spot_imgspot_img
بيتآراءالفنون والهوية الوطنية

الفنون والهوية الوطنية

لطالما لعبت الفنون والآداب والموسيقى والسينما دوراً حيوياً في تشكيل الهوية الوطنية، لا سيما خلال الحروب والصراعات، فهي وسيلة لتوثيق الأحداث، وترسيخ المفاهيم، وتشكيل وعي الأجيال التي تعقب نشرها.

يرى دانييل بار تال، أستاذ علم النفس الاجتماعي، أن الذاكرة الجمعية تمثل أحد أهم عناصر بناء الهوية الوطنية، حيث تشكل سجلاً مشتركاً للأحداث التاريخية يسهم في تعزيز القيم الوطنية.

أما العالم أويانغ كانغ، فيشير إلى أن الهوية الوطنية ليست مجرد إحساس فردي، بل هي بناء ثقافي واجتماعي يتأثر بالعوامل التاريخية والجغرافية والسياسية.

وقد تناول الفيلسوف مونتسكيو هذا المفهوم، مؤكداً على أن الهوية الوطنية تُورّث عبر الأجيال، من خلال العادات والتقاليد التي تعزز الشعور الجماعي بالانتماء.

إذاً الهوية الوطنية هي مجموعة من السلوكيات والقيم والموروثات الثقافية التي توحد أفراد الأمة وتمنحهم شعوراً بالانتماء، خاصة في أوقات الأزمات والحروب.

خلال العصر الرومانسي برزت أعمال صورت الحروب من منظور الهوية الوطنية، ففي هذه الفترة تخلى الفنانون عن العقلانية المطلقة لعصر التنوير، وبدأوا في التركيز على المشاعر وتجسيد الروح الوطنية.

تعد لوحة عبور واشنطن لنهر ديلاوير (1851) للفنان إيمانويل لوتزه مثالاً بارزاً على ذلك، حيث تجسد اللحظة البطولية التي عبر فيها جورج واشنطن النهر خلال الثورة الأمريكية، مشددة على التضحية والتضامن الوطني، معززةً الشعور بالانتماء الوطني لدى الأمريكيين.

وفي فرنسا، جسدت لوحة بواسي دانجلاس في المؤتمر الوطني (1831) للفنان أوغست فينشون أحد مشاهد الثورة الفرنسية، حيث يقف القائد صامداً وسط الفوضى.

Liberty Leading the People. 1830. Oil on canvas, 260 x 325 cm.

كما أصبحت لوحة الحرية تقود الشعب (1830) لأوجين ديلاكروا رمزاً وطنياً، حيث تتمثل الحرية في امرأة تقود الجماهير وسط مشهد من النضال والتضحية.

وكما هو الحال في الفن التشكيلي، لعب الأدب دوراً محورياً في تعزيز الهوية الوطنية خلال الحروب.

ففي روسيا، ألهمت حرب نابليون العديد من الشعراء، مثل مايكل ليرمونتوف، الذي احتفى في قصيدته بورودينو (1837) ببطولة الجنود الروس في معركة بورودينو عام 1812، والتي أصبحت جزءاً من المناهج التعليمية لترسيخ الوعي الوطني.

بدوره، تناول ألكسندر بوشكين النزاع بين التأثيرات الغربية والهوية الروسية في قصيدته الفارس البرونزي (1833)، مؤكداً على أهمية الحفاظ على التقاليد الوطنية.

وقد ألهمت أعماله أدباءً كباراً مثل تولستوي ودوستويفسكي، اللذين واصلا توظيف الأدب، لترسيخ الشعور بالانتماء.

لعبت الموسيقى أيضاً دوراً محورياً في التعبير عن الهوية الوطنية وتعزيز الوحدة، خاصة في العصر الرومانسي، حيث بدأ المؤلفون في إدخال عناصر من الفولكلور المحلي في أعمالهم.

يُعد البولونيز العسكري لفريدريك شوبان أحد أبرز الأمثلة على ذلك، حيث أصبح رمزاً للنضال البولندي ضد المحتل النازي، وكانت تُبث يومياً خلال الحرب العالمية الثانية عبر الإذاعات البولندية كرسالة مقاومة وطنية.

أما في فرنسا، فقد أصبحت لامارسييز نشيداً وطنياً منذ الثورة الفرنسية، وكانت تُستخدم لتحفيز الجنود.

ورغم الانتقادات التي وُجهت إلى كلماتها العنيفة، فإنها ظلت رمزاً وطنياً مهماً، وتُدرّس في المدارس لترسيخ قيم الوطنية لدى الأجيال الجديدة.

مع تطور السينما في القرن العشرين، أصبحت الأفلام وسيلة فعالة في تعزيز الهوية الوطنية، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، حيث استُخدمت السينما كأداة للدعاية السياسية (البروباغندا) في عدة دول.

في بريطانيا، كان فيلم الأسد يمتلك أجنحة (1939) أول فيلم بروباغندا يهدف إلى رفع معنويات الشعب وإبراز قوة سلاح الجو الملكي.

لكنه تعرض لانتقادات بسبب أسلوبه المباشر وغير الواقعي، مما دفع الحكومة إلى تبني نهج أكثر دقة في الدعاية الحربية.

لذا، كلفت الحكومة المخرج همفري جينينغز بإنتاج فيلم أكثر واقعية، فقدم استمع إلى بريطانيا (1942)، الذي اعتمد أسلوباً شاعرياً في تصوير الحياة اليومية أثناء الحرب، مؤكداً على وحدة الشعب البريطاني وتلاحمه.

كانت الأعمال البريطانية تحاول مجاراة الإنتاج النازي الذين استخدموا السينما كأداة دعاية قوية، ومن أبرز أعمالهم فيلم انتصار الإرادة (1935) الذي أخرجته ليني ريفنشتال، والذي صور أدولف هتلر كقائدٍ شبه إلهي. وقد أثار الفيلم جدلاً أخلاقياً حول دور السينما في التلاعب بالعقول.

فمن الفنون التشكيلية إلى السينما، ومن الأدب إلى الموسيقى، لطالما كانت الهوية الوطنية موضوعاً محورياً في تصوير الحروب.

فقد استخدم الفنانون والمبدعون أعمالهم لتعزيز الانتماء، سواء كان ذلك من خلال اللوحات التاريخية، أو الأغاني الحماسية، أو الأفلام المؤثرة.

أسس العصر الرومانسي مفهوم الهوية الوطنية في الفنون، واستمر هذا النهج حتى اليوم، لتظل هذه الأعمال الفنية شاهدة على قدرة الإبداع على توثيق اللحظات التاريخية، وتعزيز الشعور بالانتماء، وتوحيد الشعوب في مواجهة التحديات.

Yousif Al Hamadi
Yousif Al Hamadihttp://www.qawl.com
مستودع أفكار لا تنتهي، بعضها وجد السبيل إلى أرض الواقع والآخر لا يزال، جميعها في ميدان الإعلام، مدعياً أنه أصبح فوق مستوى التأهيل.
مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية