spot_imgspot_img
بيتأيام عالميةاليوم العالمي للعدالة الجنائية الدولية - 17 يوليو

اليوم العالمي للعدالة الجنائية الدولية – 17 يوليو

في عالم يتسم بالتعقيد والاضطرابات، وتتوالى فيه النزاعات، وتتصاعد فيه وتيرة العنف والانتهاكات، تبرز الحاجة إلى كيان قانوني عالمي غير متحيز لدولة أو نظام قادر على التصدي لتلك الجرائم التي تهز الضمير الإنساني، ومن هنا أتت فكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، لتكون الضامن الأخير لعدم إفلات مرتكبي الجرائم الأكثر خطورة، بجرائمهم التي تثير قلق المجتمع الدولي حيال السلم والأمن العالميين.

يوثق صندوق دعم الناجين من الإبادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا رواية شييما إحدى الناجيات من الإبادة الجماعية في رواندا، قصتها المؤلمة التي بدأت عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها، حيث فقدت معظم أفراد أسرتها خلال المجازر التي ارتكبتها ميليشيات من عرقية الهوتو ضد أقلية التوتسي، حيث لم ينج من أسرتها سوى أربعة من أصل ثمانية أطفال، بينما قُتل والدها ووالدتها، ومنذ عام 1994، تولّت شييما مسؤولية رعاية إخوتها رغم صغر سنها وحاجتها هي نفسها إلى الرعاية.

قبل الكارثة، كانت أسرتها تعيش حياة متوسطة، فقد كان والدها مقاولاً ووالدتها ربة منزل، ولكن كل شيء تغيّر في اليوم التالي لإعلان مقتل الرئيس، إذ اجتاح مسلحون حيهم وبدأوا بارتكاب الفظائع.

شاهدت شييما والدها يُقتل على يد 30 شخصاً تقريبا من ميليشيا انتراهاموي، حيث فصلت الرجال عن النساء والأطفال وذبحتهم بالمناجل، وتروي كيف أنها كانت تسمع صرخات والدها وهو يُضرب حتى الموت، دون أن يملك فرصة للدفاع عن نفسه.

لاحقاً، جاء الدور على النساء، فتعرضن للاغتصاب الجماعي، ثم اقتيدوا إلى نهر قريب حيث أُلقي بالكثيرين ليموتوا غرقاً، ووسط هذه الفوضى، تمكنت شييما من الفرار مع أختها الصغيرة واختبأتا في مستنقع، ثم لجأتا لاحقاً إلى كنيسة مع لاجئين آخرين، ومع مرور الوقت، تمكنتا من الوصول إلى موقع تحت سيطرة قوات تابعة للأمم المتحدة، حيث ظنتا أنهما في مأمن، لكن سرعان ما غادر هؤلاء الأفراد بالمروحيات، وتبدد أمل شييما في أنهم سينقذونهما، تاركين الأبرياء للقتل.

تعاني شييما حتى اليوم من الحزن والوحدة والفقر، وتجد صعوبة حتى في مواصلة تعليمها، ومع ذلك، لا تزال تتذكر كلمات والدها الأخيرة التي دعاهم فيها إلى الشجاعة والحب لبعضهم بعاضاً، وقد باتت شييما تكتب مشاعرها في دفتر خاص، وتلجأ إلى كتابة الشعر كوسيلة للتنفيس، وتشارك همومها مع أيتام آخرين في مخيمات التضامن، ورغم الألم، تحتفظ بالأمل في نشر قصائدها يوماً ما، وتواصل النضال لتوفير الحياة لإخوتها، بينما تحمل ندوب الإبادة في قلبها وذاكرتها.

كانت هذه واحدة من المشاهد الحقيقية للإبادة الجماعية في رواندا، التي وقعت بين أبريل ويوليو من عام 1994، وقُتل فيها ما يقرب من 800 ألف شخص من أقلية التوتسي على يد متطرفين من الأغلبية العرقية الهوتو.

في جهةٍ أخرى من العالم، وفي حدود عام تقريباً من وقوع مجازر رواندا، وقعت مجزرة سريبرينيتسا في يوليو من عام 1995، التي ارتكبتها القوات الصربية ضد مسلمي البوسنة، حيث أسفرت عن مقتل أكثر من 8000 رجل وصبي خلال أيام معدودة، رغم أن البلدة كانت هي كذلك تحت حماية قوات الأمم المتحدة التي انسحبت أمام القوات الصربية دون أدنى مقاومة.

