spot_imgspot_img
بيتتاريخحقوق الملكية الفكرية الإسلامية المهدرة

حقوق الملكية الفكرية الإسلامية المهدرة

كأقدم مكتبة إلكترونية في العالم، توفّر مجاناً أكثر من 75 ألف كتاب من الملكية العامة، أسسها مايكل هارت في الولايات المتحدة في عام 1971 لتكون مشروع حياته لنشر الأعمال الثقافية رقمياً، وأطلق عليها اسم مشروع غوتنبرغ تيمّناً بالألماني يوهان غوتنبرغ، مخترع المطبعة في نحو عام 1440 في مدينة ماينتس الألمانية.

وقد أحدثت مطبعة غوتنبرغ ثورة في نشر المعرفة، وساهمت بشكل مباشر في عصر النهضة، وما يُعرف بالإصلاح الديني في أوروبا، وولادة مفهوم حقوق المؤلف لاحقاً، بسبب سهولة نشر الكتب دون نسخها يدوياً.

ما قادني إلى هذا الموقع هو أنني كنت أبحث عن النسخة الأصلية باللغة الألمانية لكتاب الديوان الشرقي للمؤلف الغربي (1819) لأيقونة الأدب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته، وذلك بعد أن لفت انتباهي إلى تأثره الشديد بالأدب العربي المفكّر الكويتي مهنا المهنا في لقاء له على قناة بودكاست نوعي في يوتيوب بعنوان المذاهب والسلفية، وعن الغرب، وسندريلا.

لكن الأعجب هو ما أسهب المهنا في ذكره من أمثلة تاريخية تؤكد على تأثر الأوروبيين بفلسفة وعلوم وفنون المسلمين في الأندلس، وحالات نسخ تكاد تصل إلى حد التطابق دون ذكر لمصادرها الأصلية، على الرغم من مخالفة ذلك لما ورد في قانون النظام الأساسي بشأن البراءات الصناعية في البندقية في عام 1474 الذي ينص على أن “أي شخص في هذه المدينة يصنع أي وسيلة جديدة مبتكرة لم تُصنع من قبل في أرجاء دولتنا، فإنه، ما إن يُتقنها بحيث يمكن استخدامها وتطبيقها، عليه أن يُخطر بذلك مكتب البروفيديتوري دي كومون، ويُحظر لمدة عشر سنوات على أي شخص آخر، في أي من أقاليمنا أو أراضينا، أن يصنع وسيلة على هيئة ومثال تلك الوسيلة دون موافقة وترخيص من مؤلفها”.

ويوضح القانون أنه “إذا أقدم مع ذلك أحد على صنعها، فسيكون للمؤلف والمخترع الحق في أن يستدعيه أمام أي مكتب من مكاتب هذه المدينة، والتي ستجبر ذلك المعتدي على دفع مئة دوكات، وعلى الفور إتلاف الوسيلة المصنوعة”، هذه الغرامة الباهظة تعادل 350 غراماً من الذهب.

في المذاهب والسلفية، وعن الغرب، وسندريلا | أ. مهنا المهنا

ويؤيد كلام المهنا ما ورد في موقع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) من أن مدينة البندقية الإيطالية كانت في القرن الخامس عشر “من أهم مراكز الفنون والعلوم والتبادلات التجارية، وكان مخترعون كثيرون يعيشون في البندقية في تلك الفترة، وفي العام 1474 أصدرت الحكومة أول قانون لحماية حقوق المؤلفين”.

مطبعة غوتنبرغ خليفة الطباعة بالكتل الخشبية في الفيوم 

ما أثار دهشتي في حديث المهنا خلال المقابلة هو استشهاده بما ورد في كتاب الحُلة السيراء لابن الأنبار في القرن الحادي عشر، من أن المسلمين في العصر العباسي كانوا قد توصلوا قبل ميلاد غوتنبرغ بعدة قرون إلى وسائل لطباعة مراسيم الخليفة بكتل خشبية محفور عليها النص معكوساً كما في المرآة، لتعلق على الأسوار.

