجد إنصافاً، لكن دون جدوى.
وأصرت أثناء محاكمتها على أنها لم تخطط لقتل الرجل داخل قاعة المحكمة، وأنها اقتنت هذا المسدس لشعورها بالخوف وعدم الأمان بعد قتل ابنتها، وأن إطلاقها للرصاص عليه جاء في لحظة انفعال نفسي، بعد أن رأته ورأت بعض صور التحقيقات لجثة ابنتها المقيدة عقب استخراجها.
كانت هذه استراتيجية الدفاع التي اعتمد عليه محاميها للحيلولة دون سجنها مدى الحياة، فقانون الجنايات الألماني ألغى عقوبة الإعدام منذ عام 1949، لكنه في مادته 211 نص على أن “عقوبة القتل هي السجن مدى الحياة” ويُعرِّف القاتل في نفس المادة بأنه كل من “يزهق حياة إنسان بدافع شهوة القتل أو من أجل إشباع رغبة جنسية أو بسبب الجشع أو بسبب دوافع أخرى منخفضة، بخبث أو بقسوة أو بوسائل خطرة على الآخرين ، أو لتنفيذ جريمة أخرى أو لإخفائها”.
في أواخر عام 1982 وجه الادعاء لها تهمة القتل العمد، لكن في وقت لاحق أسقط الادعاء التهمة، وبعد أربعة أشهر من بدء الإجراءات، أدانتها المحكمة في عام 1983 بتهمة القتل غير العمد وحيازة سلاح ناري بطريقة غير مشروعة، وحكمت عليها بالسجن لمدة ست سنوات.
تبنى القاضي هذا الحكم المخفف لأن ضميره اقتنع أن القتل كان عفوياً وناجماً عن صدمة مواجهتها للمتهم المعترف بقتل ابنتها خلال جلسات المحاكمة، وقد ادعى أحد الشهود أن ملفاً كان موجوداً في قاعة المحكمة يحتوي على صور لجثة آنّا، وأن أمها رأته قبل وقت قصير من إطلاقها النار على غرابوفيسكي، كان ذلك سبباً كافياً للقاضي للنظر إلى الجريمة على أنها قتل غير متعمد.
وبعد الحكم عليها بسنة صدر فيلمان ألمانيان عنها في عام 1984، الأول بعنوان: أم آنّا، والثاني بعنوان: لا وقت للدموع: قضية باخماير.
أُفرج عن باخماير بعد ثلاث سنوات قضتها في السجن في عام 1985، وتزوجت في السنة نفسها من مدرس، ثم بعد ثلاث سنوات أخرى انتقلت معه إلى نيجيريا، حيث حصل على فرصة عمل كمدرس للغة الألمانية، لكن زواجهما لم يستمر لأكثر من خمس سنوات، ثم انفصلا في عام 1990.
بعدها سافرت إلى صقلية لتعمل في مدينة باليرمو كعاملة في مشفى تُجرى فيه عمليات ما يسمى بالقتل الرحيم للمحتضرين من ذوي الحالات الميؤوس من شفائها.
بعد فترة من عملها في هذا المشفى تم تشخيص إصابتها بسرطان البنكرياس، لتعود إلى ألمانيا.
أجرت باخماير العديد من اللقاءات التلفزيونية، وتواصلت مع المخرج الألماني لوكاس بومار، كي يرافقها في أيامها الأخيرة لعمل فيلم تسجيلي عن قصتها، وأكدت أنها لم تندم قط على فعلتها، وأنها قتلت غرابوفيسكي، لمنعه من تلويث سمعة ابنتها بزعمه أنها هددته بفضحه إن لم يعطها أموالاً لتسكت، ولتضع في الوقت نفسه حداً لجرائمه المحتملة في المستقبل.
في الفيلم الوثائقي ثأر ماريانا باخماير الذي أُنتج في عام 2005، قالت صديقة مقربة لها إن باخماير كانت تتدرب على إطلاق الرصاص قبل الحادث في قبو معزول أسفل الحانة التي كانت تعمل فيها، لكن باخماير لم تعترف قط أنها قتلت مع سبق الإصرار والترصد.
في السابع عشر من أكتوبر من عام 1996 مع تدهور صحتها لفظت باخماير أنفاسها الأخيرة عن عمر ناهز 46 عاماً، ووريت الثرى بجوار ابنتها آنّا بعد مقتلها بستة عشر عاماً.
ليصدر بذلك الفيلم التسجيلي الذي أرادته في العام نفسه الذي توفيت فيه بعنوان الموت البطيء لماريانا باخماير.