مثل هذه القصص سبقتها مجاز كمبوديا خلال حكم الخمير الحمر في سبعينيات القرن العشرين التي مات جرائها أكثر من مليوني إنسان في معسكرات الموت، حيث لم يكن هناك قانون رادع، ولا محاسبة، فقط ضحايا وجناة يختفون في الظلال.

خلف كل صورة لطفل مكسور أو أمّ مكلومة، كان هناك سؤال واحد يتردّد: أين العدالة؟

من رحم هذه المآسي، بدأ الحلم يتشكّل بمحكمة دولية دائمة، لا تخضع لمزاج الدول أو تقلبات السياسة، تكون صوتاً لمن لا صوت له، وأداة لملاحقة الطغاة والجناة حتى لو فرّوا عبر الحدود أو من قارة إلى أخرى.

في روما، بين السابع عشر والثامن عشر من يوليو عام 1998، اجتمع ممثلو مئة وعشرين دولة في قاعة المؤتمر الدولي، وما إن رُفع التصويت بالموافقة حتى انفجرت القاعة بالتصفيق والعناق والدموع. 

كان ذلك الإعلان الرسمي عن ولادة المحكمة الجنائية الدولية، المؤسسة التي طالما حُلم بها، وها هي تصبح أخيراً حقيقة. 

وكما وصف الدبلوماسي الأمريكي جون واشبورن في ورقته المنشورة في مجلة السلام للقانون الدولي بعنوان التفاوض على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ووضع التشريعات الدولية في القرن الحادي والعشرين، تلك اللحظة بأنها تجلٍّ دولي، مضيفاً أن “كثيرين من الحاضرين رأوا فيها تحولاً جذرياً في مستقبل القانون الدولي”. 

هذه اللحظة توجت الجهود التي استمرت لسنوات، ففي عام 1994، أنهت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة عملها على أول مشروع متكامل لنظام أساسي لمحكمة جنائية دولية دائمة. 

وكما ورد في تقرير اللجنة لعام 1994، فإن الغاية من المحكمة هي “توفير ساحة عادلة لمحاكمة الأفراد المتهمين بجرائم ذات طابع دولي، في حال عجزت الأنظمة القضائية الوطنية عن ذلك”. 

وقد جاءت تلك المسودة في ستين مادة شملت كل الجوانب المتعلقة بتأسيس المحكمة، واختصاصها، وبنيتها الإدارية، وآليات تعاونها مع الدول.

ثم، في عام 1995، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 50/46، الذي أنشأ لجنة تحضيرية، لصياغة نص موحد لنظام المحكمة، واستمرت اللجنة في عملها تسعة عشر أسبوعاً، وخرجت بمسودة مكونة من 116 مادة محاطة بأكثر من 1700 قوس من النصوص المختلف عليها، وهو ما وصفه واشبورن بأنه “أحد أكثر التمارين الدبلوماسية تعقيداً في تاريخ الأمم المتحدة”.

وفي يونيو 1998، اجتمع مندوبو الدول في مؤتمر روما الدبلوماسي، وكان الهدف إنهاء التفاوض واعتماد نظام المحكمة خلال خمسة أسابيع، وعلى الرغم من المعارضة الشديدة من دول كبرى مثل الولايات المتحدة والصين، نجحت الدول المشاركة في التوصل إلى توافق. 

النظام الأساسي الذي أُقرّ في روما، والمعروف باسم نظام روما الأساسي، تضمن 128 مادة أعلنت عن إنشاء محكمة دائمة مقرها لاهاي بهولندا، تختص بأربعة أنواع من الجرائم، وهي الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان. 

وتنص المادة الأولى من النظام، وفقاً لما ورد في الوثيقة الرسمية، على أن المحكمة “مؤسسة دائمة تختص بمحاكمة أخطر الجرائم التي تهم المجتمع الدولي بأسره، وتُكمل السلطات القضائية الوطنية”.

في مقدمة النظام، ذكرت الدول الموقعة أن ملايين الأطفال والنساء والرجال كانوا ضحايا فظائع لا توصف، تهز ضمير البشرية، وشددت على أن من واجب كل دولة أن تمارس اختصاصها الجنائي ضد من يرتكب الجرائم الدولية. 

ومن ثم، فإن المحكمة وُلدت من وعي تاريخي متأخر، ولكنه ضروري، كما كتب البروفيسور يرينك باسيوني في مقدمة كتابه عن المحكمة: “إن تأسيس المحكمة جاء نتيجة تراكم طويل من الفشل في محاسبة الجناة، وتبلور إرادة دولية لإنهاء الإفلات من العقاب”.

وهكذا، في 17 يوليو 1998، وُقّع نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يمثل الوثيقة التأسيسية للمحكمة، معلناً ولادتها في محاولة جادة لإنهاء عصر الإفلات من العقاب، وبداية مرحلة جديدة من العدالة العابرة للحدود.

لم تكن نشأة المحكمة وليدة صدفة، بل هي تتويج لمسيرة طويلة من الجهود الدولية الرامية إلى إرساء نظام قانوني دولي فعال يحاسب الأفراد على الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وجريمة العدوان.

تعود جذور فكرة إنشاء هيئة قضائية دولية لمحاكمة الأفراد إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً مع محاكمات نورمبرغ وطوكيو التي حاسبت مرتكبي جرائم الحرب، إلا أن هذه المحاكمات كانت ذات طبيعة مؤقتة ومخصصة لمتهمين بعينهم.

مع مرور الوقت، وتصاعد وتيرة الصراعات المسلحة في التسعينيات من القرن العشرين، وما صاحبها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في يوغوسلافيا السابقة ورواندا، أدرك المجتمع الدولي الحاجة الملحة إلى محكمة دائمة ومستقلة.

كانت عملية التفاوض على نظام روما الأساسي معقدة، حيث واجهت العديد من التحديات والخلافات حول صلاحيات المحكمة، واختصاصها، وعلاقتها بالسيادة الوطنية للدول، لكنها في النهاية، تمكنت 60 دولة من التوصل إلى توافق سمح بإنشاء هذه المؤسسة القضائية الفريدة، التي دخلت حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002، لتبدأ المحكمة بذلك عملها رسمياً، دون أن يكون لها أثر رجعي على الجرائم السابقة لهذا التاريخ.

وقد وضح موقع الأمم المتحدة الفرق بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ففي “حين أن محكمة العدل الدولية هي أحد أجهزة الأمم المتحدة، فإن المحكمة الجنائية الدولية مستقلة قانونا عن الأمم المتحدة، على الرغم من تأييد الجمعية العامة لها”. 

وأضاف أنه “على الرغم من أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة ليست جميعها أطرافا في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه يمكن للمحكمة إجراء تحقيقات وفتح قضايا تتعلق بالجرائم المزعومة المرتكبة على أراضي دولة طرف أو من قبل مواطن دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية أو دولة قبلت اختصاصها”.

وقد حددت المادة رقم 5 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان”.

قوانين الحرب في إيجاز وفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر

حيث فصّلت أنواع جريمة الإبادة الجماعية في المادة رقم 6 بأنها  أي ارتكاب لأفعال تهدف إلى القضاء الكلي أو الجزئي على جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وتشمل قتل أفراد هذه الجماعة، أو إلحاق الأذى الجسدي أو العقلي الجسيم بهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف معيشية تؤدي إلى إفنائهم، أو فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب داخل الجماعة، أو نقل أطفالهم بالقوة إلى جماعة أخرى.

كما عرّفت المادة رقم 7 مفهوم الجرائم ضد الإنسانية بأنها أي هجوم واسع النطاق أو ممنهج ضد جماعة ما لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية أو إثنية أو ثقافية أو متعلقة بنوع الجنس، وتشمل هذه الأفعال: القتل العمد، أو الإبادة، أو الاسترقاق، أو الإبعاد، أو النقل القسري، أو السجن أو الحرمان الشديد من الحرية بشكل مخالف للقانون الدولي، أو التعذيب، أو العنف الجنسي مثل الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الحمل بالإكراه أو التعقيم القسري، أو الاختفاء القسري، أو الفصل العنصري، أو أي أفعال لا إنسانية أخرى تتسبباً عمداً في معاناة شديدة أو أذى خطير جسدي أو عقلي.

5 حقائق عن المحكمة الجنائية الدولية

أما المادة رقم 8 فقد بيّنت مفهوم جرائم الحرب بأنها أفعال جسيمة تُرتكب ضمن خطة أو سياسة عامة أو بشكل واسع النطاق أثناء النزاعات المسلحة، وتشمل هذه الجرائم انتهاكات خطيرة لاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وبروتوكولاتها اللاحقة، مثل القتل العمد، أو التعذيب، أو المعاملة اللاإنسانية، أو التجارب البيولوجية، أو الإبعاد أو الحبس غير المشروع، أو أخذ الرهائن. 

كما تشمل أيضاً استهداف المدنيين أو الممتلكات المدنية، أو مهاجمة البعثات الإنسانية أو قوات حفظ السلام، أو شن هجمات تتسبب في أضرار مفرطة للمدنيين أو للبيئة، أو قتل أو إصابة مقاتلين مستسلمين، أو استخدام رموز محمية مثل شارات سيارات الإسعاف أو الصحفيين بشكل مخادع، أو نقل سكان إلى أراضٍ محتلة أو ترحيلهم منها.

وكذلك شملت الاعتداء على أماكن دينية أو طبية أو تعليمية، أو إجراء تجارب طبية قسرية، أو القتل غدراً، أو تدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية، أو نهب المدن، أو استخدام أسلحة محظورة مثل السموم أو الغازات أو الرصاصات المتشظية، أو استخدام وسائل قتال عشوائية، أو الاعتداء على كرامة الأشخاص، أو الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي، أو استغلال المدنيين كدروع بشرية، أو الهجوم المتعمد على المرافق طبية أو الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي.

وتعمل المحكمة على مبدأ التكامل، بمعنى أنها ليست بديلاً للأنظمة القضائية الوطنية، بل هي مكملة لها، بل لا يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها إلا عندما تكون الدول غير راغبة أو غير قادرة حقاً على إجراء التحقيقات أو المحاكمات بشأن الجرائم الواقعة ضمن اختصاص المحكمة، هذا المبدأ يهدف إلى احترام سيادة الدول وفي نفس الوقت ضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم آنفة الذكر من العدالة. 

حيث بينت المادة رقم 17 أن الدعوى تُعد  غير مقبولة أمام المحكمة الجنائية الدولية إذا كانت دولة لها ولاية عليها تتولى التحقيق أو المحاكمة، ما لم تكن تلك الدولة غير راغبة أو غير قادرة على ذلك.

كما تُرفض الدعوى إذا كانت الدولة قد أجرت تحقيقاً وقررت عدم المقاضاة، بشرط ألا يكون القرار ناتجاً عن عدم رغبة أو عجز حقيقي، وترفض أيضاً إذا كان الشخص قد حوكم سابقًا على نفس السلوك، أو إذا لم تكن القضية بالغة الخطورة لتستدعي تدخل المحكمة.

ولمعرفة مدى عدم رغبة الدولة، تنظر المحكمة في ما إذا كانت الإجراءات تهدف لحماية الشخص من المسؤولية، أو إذا كان هناك تأخير غير مبرر، أو إذا كانت الإجراءات غير مستقلة أو غير نزيهة، أما في حالة عدم القدرة، فتتحقق المحكمة مما إذا كان هناك انهيار كلي أو جوهري في النظام القضائي للدولة أو عدم توفر الإمكانيات اللازمة لملاحقة المتهم وجمع الأدلة.

وعلى الرغم من أهمية الدور الذي تلعبه المحكمة في تعزيز العدالة الدولية، إلا أنها تواجه العديد من التحديات التي تؤثر على فعاليتها وقدرتها على تحقيق أهدافها، إذ أنها تعتمد بشكل كبير على تعاون الدول في القبض على المشتبه بهم وتسليمهم، وجمع الأدلة، وتنفيذ الأحكام، ففي كثير من الحالات، تواجه المحكمة صعوبات كبيرة في الحصول على هذا التعاون، خاصة من الدول التي لا تعترف باختصاص المحكمة أو التي لديها مصالح سياسية تتعارض مع التحقيقات التي تجريها المحكمة.

كما تتعرض المحكمة لضغوط سياسية من قبل بعض الدول، خاصة تلك التي قد تكون لديها رغبة في حماية مواطنيها من الملاحقة القضائية، أو التي تعارض مبدأ العدالة الجنائية الدولية.

ليس هذا فحسب، بل تواجه المحكمة تحديات مالية، حيث تعتمد بشكل كبير على المساهمات الطوعية من الدول الأطراف، مما قد يؤثر على قدرتها على إجراء التحقيقات والمحاكمات بشكل فعال.

ترمب يوقع أمراً تنفيذياً بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية

وللأسف، فإن اختصاص المحكمة على الجرائم الأربع المذكورة آنفاً يعني أن هناك العديد من الجرائم الخطيرة الأخرى التي لا تندرج ضمن صلاحياتها.

كما تثير قضية الحصانة لرؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين إشكالية كبيرة، حيث يرى البعض أن المحكمة يجب أن تكون قادرة على محاكمة هؤلاء الأفراد، بينما يرى آخرون أن حصانتهم ضرورية لاستقرار الدول.

وقد حققت المحكمة الجنائية الدولية بعض الإنجازات الهامة، منها إصدار أحكام بالإدانة ضد عدد من المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دول مثل الكونغو الديمقراطية، ومالي، وجمهورية إفريقيا الوسطى، كما ساهمت في تعزيز ثقافة عدم الإفلات من العقاب، وأرسلت رسالة واضحة بأن مرتكبي الجرائم الفظيعة لن يفلتوا من العدالة وتولي المحكمة اهتماماً خاصاً بحماية الضحايا والشهود، وتقدم لهم الدعم النفسي.

ومن أمثلة ذلك ما نشره موقع المحكمة الجنائية الدولية حول محاكمة علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بعلي كشيب أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب دوره كقائد لميليشيا الجنجويد في دارفور في السودان، وقد بدأت محاكمته في 5 أبريل 2022، وهو متهم بـ 31 تهمة تشمل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من بينها القتل العمد، والتعذيب، والاغتصاب، والنقل القسري، والنهب، وتدمير الممتلكات، واضطهاد المدنيين.

وفي حال إدانته، لا يمكن الحكم عليه بالإعدام، لكن المحكمة يمكنها أن تصدر حكماً بالسجن حتى 30 سنة أو مدى الحياة، بالإضافة إلى الغرامات ومصادرة الممتلكات.

ويشارك المجني عليهم في المحاكمة من خلال محامين، ويبلغ عددهم حتى الآن 142، ولهم الحق في تقديم المذكرات، استجواب الشهود، وإبداء آرائهم في القضايا القانونية والوقائعية، كما يمكنهم التقدم بطلبات للحصول على جبر الضرر، مثل التعويض المالي، أو إعادة الممتلكات، أو الاعتذار الرسمي.

ويتولى القضية ثلاث قاضيات، هنّ: رئيسة المحكمة جوانا كورنر، ورين ألابيني غانسو، وألثيا وندسور، وهن يتمتعن بخبرة قضائية واسعة في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان.

جانب من محاكمة علي كوشيب قائد في ميليشيات الجنجويد

ووفقا لموقع المحكمة الجنائية الدولية، فقد أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى لديها بالإجماع بتاريخ 21 نوفمبر 2024 قرارين رُفضت بموجبهما الطعون المقدمة من دولة إسرائيل بشأن اختصاص المحكمة بالحالة في دولة فلسطين، كما أصدرت الدائرة أمرين بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.

حيث رفضت المحكمة طعن إسرائيل في اختصاصها العام على الحالة في فلسطين أو اختصاصها على المواطنين الإسرائيليين، معتبرة أن الطعن سابق لأوانه وأن المحكمة تمارس اختصاصها بناء على الاختصاص الإقليمي لفلسطين.

كما رفضت المحكمة طلب إسرائيل بإصدار إخطار جديد ببدء التحقيق، مؤكدة أن إسرائيل قد تم إخطارها في عام 2021 وأن نطاق التحقيق لم يتغير، وقد أصدرت المحكمة أمري القبض على نتنياهو وغالانت بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب منذ 8 أكتوبر 2023.