وهو ما أشار إليه المستشرق النمساوي جوزيف فون كاراباسيك في كتابه الورق العربي (1887) الذي يقول فيه إنه أثناء فحص مجموعة من وثائق البردي والورق التي عُثر عليها في واحة الفيّوم بمصر، توصّل إلى اكتشاف مذهل، عبارة عن قصاصات من نصوص عربية مطبوعة بالكتل الخشبية.

وتعود هذه النصوص إلى القرن العاشر الميلادي، وبعضها مطبوع بلونين، وكلّها تُظهر تنوعاً في الخطوط، من الكوفي إلى النسخي الأنيق، ومن بين الأمثلة نص مطبوع على ظرف من الكتان، وآخر يضمّ الآيات الست الأولى من سورة سبأ.

تكمن أهمية هذه القصاصات في كونها مطبوعة، وهو ما يدحض الاعتقاد الشائع بأن العالم الإسلامي أعاق انتقال الطباعة من الشرق الأقصى إلى أوروبا، بل على العكس، تُوحي قصاصات الفيوم بأن المسلمين ربما كانوا الوسيط الذي نقل بدايات تقنيات الطباعة إلى أوروبا، وإذا كان المسلمون قد قبلوا الأختام والنقود، فلماذا يرفضون الطباعة بالكتل الخشبية؟

ومع أن شواهد أخرى ظهرت لاحقاً في مكتبات أوروبية وأمريكية، كان من المفترض أن تُحدث ثورة في النظريات المتعلقة بتطوّر الطباعة، إلا أن هذا الاكتشاف لم يُنشر على نطاق واسع وظل موضوعاً للنقاش في دائرة ضيقة من المتخصّصين.

من اخترع الطباعة؟ | ابتكار الخلافة العباسية المنسية

ديكارت والغزالي

يؤكد المهنا في مقابلته على أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت تأثر بمنهج أبي حامد الغزالي في الشك طمعاً في الوصول إلى الحق. 

ويؤكد على هذا ما يقوله د. ناظم غلام، الأستاذ المشارك في قسم الفقه بجامعة جنوب أفريقيا في ورقة بعنوان تأثير الغزالي وابن سينا على ديكارت من أن التراث الفلسفي للمسلمين له إسهامات واضحة في تطوّر الفكر الإنساني، خصوصاً من خلال شخصيات بارزة مثل أبي حامد الغزالي وابن سينا، وقد امتد أثر هذين المفكرين إلى أوروبا في العصور الوسطى من خلال الترجمات اللاتينية، لتصل أصداؤهما إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة في الغرب، الذي ولد بعد وفاة الغزالي وابن سينا بأكثر من خمسة قرون، وعاش حتى منتصف القرن السابع عشر.

وقد اعتمد ديكارت على الشك كأداة فلسفية، فبدأ في كتابه التأملات في الفلسفة الأولى (1641) بالتشكيك في الحواس والعالم الخارجي وحتى في الرياضيات، إلى أن انتهى إلى يقين لا يُنكر هو لخصه في عبارته الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود”.

وهو ما سبقه إليه أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي الجلال (1109)، إذ أنكر موثوقية الحواس والعقل معاً حتى وصل إلى اليقين الذي لا يُنال إلا من نور إلهي، لكن الاختلاف أن الغزالي ختم مساره بالإيمان الديني، بينما وصل ديكارت إلى يقين عقلي، لكن التشابه بين التجربتين يوضح إمكانية تأثير الغزالي على ديكارت.

ويستطرد غلام عن ابن سينا حيث يقول إنه كان له أثر واضح في بلورة فكرة تمييز النفس عن الجسد من خلال ما أطلق عليه تجربة الرجل الطائر التي افترض فيها وجود إنسان كامل الوعي لكنه معزول تماماً عن الحواس والعالم الخارجي، ومع ذلك يبقى مدركاً لذاته، هذه التجربة سبقت بقرون أطروحة ديكارت حول ازدواجية العقل والجسد، وأساسها أن الوعي بالذات مستقل عن الجسد المادي، وهذا الطرح يُعد انعكاساً لمفهوم الكوجيتو عند ديكارت الذي يرى أن الوعي بالذات المفكرة مستقل عن العالم الخارجي والجسد. 

ويضيف غلام أن الغزالي وابن سينا وديكارت يلتقون في هاجسهم المشترك بالبحث عن اليقين، فالغزالي رأى أنه لا يُنال إلا بالوحي، بينما أكّد ابن سينا على قدرة العقل في إدراك حقائق ميتافيزيقية عبر التأمل، في حين جمع ديكارت بين العقلانية والإيمان، معتبراً أن بعض الحقائق تُدرك بالعقل وأخرى بالوحي، هذا القلق المشترك حول حدود الحواس والعقل يوضح أن الثلاثة سعوا إلى تجاوز الشكوك للوصول إلى أساس صلب للمعرفة.

وقد انتشرت في أوروبا بعد ترجمتها إلى اللاتينية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أعمال ابن سينا مثل كتاب الشفاء (1027)، وكذلك كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة (1095) الذي وجه فيه نقداً شديداً للفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية، مثل الفارابي وابن سينا، بعد أن تجاوزوا من وجهة نظره حدود العقل المشروع شرعاً في بعض المسائل، وتبنّوا آراء تتعارض مع العقيدة الإسلامية.

وقد شكلت هذه الترجمات جسراً نقل أفكار المسلمين الفلسفية إلى أوروبا في القرن الثاني عشر خاصة في مدينة طليطلة الإسبانية المعروفة اليوم باسم توليدو، ومنها إلى فلاسفة النهضة الأوروبية ثم إلى ديكارت، مما يؤكد أن الفلسفة ليست جهداً منعزلاً بل عملية حوارية عابرة للثقافات، فالشك عند الغزالي ألهم منهج الشك عند ديكارت، وتجربة ابن سينا تنبأت بالازدواجية الديكارتية، هذا يبرهن على أن كثيراً من لبنات الفلسفة الحديثة لم تُبنَ في فراغ أوروبي، بل كانت ثمرة تفاعل طويل مع أفكار الفلاسفة المسلمين. 

أثر الموشحات الأندلسية على شكسبير

يقارن المهنا في مقابلته بين الموشحات الأندلسية وسوناتات شكسبير التي يرى أنها الملهم الأول لكثير من أعمال شكسبير.

ويؤكد على هذا الطرح ما أشار إليه مقال في موقع ذا بن ماغازين بعنوان الأدب الأندلسي والغرب من أن الموشح كان شكلاً جديداً من الشعر الغنائي الفصيح ظهر في القرن التاسع، وكان أندلسياً خالصاً يُنسب إلى مقدَّم، الشاعر الضرير من قرية قُبرة قرب قرطبة، وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، رابع أمراء بني أمية في الأندلس، أما الزجل، وهو اختراع أندلسي آخر، فكان شعراً غنائياً بالعامية القرطبية، ذاع بفضل ابن قزمان، وقد ازدهر هذان الشكلان في بلاط الأندلس، ولم يُعرَفا في المشرق العربي إلا بعد قرون.

ويتميز الموشح الأندلسي بتنوع الأوزان والقوافي بشكل موسيقي، يتناسب مع الغناء، وصُمم ليُؤدى مصحوباً بالآلات الموسيقية، وقد تكون الخرجة بلغة مختلفة فتُحدث تنويعاً موسيقياً ودلالياً، بخلاف القصيدة العربية الكلاسيكية التي تُلقى شفهياً دون غناء.

وعلى يد الشاعر الصقلي يعقوبو دا لنتيني حدث تطور مهم في شكل الغزل في صقلية، إذ ابتكر السونيت، وهو شكل شعري غزلي يتكوّن من أربعة عشر سطراً ويتبع نظاماً صارماً للقافية، مستلهماً بعض سماته من الموشحات الأندلسية، وقد غذّى هذا الشكلُ غنائية التروبادور، تلك الحركة الشعرية الغنائية التي ظهرت في جنوب فرنسا في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي واستمرت حتى القرن الرابع عشر، ثم تبنّاه دانتي أليغييري، الشاعر والفيلسوف الإيطالي وصاحب ملحمة الكوميديا الإلهية، وفرانشيسكو بترارك صاحب ديوان الأغاني، وبعدهما جاء وليم شكسبير، الذي صاغ نحو 155 سوناتاً تحمل ملامح واضحة من الغزل الأندلسي، رغم اختلاف الزمان والمكان.

الأوركسترا العربية الوطنية بالتعاون مع اتحاد كورال جامعة ميشيغان الأمريكية

سندريلا وقصة حكاية وريقة الحناء 

ولا تنتهي أمثلة المهنا الأدبية عند تأثر شكسبير بالموشحات الأندلسية، إذ يقول إن قصة سندريلا الشهيرة مقتبسة من التراث الشعبي اليمني.

وهو ما يؤكد عليه بالتفصيل الدقيق ما ذكره علي محمد عبده في كتابه حكايات وأساطير يمنية (1985) من أن قصة سندريلا مقتبسة من قصة وريقة الحناء المتداولة في الأدب الشعبي اليمني التي نقلها اليمنيون إلى الأندلس.

وتدور الحكاية اليمنية الأصلية عن فتاة جميلة اسمها وريقة الحناء، ماتت أمها، فتزوج أبوها من أرملة لها بنت من زوجها المتوفى تُدعى كرم في مثل عُمر ابنته، لكن كانت زوجة أبيها تكرهها وتسيء معاملتها وتشتكيها عند والدها، بحجة أنها لا تساعد في أعمال البيت.

تتناوب الفتاتان على رعي الأبقار، وحين تخرج وريقة الحناء، تعود ممتلئة وشبعى، بينما في أيام كرم تعود جائعة وعطشى، والسبب يكمن في أن عجوزاً ساحرة كانت تجلس على الطريق، وكانت وريقة الحناء تتعهدها وتعطف عليها وتقدم لها نصف خبزها وتساعدها في تنظيف رأسها من القمل، فترد لها العجوز الساحرة المعروف بأن قالت لها اجلسي وقولي للأبقارك “ارعى وقرب” فتأكل من المرعى حتى تشبع ثم تتجمع عندها، أما كرم فكانت تزدريها، فتعاقبها العجوز بقول “جوع وباعد” فتعود هزيلة.

تأخذ القصة منعطفاً حين يأتي ابن السلطان إلى القرية لاختيار عروس من حفلة راقصة، فتُجهز زوجة الأب ابنتها كرم بأجمل ما تملك وتترك وريقة الحناء مثقلة بأعمال البيت، غير أن العجوز الساحرة تظهر مجدداً، فتمنحها ثياباً فاخرة وحذاء مُذهّباً وجواهر براقة.

تدخل وريقة الحناء الحفل فتسحر الحضور بجمالها، ويعجب ابن السلطان بها وبرقصها، ثم تجري من القاعة عندما ترى زوجة أبيها وابنتها كرم قبل أن يتعرفا عليها، فتضغط زوجة أبيها على رجلها ويسقط منها حذاؤها.

يجد ابن السلطان بعد الحفل حذاءها المذهّب، ويجول القرى بحثاً عنها حتى يصل إلى بيتها، وتحاول زوجة الأب أن تمنعه، لكنها يفتح كل غرف البيت إلى أن يجد وريقة الحناء على سطح البيت، ويتأكد أن الحذاء لا يناسب إلا قدميها، فيختارها زوجة له.

غير أن زوجة الأب في يوم الزفاف تنوي استبدال ابنتها بورِيقة الحناء، وعند وقت الزفاف، تتدخل العجوز الساحرة وتخدع كرم بحيلة تجعلها تدخل رأسها في قدر كبير من الطعام وتتلطخ ملابسها، ولا تجد الوقت لتنظيف نفسها وارتداء ملابس أخرى، بينما تجهز العجوز الساحرة وريقة الحناء للعرس، وهكذا تتزوج ابن السلطان وتعيش معه أياماً سعيدة.

