بعد سنوات من الانتظار حسم أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني توجهه في أكتوبر 2021، وفتح الأبواب أمام مواطني الدولة كي يرشحوا ويختاروا ممثليهم في مجلس الشورى، فكلما أتت بشائر التغيير قبل ذلك كان التأجيل للدورة التالية هو المصير.
تأرجحت مشاعر الناس بتفاوت ملحوظ بين السعادة وخيبة الأمل، لأن الضوابط القانونية لحق التصويت والانتخاب جعلته حكراً على فئة محددة من المواطنين، ناهيك عن أن توزيع الدوائر الانتخابية قائم على مرجعية قبلية بالدرجة الأولى.
فمن جهة حددت الدولة أولئك الذين يحق لهم التصويت والانتخاب من القطريين الذين استوطنوا البلاد في عام 1930 وما قبلها وحافظوا على إقامتهم فيها حتى عام 1961 باعتبارهم مواطنون أصليون وقفوا مع بلدهم في أصعب الظروف، وقد راعى القانون شروطاً عامة أخرى متعلقة بالعمر واللغة العربية ونظافة الصحيفة الجنائية من السوابق الإجرامية.
أما من ناحية توزيع الدوائر الانتخابية، فغالباً ما تكون الأصوات من نصيب من لديهم شعبية اجتماعية تدعمها مجالسهم المفتوحة التي يرتادها الكثيرون من أهل القبيلة، بغض النظر عن مستواهم المعرفي وتحصيلهم العلمي في مجالات التشريع والاقتصاد والسياسة والثقافة.
هذه الخطوة من وجهة نظري أراها تتمتع بقدر عال من الانفتاح والتغيير الإيجابي نحو حراك ديمقراطي أصيل، يرفع له العقال بلا أدنى شك.
فعندما تعتمد الدولة على الاقتصاد الريعي التقليدي في ظل غياب الإنتاج المحلي، ومن ثم يعتمد المواطن بدوره اعتماداً كلياً على ما تقدمه له دون مجهود فردي يذكر، فلا يتوقع من هؤلاء الأفراد أن تكون لهم مشاركة ذات بال في تحديد مستقبلها الاقتصادي، أو السياسي، أو حتى المحلي، وبالتالي عندما تقرر في لحظة فارقة من تاريخها السماح لشعبها بتحديد تشريعاتها، يجب أن يكون توجيه الدفة تدريجياً وفي غاية الحذر، وأي خطوة تقوم بها في هذا المسار تعتبر معقولة، بل مندوبة.
وتُجرى انتخابات مجلس الشورى في ظل قانونين، الأول؛ قانون رقم (9) لسنة 1970 بتنظيم الانتخابات العامة لمجلس الشورى في قطر والذي عدل في قانون رقم (6) لسنة 2021 بإصدار قانون نظام انتخاب مجلس الشورى، حيث تم تحديد طبيعة الناخبين، وعددهم، والدوائر الانتخابية، وكيفية تنظيم الانتخابات واللجان، والمحاذير.
وكما هو واضح من سنة إصدار القانون الأول أن الدولة منذ أكثر من خمسة عقود تسعى لأن يكون أعضاء المجلس منتخبين، أي أنه قد مر على هذا القانون أربعة رؤساء حتى تم تنفيذه.
أما القانون الثاني فهو قانون الجنسية القطرية رقم 2 لسنة 1961 الذي عدلت بعض مواده في قانون رقم (38) لسنة 2005 بشأن الجنسية القطرية ويحدد بشكل صريح القطري المسموح له بالانتخاب، إضافة إلى كيفية منح الجنسية أو إسقاطها، ويشترط عدم الجمع بين جنسيتين، ويحدد اللجنة المسؤولة عن شؤون الجنسية، والشروط والإجراءات، إلخ.
التجارب الديمقراطية السابقة
الانتخابات بشكل عام لا تعتبر حديثة العهد لدى القطريين، فقد مروا على هذه التجربة سابقاً مع المجلس البلدي المركزي الذي تأسس في الخمسينيات، ولكن أول انتخابات لاختيار أعضاءه عن طريق الاقتراع جرت في 1999.
إذ أكد السيد أحمد بن عبدالله بن زيد آل محمود رئيس مجلس الشورى السابق في تصريح له في وكالة الأنباء القطرية، أن انتخابات المجلس البلدي المركزي تُعتبر إحدى مرتكزات التجربة الديمقراطية “التي أرست دعائمها قيادتنا الرشيدة لإشراك المواطن في حل قضايا مجتمعه وتطوير منطقته”.
تتمثل مهام المجلس البلدي المركزي حسب قانون رقم (12) لسنة 1998 وتعديلاته بتنظيم المجلس، وينص على مراقبة القوانين والقرارات والأنظمة المتعلقة بشؤون تنظيم المباني وتخطيط الأراضي والطرق والمحال التجارية والصناعية والعامة وغيرها.
فهو مختص بجانب محدد متعلق بالبحث في النواحي التخطيطية والبرامجية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والإدارية للشؤون البلدية والزراعية.
وبشكل عام يُعتبر إنشاء لجان تشرف على الانتخابات والاقتراع، والدعايات الانتخابية، وملء الشوارع بصور الناخبين، وتوزيع القصاصات التي تتألف من برامجهم الانتخابية، شيء اعتاد عليه القطريون وجربوه على مدار العقدين الماضيين.
فعندما بدأت انتخابات مجلس الشورى كان الكثيرون متأهبين لها، ويستطيعون تحديد من الصالح منهم، صاحب الرأي السديد الذي يستطيع إصلاح الخلل وتقويم المعوج ومواكبة التطورات المعاصرة.
والأهم من ذلك كله أن الدستور القطري الذي صدر في 2004، الذي بدوره كان محصلة استفتاء ديموقراطي – شارك فيه معظم الشعب – حيث يذكر في الفصل الثالث من الباب الرابع “اختصاصات السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس الشورى، وكيفية سن التشريعات، وهو من يقر الموازنة العامة للدولة، والمعني بالإشراف على السلطة التنفيذية، إذ يتكون من 45 عضواً، 30 منهم منتخبون، بينما يُعين الأمير البقية، وتجري عملية الاقتراع ضمن دوائر انتخابية يتم تحديدها بمرسوم،” كما هو ملخص في مقالنا معالم دستور قطر: من الصياغة إلى التنفيذ.
مفهوم الشورى وتاريخها
يحث القرآن الكريم المسلمين على الشورى، بل سُميت إحدى سوره بالشورى، وفيها يقول الله تعالى ” وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ”.
والله سبحانه تعالى يحث الرسول المعصوم ﷺ على اتباعها، إذ يقول تعالى في سورة آل عمران “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”.
وعلى الرغم من اختلاف الفقهاء حول آليات تنفيذ الشورى، إلا أنهم اجتمعوا على ضرورة تحقيقها، وحتى الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يجتمعوا على آلية واحدة فيمن يخلفهم، فأبوبكر دار حوار بينه وبين الأنصار في سقيفة بني ساعدة ثم بايعوه، وعمر أختاره أبوبكر ورضي به كبار الصحابة، وعثمان كان أحد الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب، وعلي خرج إلى المسجد وجعلها عامة، وأتى إليه الناس وبايعوه.
ولكن من المهم جداً أن نعي بدايةً وأخيراً معنى الشورى وتاريخها، فهي كمفهوم ليست قاصرة على القرآن والأحاديث النبوية، وممارسات الخلفاء الراشدين التي أعقبت الوحي.
قدم قحطان الدوري في كتابه الشورى بين النظرية والتطبيق (2016) أكثر من تعريف لها لأكثر من شخص، إذ قال ابن العربي أنها “الاجتماع على الأمر، ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده”، وقال الطبرسي “هي المفاوضة في الكلام، ليظهر الحق”، وقال المراغي هي “المراجعة في الآراء، ليتبين الصواب منها.”
ويقدم الدوري نماذج لها في الجماعات والحضارات والممالك القديمة التي كان لديها شيوخ ذوو هيبة ونفوذ يجتمعون ويبتون في جميع الأمور الهامة.
مثلا كان لدى ملوك العراق القدماء مجلسين للشورى، أحدهما يتألف من أعيان المملكة وشيوخها، والآخر من الرجال القادرين على حمل السلاح.
والرومان كان لديهم أيضاً مجالس، والسلطة التنفيذية موزعة على موظفين منتخبين، وكان لديهم ما يطلق عليه “السنات” الذي كان يعتبر مثل مجلس الشيوخ له سلطة لإبداء المشورة.
وكان لدى كل قبيلة عربية قبل الإسلام مجلس شورى، يتكون من المتنفذين ورؤساء العوائل فيها، وهذا المجلس ينتخب شيخ القبيلة الذي يكون عادة من أهل العصبية، ويراعى في اختياره تقدم السن، ومن يمتاز بالكرم والشجاعة والحنكة والتجربة والحلم.
وكان الشيخ يستشير مجلس القبيلة، وبدون موافقته لا يستطيع إعلان الحرب أو عقد السلم، وكان عليه أن يسايس أفراد القبيلة، لأن بقاءه منوط بحسن ظنهم به.
وكان لدى أهل مكة ما يسمى بالجماعة، وكانت السلطة في مكة بيد مجلس يطلق عليه الملأ، يتكون من رؤساء العوائل وأهل النفوذ وأصحاب القوة المالية، إذ إنهم كانوا “أهل الحل والعقد”، وكانوا يتدخلون في كل شيء، وقد اشتهروا بجودة آرائهم، ولم تكن للملأ قوة تنفيذية تُفرض بها آراءه، وإنما كانت له قوة أدبية كبيرة تجعل الناس ترضى بقراراته، ولرئيسه أو للشخصية البارزة فيه قول محترم نافذ بينهم.
وقد أنشأ قصي بن كلاب الجد الرابع للرسول ﷺ داراً خاصة لاجتماع الملأ، سميت دار الندوة، وفيها تعقد اجتماعاتهم عند الحاجة، وفيها كانت تُجرى المشاورات، وتعلن الحروب، وتُتخذ تدابير الدفاع، وغير ذلك.
تطوير العمل البرلماني
تستخدم بعض الدول مصطلح برلمان للتعريف بالمجالس المكلفة بالسلطة التشريعية، ويرجع موقع وزارة الدولة لشؤون المجلس الوطني الاتحادي الإماراتي “المعنى اللغوي للبرلمان إلى الفعل الفرنسي (Parler) أي يتكلم أو يتحدث، ومنها اشتق اسم البرلمان (Parliament) بمعنى مكان التحدث أو المكلمة،” مشيراً إلى أنه في الأساس قائم لمناقشة الشؤون العامة والقضايا المختلفة بطريقة جماعية.
ولكنه أصبح لاحقاً يتألف من ممثلين ينوبون عن الشعب “في ممارسة سلطة وضع القوانين ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية، فأصبح يسمى المجلس التشريعي،” أي أن البرلمان أصبح منظومة مؤسسية حديثة تمنح المواطنين فرصة المشاركة السياسية، وفق نظام ديمقراطي نيابي، أي يختارون من يمثلهم ويتولى نيابة عنهم السلطة التشريعية.
والذي تتوقعه الشعوب من هذه البرلمانات أن تكون مواكبة للمشكلات والقضايا التي تطرأ في المجتمع، ولا شك أن المعلومات والبحوث من أهم أدوات تطوير العمل البرلماني وزيادة القدرة المؤسسية، فالمنظومة تحتاج على سبيل المثال إلى إدارات حديثة ومتخصصين مدربين لترتيب وتنظيم وتحليل المعلومات لتقديمها بشكل ملائم للأعضاء.
وعند تحليل مصطلح (أهل الحل والعقد) الذي نراه مستخدماً في نصوص القانون، يبدو أنه يشمل أناساً لديهم الخبرة في جميع المجالات، وهذا ما يقوله عبد الحق دحمان في ورقته المنشورة في مركز المجدد للبحوث والدراسات، فيقول إنه مصطلح “يقُصد به مجموعة من الأشخاص تمثل اتجاهاً لعدد من الفئات المختلفة (العلماء، الفقهاء، شيوخ القبائل، السياسيين، وغير ذلك) التي تحاول في النهاية تشكيل ثلاث سلطات أساسية، هي: العلمية والاجتماعية والسياسية، ويُشترط فيها أن تمثل المكونات المختلفة للأمة، وتعبر عن طموحاتها وخياراتها.”
ويضيف دحمان أن “هناك من يرى أن أهل الحل والعقد هم علماء الشريعة وأولو العلم والخبرة والرأي السديد في كل مجالات الحياة، وهناك من يعتقد أنهم أهل الشوكة كابن تيمية، وهناك من يظن أنه لا بد أن تتوفر فيهم شروط العصبية للقيام بمهامها كابن خلدون، ومنهم أيضاً من يرى أنهم لا بد أن يكونوا مزيجاً بين مختلف الفئات.”
ولكننا نفتقد في بعض نواب مجلس الشورى من لديه هذه الكفاءة العلمية العالية دون التقليل من خبراته ومستواه، بل يجب أن يملك قدرة فذة تمكنه من استقراء ما يجري في الدولة وتحديد احتياجاتها العلمية والاجتماعية والسياسية كما قال دحمان، ولتجنب هذا الإشكال على المجلس تشكيل وحدات متخصصة توفر المعلومات اللازمة لما يحتاجه المجتمع في هذه الجوانب وغيرها من شؤون.
فمجلس الشورى بحاجة إلى ثورة معلوماتية تشمل استخدام التكنولوجيا الحديثة وتطوير نظم إدارة المعلومات لتكون متاحة للنواب والمجتمع بكفاءة عالية وفي الوقت المناسب، وذلك لتطوير القدرات التحليلية للنواب، خاصة في المواضيع المتخصصة والمستجدة، فعلى النواب السعي للاستفادة من عصر المعلومات والتطورات في الاتصالات لمواكبة التحديات ومتابعة أنشطة البرلمان بشكل أفضل.
من جهة أخرى في قطر ما زالت محاضر الجلسات بمجلس الشورى غير متوفرة في أرشيف يُمَكّن الدارسين والباحثين من التعليق على مجريات ما يدور من حوارات، وما يُقدم على موقع المجلس الإلكتروني هو بيانات صحفية وملخصات لا توفر ما تم طرحه ولا كيف تجاوب النواب معه بين مؤيد ومعارض، رغم أن للشعب الحق في قناة تلفزيونية تبث الجلسات بشكل مباشر وتعرض ما يدور داخل القاعة، وفي الوقت الراهن أصبح البث أسهل من ذي قبل مع توفر التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، فمنطقياً أن هؤلاء نواب رشحوا ليتحدثوا باسم الشعب، فكل ما يدور بينهم يجب أن ينشر للجميع.
إن تحديث مجلس الشورى أصبح ضرورة ملحة تتطلب تجاوز تحديات عديدة، وتوليد أفكار هادفة لتحسين إدارة شؤون الدولة وحل مشاكلها، وذلك من خلال تحديثها وفقاً لمقتضيات العصر والمرحلة، وتمكين نخبة المجتمع للمشاركة ومساندة السلطة التشريعية في قراراتها بشكل مدروس، لضمان حقوق الجميع، ولرفع مستوى الوعي من خلال آليات ذات كفاءة عالية.
ونحن بصدد انتخابات تشريعية قادمة في عام 2025، ولا ندري إن كانت ستُجرى كسابقتها، أم أن خطوات أخرى تلوح في الأفق.