هذه الجرائم وفقاً للمحكمة الجنائية الدولية تشمل التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والقتل، والاضطهاد، والأفعال اللاإنسانية الأخرى، بالإضافة إلى تعمد توجيه هجوم ضد السكان المدنيين.

كما أكدت المحكمة أن القانون الدولي الإنساني ينطبق على النزاع المسلح بين إسرائيل وفلسطين، مشيرة إلى أن القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية لم تكن مبررة عسكرياً وأن الزيادات في المساعدات كانت غالباً نتيجة لضغوط دولية.

وقد أعلنت دولة فلسطين قبولها اختصاص المحكمة في 2015، وأحالت الحالة إلى المدعي العام في 2018، وأُعلن عن فتح التحقيق في 2021.

مدعي المحكمة الجنائية الدولية خان بشأن طلب مذكرات توقيف في سياق الحالة في دولة فلسطين

على الرغم من التحديات، تظل المحكمة الجنائية الدولية صرحاً مهماً للعدالة الدولية، فوجودها يمثل رسالة قوية بأن المجتمع الدولي لن يتسامح مع الجرائم الأكثر خطورة، وأن مرتكبيها سيحاسبون عاجلاً أم آجلاً.

ولتعزيز فعالية المحكمة في المستقبل، يجب على الدول الأطراف تعزيز تعاونها معها، وتوفير الموارد المالية الكافية، والالتزام بمبادئ نظام روما الأساسي، كما يجب على المحكمة أن تسعى جاهدة لتعزيز الشفافية والكفاءة في عملها، والتعامل مع الانتقادات بشكل بناء.

وفي ظل عالم يشهد تحولات جيوسياسية سريعة، وديناميكيات صراع متغيرة، يزداد الدور الحيوي للمحكمة الجنائية الدولية كآلية لإنفاذ القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، إذ أن قدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة، وتوسيع نطاق تأثيرها، وضمان المساءلة في وجه الجرائم الفظيعة، ستكون حاسمة في بناء عالم أكثر عدلاً وسلاماً.

إن المحكمة الجنائية الدولية ليست مجرد مؤسسة قضائية، بل هي رمز للأمل بأن العدالة ستنتصر في النهاية، وأن ضحايا الجرائم الفظيعة لن ينسوا.

تمثل المحكمة الجنائية الدولية نقطة تحول في تاريخ العدالة الدولية، حيث نقلت مفهوم المساءلة عن الجرائم الفظيعة من حيز النظريات إلى واقع ملموس، وذلك على الرغم من أن طريقها لم يكن خالياً من العقبات، إلا أن المحكمة قد أثبتت قدرتها على لعب دور محوري في محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية.

اليوم، وفقاً لموقع المحكمة الجنائية الدولية لديها أكثر من 900 موظف من حوالي 100 دولة، وتعتمد ست لغات رسمية هي: الإنجليزية، والفرنسية، والعربية، والصينية، والروسية، والإسبانية، ويقع مقرها الرئيسي في لاهاي بهولندا، كما أن لها مكتب ارتباط لدى الأمم المتحدة في نيويورك، إلى جانب ستة مكاتب ميدانية في كينشاسا وبونيا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكمبالا في أوغندا، وبانغي في جمهورية إفريقيا الوسطى، وأبيدجان في ساحل العاج، وباماكو في مالي، وكييف في أوكرانيا. وتستخدم لغتين للعمل هما الإنجليزية والفرنسية، وتبلغ ميزانيتها لعام 2025 مبلغاً متواضعاً يُقدر بحوالي 195 مليون يورو.

وحتى الآن، نظرت المحكمة في 33 قضية، شملت بعض القضايا أكثر من مشتبه به، وقد أصدر القضاة حتى تاريخه 61 مذكرة توقيف، وبفضل تعاون الدول، تم احتجاز 22 شخصا منهم، وقدموا للمثول أمام المحكمة، بينما لا يزال 30 شخصاً فارين من العدالة، وتم إسقاط التهم عن 8 أشخاص بسبب وفاتهم، كما أصدر القضاة 9 مذكرات استدعاء للمثول، و11 حكماً بالإدانة، و4 أحكام بالبراءة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية