تناولت في مقالي السابق عن الشفعة وتعريفها، بأنها رخصة تقيّد المالك في التصرف بعقاره، وتتيح للجار الملاصق الحلول محل المشتري فيما دفعه من ثمن، ونصت نهاية المادتين (927) و(933) من القانون المدني القطري، موعدين للشفيع للأخذ بحق الشفعة، 15 يوماً من تاريخ علمه بالبيع، وستة أشهر من تاريخ تسجيل البيع، فأي النصيّن يُطَبق، إذا لم يعلم الشفيع بالبيع ومرت أكثر من ستة أشهر على تسجيل العقد؟
واجهت دعوى مماثلة أمام القضاء القطري، حيث بيِع العقار في مارس 2022، وأعلن الجار رغبته بالأخذ بالشفعة في فبراير 2023، مدعياً عدم علمه بالبيع وتمسّك بنص المادة (927)، وأنه أعلن رغبته خلال الـ 15 يوماً، وحكمت المحكمة الابتدائية بسقوط الحق في الشفعة لمضي المدة.
استأنف الشفيع أمام محكمة الاستئناف التي أوردت في متن قضائها أن على كلٍّ من البائع والمشتري إبلاغ الجار بالبيع، كشرط لسريان ميعاد الستة أشهر المنصوص عليه في المادة (933).
ارتأينا الطعن بالتمييز على الحكم، خاصةً أن تنفيذ منطوق قضاء محكمة الاستئناف سيؤدي إلى مآلات خطيرة من وجهة نظري، وهي :
أولاً: إعلام الجار بواقعة البيع، فأي جارٍ يُبَلّغ، إن كان هناك أكثر من جار ملاصق؟
ثانياً: اهتزاز الثقة بإدارة التسجيل العقاري بفتح المدد أمام الجار الشفيع لأخذ الشفعة لمجرد ادعائه بعدم العلم بالبيع، مما يعني عدم استقرار المعاملات العقارية باعتبار أن العقارات عرضة لارتفاع الأسعار، ولنا أن نتخيّل أن يأتي الجار بعد 10 سنوات من واقعة البيع ويدعي بعدم علمه بها، فكيف له أن يحل محل المشتري فيما دفعه من ثمن قبل 10 سنوات؟
وقد أكد المشرع على حجية ما يرد في السجلات العقارية، ولكن حكم الاستئناف بتلك الطريقة ألغى أي حجية للسجل العقاري.
وقد أجاب العلامة السنهوري على الواقعة الماثلة قبل أكثر من 60 عاماً بقوله: “ويسري الميعاد من اليوم التالي مباشرةً لليوم الذي حصل في التسجيل حتى لا يكون ناقصاً، كان للمشتري أن يتمسك بسقوط الحق في الشفعة وليس عليه إلا أن يثبت أن البيع قد سُجل وأنه مضى على تسجيله أربعة أشهر من غير أن يستعمل الشفيع حقه. فليس عليه أن يثبت أن الشفيع قد علم بالبيع، إذ القانون يفترض افتراضاً غير قابل لإثبات العكس كما قدمنا أن الشفيع قد علِم بالبيع ما دام أنه قد سُجل”.
تلك كانت دفوعنا أمام محكمة التمييز، التي استجابت لها وتصدت مباشرةً للموضوع، والتصدي المباشر هو خروج على القاعدة العامة التي تمنع محكمة التمييز من الفصل في الخصومة، فهي ليست درجة ثالثة من التقاضي.
وتصدي المحكمة المباشر كان سببه وضوح الواقعة محل التنازع للفصل فيها، فأيدت محكمة التمييز الموقرة الحكم الابتدائي وألغت حكم الاستئناف.
الخلاصة، أن أحكام الشفعة هي أحكام خاصة تخالف المبادئ العامة، لذلك سعى المشرع للتضييق على هذه الرخصة، حتى لا تكون وسيلة لتقييد حق المالك في التصرف بملكه، فقُيِدَت بإجراءات ومواعيد، ولا أجمل من وصف بعض رجال القانون الذين تناولوا حق الشفعة ووصفوه بأنه حقٌ مكروه كالطلاق!




