لا تتوفر دائماً في المشاريع التجارية الناشئة عناصر العلم والخبرة والتمويل معاً، فقد يتوفر عنصر ويختفي آخر.
وقد وصل الإنسان إلى حلول مختلفة للتغلب على هذه العقبة، منها مثلاً؛ الشراكة مع آخرين، لكنها ليست الخيار الأمثل بالضرورة، خاصة أنها محفوفة في أية لحظة بالخلافات في وجهات نظر الشركاء، أو بالأطماع الشخصية لكل شريك، مما قد ينسف المشروع في بدايته أو بعد حين.
وكمثال عملي، دعنا نفترض أن (س) لديه أموال يرغب في استثمارها في مشروع تجاري، لكنه يخشى من عدم إلمامه بالجوانب الفنية واللوجستية، أو يخشى المخاطرة بطرح منتج جديد أو خدمة جديدة لا يعرفهما أحد، وطبعاً يزداد الأمر صعوبة في ظل وجود منافسين أقوياء يهيمنون بالفعل على السوق.
أما (ص) فلديه بالفعل مشروع ناجح ذو شعبية كبيرة، لذلك يرغب في التوسع الأفقي، لكنه لا يجد التمويل الكافي لتغطية نفقات انتشار جغرافي طموح، يستلزم فتح فروع جديدة، تصاحبها نفقات ضخمة لتغطية إيجارات وتجهيزات ورواتب وحملات ترويجية، أو ربما لا يرغب بالدخول في مغامرة غير محسوبة العواقب في مناطق لا يعرفها، إضافة إلى تحدي آخر يواجهه، على وجه التحديد، تحدٍ ثقافي، فعلاقاته المحدودة في هذه البيئة الجغرافية الجديدة وعدم فهمه العميق لثقافة هذا المجتمع المختلف تحول دون الوصول إلى الفاعلية التي حققها سابقاً في بيئته الأصلية.
هنا تنشأ الحاجة إلى علاقة تعاقدية من نوع خاص بين كل من (س) و(ص)، يُطلق عليها عقد الامتياز التجاري (فرنشايز)، وقد عرَّفه الاتحاد الدولي لحقوق الامتياز IFA بأنه “طريقة لتوزيع المنتجات أو الخدمات، وتشمل المانح للامتياز الذي يحدد علامة تجارية أو اسماً تجارياً للنشاط التجاري ونظاماً لإدارة العمل، والممنوح له الامتياز، الذي يدفع رسوم ولاء وغالباً رسوماً مبدئية للحصول على الحق في القيام بأعمال تجارية تحت اسم ونظام المانح للامتياز. تقنياً، يُعتبر العقد الذي يربط بين الطرفين “الامتياز”، لكن هذا المصطلح يُستخدم بشكل أكثر شيوعاً للإشارة إلى النشاط التجاري الفعلي الذي يديره الممنوح له الامتياز، وتُعرف ممارسة إنشاء وتوزيع العلامة التجارية ونظام الامتياز غالباً بالفرنشايز.”
تاريخ الامتياز التجاري
يقول ماكس فريدمان في مقال له على موقع بيزنيس نيوز ديلي إن مفهوم الامتياز التجاري بشكله الحديث كفكرة تجارية يمتد إلى منتصف القرن العشرين في الولايات المتحدة، ويمكن تتبع أولى أشكال اتفاقيات الامتياز التجاري إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما قام إيزاك سنجر مخترع ماكينة الخياطة بتوقيع عقود امتياز تجاري لتوزيع ماكيناته بشكل أكثر فعالية.
وأضاف أن صناعة الوجبات السريعة لعبت دوراً كبيراً في توسيع تطبيق الامتياز التجاري في القرن العشرين، فشركات مثل ماكدونالدز، التي تأسست عام 1940، وكيه إف سي التي تأسست عام 1952، أصبحتا رائدتين في مجال الامتياز التجاري، حيث قامتا بتطوير أنظمة موحدة لتحضير الطعام، والخدمة، والتسويق، والتي يمكن تكرارها عبر مواقع متعددة، وهو ما سمح لهما بالتوسع السريع والهيمنة على صناعة الوجبات السريعة.
وتعتبر شركة ماكدونالدز مانحة أكبر امتياز تجاري في العالم، فقد بلغت إيراداتها السنوية لعام 2021 أكثر من 23 مليار دولار.
الامتياز التجاري عربياً
لا توجد في معظم الدول العربية قوانين خاصة بتنظيم الامتياز التجاري، فالأمر متروك للاتفاق الموثق بين طرفي العقد، ما لم يصطدم بالقانون المدني في الدولة.
ومن بين دول الخليج تتميز السعودية بقانون واضح ينظم عقود الامتياز التجارية.
فقد راعى قانون نظام الامتياز التجاري في المملكة العربية السعودية لسنة 2019 تنظيم العلاقة بين مانح الامتياز وصاحب الامتياز، وتعزيز الشفافية وحماية حقوق الطرفين، من أجل تعزيز جودة السلع والخدمات في المملكة.
فاستُهِلَّ القانون في بدايته بتوضيح بعض المصطلحات، مثل الامتياز، ومانح الامتياز، وصاحب الامتياز، واتفاقية الامتياز، حيث عرّف الامتياز بأنه منح شخص طبيعي أو اعتباري الحق لشخص طبيعي أو اعتباري آخر في ممارسة أعمال مرتبطة بعلامة تجارية معينة، نظير مقابل مالي أو غير مالي.
كما شجع القانون على أنشطة الامتياز التجاري في المملكة، من خلال وضع إطار قانوني يحمي حقوق الطرفين ويضمن الإفصاح عن الحقوق والواجبات والمخاطر المتعلقة بفرص الامتياز، مما يساعد في اتخاذ قرارات استثمارية صائبة.
ويسري القانون على جميع اتفاقيات الامتياز التي تُنفذ داخل المملكة، مع بعض الاستثناءات مثل الامتيازات الصادرة بموجب مراسيم ملكية أو الاتفاقيات الخاضعة لنظام الوكالات التجارية.
ومن شروط هذا القانون أن تكون هناك ممارسة فعلية لأعمال الامتياز لمدة لا تقل عن سنة واحدة قبل منح الامتياز، ويجب أن يتم تقديم وثيقة الإفصاح لصاحب الامتياز قبل 14 يوماً على الأقل من إبرام الاتفاقية.
ويتضمن القانون التزامات مانح الامتياز مثل تقديم الدعم الفني والتدريب وتحديد طريقة تشغيل الأعمال وتقديم السلع أو الخدمات طوال مدة الاتفاقية، كما يتعين على صاحب الامتياز الحصول على موافقة مانح الامتياز في تغييرات معينة مثل تغيير مكان ممارسة الأعمال أو التعديلات في السلع والخدمات المقدمة.
وقد نص القانون على وجوب أن تكون الاتفاقية مكتوبة باللغة العربية وتوضح جميع التفاصيل المتعلقة بأعمال الامتياز، مثل الحقوق المالية والتزامات التدريب والدعم الفني واستخدام العلامات التجارية.
وفيما يخص التنازل عن اتفاقية الامتياز أو تغيير الشخص المسيطر على صاحب الامتياز، فقد وضع القانون شروطاً لتجديد أو تمديد الاتفاقية، وحدد الحالات التي يمكن فيها إنهاء اتفاقية الامتياز، مثل إخلال أحد الطرفين بالتزاماته، أو توقف صاحب الامتياز عن ممارسة الأعمال.
ولحماية حقوق الطرفين، أعطى القانون الحق للطرف المتضرر بالمطالبة بالتعويض في حال إخلال الطرف الآخر بالتزاماته أو إنهاء الاتفاقية بشكل غير قانوني، مع تحديد فترة زمنية لسماع دعاوى التعويض.
كما وضح القانون تأثير التنازل عن الاتفاقية أو إنهائها على اتفاقية استخدام العلامات التجارية، ويعتبر باطلاً أي اتفاق يتنازل فيه صاحب الامتياز عن حقوقه المنصوص عليها في النظام إلا إذا كان جزءاً من تسوية نهائية.
التحديات السياسية على عقود الامتياز التجاري
قد تطرأ على عقد الامتياز التجاري أعاصير سياسية مثل ما حدث مباشرة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فخرجت من السوق الروسي شركات أمريكية وأوروبية ويابانية وكورية عديدة.
فمثلاً قامت ماكدونالدز ببيع جميع فروعها بأقل من سعر السوق إلى رجل الأعمال الروسي ألكسندر غوفور، وأصبحت مطاعمها تحمل علامة تجارية أخرى تماماً اسمها ڤغوزنو يتوشكا والتي تعني (لذيذ ببسطاة)، وبدلاً من كوكاكولا ظهرت كول كولا، كما انسحبت ستاركبس واستُبدِلت بستار كوفي، ودنكن دونتس حل محلها دونوتو، وأيكيا استُبدِلت بشركة أثاث من روسيا البيضاء اسمها سويد هاوس، وعلى أرفف محلات زارا حلت الملابس التركية.
كان هذا الخروج الغربي المفاجئ من السوق الروسي بمثابة فرصة استثمارية عظيمة، وجدت معها كثير من الشركات المحلية والتركية موطئ قدم لبضائعها، حتى أن بعضها استخدم نفس الهُوية البصرية للعلامة التجارية المنسحبة.
التحديات الأخلاقية على عقود الامتياز التجاري
انطلقت على مستوى العالم الإسلامي دعوات لمقاطعة العلامات التجارية الداعمة اقتصادياً للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين في أعقاب معركة طوفان الأقصى على المستوطنات في غلاف غزة في 7 أكتوبر من عام 2023 وما تلاها من حرب إسرائيلية واسعة ممتدة على قطاع غزة وتدمير عمراني هائل في البنية التحتية والمدارس والمستشفيات والمناطق السكنية وسقوط عشرات آلاف الضحايا من المدنيين والنساء والأطفال.
واشتعلت منصات التواصل الاجتماعي بجدل بين مؤيدي المقاطعة كواجب أخلاقي، ورافضيها الذين يشككون في جدوى المقاطعة ويعظمون من آثارها السلبية على العمالة المحلية التي تعمل في الشركات الممنوح لها امتياز تجاري (فرنشايز).
وقد تراجعت مبيعات عدد من العلامات التجارية الغربية في العالم الإسلامي، وهو ما وضع الممنوح لهم حق الامتياز التجاري الخاص بهذه العلامات التجارية أمام تحد مالي لم يكن في الحسبان.
وانتعشت في المقابل صناعات محلية لم تكن من قبل تحلم بأخذ ولو حصة ضئيلة من السوق أمام شركات عملاقة عابرة للقارات.
مزايا الامتياز التجاري
واحدة من أكبر مزايا الامتياز التجاري الاستفادة من الشهرة المسبقة للعلامة التجارية، فالعمل تحت اسم علامة تجارية معروفة يمكن أن يجذب العملاء على الفور ويقلل من الجهود التسويقية المطلوبة لبناء الوعي بالعلامة التجارية.
وغالباً ما يأتي الامتياز التجاري مع نموذج عمل مثبت وإجراءات تشغيل قياسية، مما يساعد على تقليل المخاطر المرتبطة ببدء عمل جديد، حيث يمكن للممنوح له الامتياز أن يستفيد من خبرة مانح الامتياز والاستراتيجيات المثبتة.
كما يوفر غالباً مانحو الامتياز تدريباً شاملاً ودعماً مستمراً للممنوح لهم على مستوى العمليات اليومية، والتسويق، وخدمة العملاء، وإدارة الشؤون المالية.
ونظراً لأن الامتيازات التجارية تعمل عادةً تحت أسماء معروفة ولها سجلات مثبتة، فإنها قد تكون أكثر قبولاً لدى المؤسسات المالية، مما يسهل على الممنوح له الحصول على التمويل اللازم لبدء وتشغيل العمل.
ويوفر العمل كجزء ضمن شبكة من الممنوح لهم الدعم والمعرفة المشتركة، كما يمكنهم مشاركة الخبرات والموارد، مما يعزز من فرص النجاح.
عيوب الامتياز التجاري
في حين أن الامتياز التجاري يمكن أن يوفر فرصة تجارية قوية، إلا أنه يأتي بتكاليف تأسيسية مرتفعة نسبياً، وتشمل هذه التكاليف الرسوم الأولية للامتياز، بالإضافة إلى الرسوم الجارية مثل النسب المئوية من المبيعات.
ويعني العمل في إطار امتياز تجاري الالتزام بإجراءات وسياسات مانح الامتياز وهو ما قد يكون تحدياً لأولئك الذين يرغبون في الابتكار والإبداع.
نجاح الامتياز التجاري يعتمد بشكل كبير على سمعة مانح الامتياز وأدائه، فإذا ما تعرض مانح الامتياز لمشاكل مالية أو سمعة سلبية، فقد يتأثر الممنوح له أيضاً.
في بعض الأحيان، يمكن أن تنشأ خلافات بين مانح الامتياز والممنوح له حول قضايا معينة مثل الرسوم، حقوق المنطقة، أو ممارسات العمل. يمكن أن يكون إدارة هذه العلاقات تحدياً.
أهم البنود الشائعة في عقود الامتياز التجاري
تعتبر وثيقة الإفصاح عن الامتياز وثيقة قانونية توفر معلومات مفصلة عن مانح الامتياز ونظام الامتياز، وغالباً تكون خلال مهلة معينة قبل توقيع عقد الامتياز أو دفع أي رسوم، وتحتوي وثيقة الإفصاح عن الامتياز على عدد من المعلومات، منها؛ خلفية مانح الامتياز، وتاريخ الشركة، والسجل التجاري، وتفاصيل عن الرسوم الأولية للامتياز، والنسب المئوية في المبيعات، والتكاليف الأخرى التي يجب على الممنوح له دفعها.
كما تتضمن وثيقة الإفصاح الواجبات والمسؤوليات التشغيلية للممنوح له، بما في ذلك حقوق المنطقة، ومتطلبات التشغيل، ويجب على الراغبين في الحصول على امتياز تجاري مراجعة وثيقة الإفصاح عن الامتياز بعناية، وضرورة استشارة محام متخصص في الامتيازات التجارية لضمان الفهم الكامل لشروط عقد الامتياز.
الامتياز التجاري هو فرصة قوية للأفراد الذين يتطلعون إلى دخول عالم الأعمال والاستفادة من نموذج أعمال مثبت وعلامة تجارية معروفة، لكن مع ذلك، يتطلب الامتياز التجاري التزاماً مالياً وتشغيلياً كبيرين، ومن الضروري أن يقوم الراغبون في الحصول على امتياز تجاري ما بإجراء بحث دقيق، وتخطيط مالي، واستشارة قانونية قبل الإقدام على هذه الخطوة.
وبشكل عام لا يوجد مشروع تجاري مضمون بشكل قطعي، وإلا لاستثمر جميع البشر أموالهم فيه قلت أو كثرت.