لا تنتهي القصة عند هذا الحد، إذ تتآمر زوجة ابن السلطان الأولى على وريقة الحناء وتغرس في رأسها أشواكاً وإبراً مسحورة حولتها إلى حمامة، فافتقدها ابن السلطان وأخذ يبحث عنها دون جدوى، لكنها كانت تقف على غصن شجرة قرب الحقول حيث يعمل فتى يُدعى بتول، وتناديه يا بتول يا بتول كيف حال العريس؟ فتذرف الدموع حتى ينهمر المطر.

يحكي بتول قصة الحمامة والمطر لابن السلطان، لكنه يتساءل متعجباً كيف تمطر السماء في الحقل ولا تمطر عنده في القصر؟ يتكرر المشهد لعدة أيام، ويعاود بتول رواية ما حدث لابن السلطان الذي يقرر مراقبة الحمامة بنفسه، وفي النهاية، يمسك بها ويفتش رأسها، فيجد الأشواك والإبر ويزيلها واحداً واحداً، لتعود عندها وريقة الحناء إلى صورتها الأصلية، وتنتهي القصة بعودتها إلى زوجها، الذي يفرح بها ويطلق زوجته الأولى التي كادت لها، منتصراً للحب والصبر على الظلم.

تأثر الفلسفة اليونانية باليهودية

والفلاسفة في كل العصور منذ القدم لم تكن مقولاتهم من بنات أفكارهم بشكل مطلق، فهو يرى أن الوحي الإلهي كان دائماً بذرة لهذه التأملات، فلا سبيل إلى القضايا الغيبية المجردة من دون وحي. 

وهو ما نجده في مقال بعنوان أريستوبولس البانياسي على موقع الموسوعة اليهودية يقول فيه الكاتبان ريتشارد غوتهايل، بول ويندلاند إن الفيلسوف السكندري المنتمي لمدرسة المشّائين الذي عاش في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد أريستوبولس يستنتج في المقطع الثاني من التهيئة الإنجيلية الثانية عشرة من مناقشات سابقة، مفقودة اليوم، أن كلاً من أفلاطون وفيثاغورس استقيا من ترجمة العهد القديم قبل زمن ديمتريوس الفاليري الفيلسوف المشّائي والخطيب اليوناني المفوه، وحاكم أثينا بين عامي 317–307 ق.م، ومستشار بطليموس، الذي اقترح ترجمة التوراة إلى اليونانية، وسميت بالسبعينية اليهودية، لأن أكثر من سبعين حبراً عكفوا على ترجمتها في القرن الثالث قبل الميلاد في مصر، بهدف توفير النصوص الدينية اليهودية لليهود الناطقين باليونانية.

وفي ورقة قدمها مايك توليفر في جامعة ميزوري في سانت لويس بعنوان الحكماء والفلاسفة: إعادة تقييم التفاعل بين إسرائيل القديمة واليونان يقول إن الحكمة في إسرائيل ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدين، إذ نظر إليها على أنها هبة إلهية مرتبطة بمخافة الله والسعي إلى حياة صالحة، فالحكيم العبري لم يكن مجرد مفكر بل معلم أخلاقي يهتم بالعدالة والوصايا والعيش المستقيم.

أما في اليونان، فالفيلسوف كان يبحث عن المبادئ الأولى للكون، متكئاً على العقل والمنطق والتأمل، محاولاً فهم طبيعة الوجود بعيداً عن المرجعية الدينية المباشرة، ورغم هذا الاختلاف في المنطلقات، اتفق الجانبان على أن الحكمة والفضيلة هما الغاية النهائية للإنسان.

يشير توليفر إلى أن هناك احتمالات تاريخية للتأثير المتبادل، فبعد السبي البابلي والاحتكاك الواسع بين شعوب البحر المتوسط، من الممكن أن تكون بعض الأفكار العبرية قد وصلت إلى اليونان أو العكس، خاصة أن بعض المصادر القديمة مثل كتابات الرحالة والفيلسوف أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي الذي عاش في القرن الثامن في بغداد وغيره من المؤرخين الإسلاميّين أشارت إلى أن الحكماء من بني إسرائيل كان لهم أثر في الفلاسفة اليونان.

أثر الطب الأندلسي على أوروبا

ولم يغفل المهنا في مقابلته عن سرد أمثلة متعددة من تأثير علوم المسلمين في الأندلس على أوروبا. 

منها ما نجده في ورقة بعنوان مراجعة تاريخية حول الأطباء الأندلسيين وعلاج الصحة النفسية لهند العتيبي تقول فيها إن الطب الأندلسي شكّل مرحلة فارقة في تاريخ الطب العالمي، حيث تميّز بنظرة شمولية ربطت بين الجسد والعقل والروح، استمد فيها الأطباء الأندلسيون كثيراً من المعارف من الحضارات السابقة، وخاصة من التراث اليوناني الذي مثّله أبقراط.

كان أبقراط رمزاً لبداية التفكير العلمي في الطب الأوروبي، إذ أسس مدرسته على مبادئ الملاحظة السريرية والبحث عن الأسباب الطبيعية للمرض بعيداً عن التفسيرات الغيبية، وقد انتقل أثر أبقراط إلى الأندلس عبر الترجمات العربية للنصوص الطبية اليونانية، حيث تُرجم ما يُعرف بمجموعة أبقراط إلى العربية في العصر العباسي ثم إلى اللاتينية في طليطلة وصقلية.

وقد مثّل هذا قاعدة مركزية في المناهج الطبية بالأندلس، ومنها وصل إلى أوروبا، حيث اعتمد الأطباء الأندلسيون مثل ابن سينا والزهراوي وابن رشد على الفكر الأبقراطي في منهجية التشخيص وربط الأعراض بالبيئة ونمط الحياة، وأضافوا إليه تطويرات في مجالات الجراحة وعلم الأدوية وعلم النفس.

وتضيف العتيبي أن الطب الأندلسي كان أحد أهم الإسهامات في مجال الصحة النفسية، إذ جسّدوا مبدأ أبقراط القائل بأن المرض النفسي ليس لعنة، بل خلل يحتاج إلى علاج، على عكس النظرة الكنسية في أوروبا في العصور الوسطى التي اعتقدت أن الاضطرابات العقلية مرتبطة بالسحر أو الشيطان، وقد تبنّى الأندلسيون نهجاً عقلانياً متأثراً بمنهجية أبقراط يجمع بين العلاج الطبي والدعم النفسي والروحي.

أُسست في الأندلس أولى المارستانات (مستشفيات الصحة النفسية) مثل مارستان غرناطة في 1365، التي مثّلت نقلة نوعية مقارنةً بالمصحات الأوروبية اللاحقة، واعتمدت على الرعاية الرحيمة واحترام المريض، على عكس أوروبا التي كانت تميل إلى حبس المريض وعزله.

هذا النموذج الأندلسي، المستند إلى الأخلاقيات الأبقراطية في الرحمة والاعتناء بالإنسان، ألهم أوروبا لاحقاً وأسهم في صياغة بدايات الطب النفسي الغربي.

كما تميّز الطب الأندلسي بتطوير مفهوم الطب الوقائي عبر الحمية الغذائية والنصائح السلوكية، وهو امتداد مباشر لفكر أبقراط الذي أكّد على أن الغذاء دواء، وقد أصبح هذا المبدأ أساساً في الطب الأوروبي خلال عصر النهضة وما بعده.

في القرن الثاني عشر، لعبت مدرسة الترجمة في طليطلة دوراً حاسماً في نقل المعارف الطبية الأندلسية، الممزوجة بالفكر الأبقراطي إلى أوروبا اللاتينية، وقد تُرجمت آنذاك كتب بارزة مثل كتاب القانون في الطب (1020) بأجزائه الخمسة لابن سينا، الذي ظل مرجعاً أساسياً في أوروبا حتى منتصف القرن السابع عشر، وكتاب التصريف لمن عجز عن التأليف (1000) في ثلاثين مجلداً لأبي القاسم الزهراوي، الذي بقي مرجعاً في علم الجراحة في أوروبا لأكثر من خمسة قرون.

من خلال هذه الترجمات عاد أبقراط ليُشكّل العمود الفقري للتعليم الطبي الأوروبي، ولكن بعد أن نُقّح وأُعيد شرحه من خلال عدسة الأطباء الأندلسيين، مما غيّر مسار الطب الأوروبي، فتبنّت الجامعات الأوروبية مثل مونبلييه وبادوفا وباريس منهجية الملاحظة الإكلينيكية المتأثرة بأبقراط عبر الطب الإسلامي.

وبات يُنظر للأمراض على أنها ذات أسباب طبيعية، وأن الصحة نتاج توازن بين العوامل الجسدية والنفسية والبيئية، مما ساهم في التحول نحو العقلانية الطبية التي أصبحت السمة الأبرز للطب الغربي الحديث.

صحيح أن أبقراط مثّل  البداية، لكن أوروبا لم تتلق إرثه مباشرة، بل عبر الأندلس التي حفظت نصوصه، وأعادت صياغتها، وأضافت إليها تجارب عملية وأبعاداً أخلاقية وروحية، لتصبح همزة الوصل بين أبقراط في اليونان القديمة والطب الحديث في أوروبا.

فيلم وثائقي | الزهراوي (البوقاصي) أبو الجراحة | من إسلام ويب

حقوق الملكية الفكرية سلاح ذو حدين

شخصياً، لا أعرف عملاً دون مقابل، فإما أن يكون مادياً أو معنوياً أو أخروياً، ولما كان المقابلان المعنوي والأخروي لا يلبيان بالضرورة احتياجات الإنسان الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، ولا يقدر عليهما كل إنسان، فكان لابد للمجتمعات المادية أن تتدخل وتوفر الحماية لأفكار المفكرين والمبدعين والمخترعين، لتشجيعهم على المضي قدماً في تسخير أوقاتهم وجهودهم وربما أموالهم في إثراء المجتمع المتعطش لكل خطوة نحو التطور.

فظهرت قوانين عديدة لحماية حقوق الملكية الفكرية، لكنها قيدتها زمنياً حتى لا يحتكرها أصحابها وورثتهم إلى أبد الدهر، ولينتفع منها في الوقت نفسه أصحابها خلال فترة زمنية معقولة تترك للطموح الشخصي متنفساً.

وعلى سبيل المثال نجد أن موقع مكتب حقوق الطبع والنشر الأمريكي يشير إلى أن “مدة حقوق الطبع والنشر لعمل معين تتوقف على عدة عوامل، بما في ذلك ما إذا كان قد نُشر أم لا، وإذا كان قد نُشر، فما هو تاريخ النشر الأول، وكقاعدة عامة، بالنسبة للأعمال التي أُنشئت بعد 1 يناير 1978، تستمر حماية حقوق الطبع والنشر طوال حياة المؤلف بالإضافة إلى 70 عاماً أخرى”. 

أما بخصوص قانون البراءات المعروض أمام الكونغرس الأمريكي فقد نص على أن “تبدأ مدة البراءة من تاريخ منح طلب البراءة وتنتهي بعد 20 عامًا من تاريخ تقديم طلب البراءة الأساسي إلى مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي، وبما أن فحص البراءة يستغرق عادةً أكثر من عامين بقليل، فإن متوسط مدة البراءة الفعلية يكون حوالي 17 أو 18 عاماً، ويتيح قانون البراءات تمديد مدة البراءة بناء على التأخيرات في فحص البراءة أو في الحصول على الموافقة التنظيمية للأدوية والأجهزة الطبية الحاصلة على براءة اختراع”.

وعموماً، هناك شروط وتفاصيل وحالات أخرى عديدة فصلها القانون الأمريكي فيما يخص حقوق كل من الطبع والنشر، وبراءات الاختراع، والعلامات التجارية، والأسرار التجارية.

ورغم قوانين حماية الملكية الفكرية الوضعية، إلا أن الصراع القضائي المستعر بين الشركات المتنافسة حول براءات الاختراع يكشف اللثام عن نظرة مادية شرسة لا ترى أبعد من قدميها، ونادراً ما تسعى حقاً لرفاهية البشر، ولا حتى لإنقاذ المرضى الذين هم في أمس الحاجة لدواء لا يقدرون على ثمنه، ولا تحول بينه وبينهم إلا صكوك براءات الاختراع.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يكفي مقال على موقع رويترز بعنوان هيئة محلفين أمريكية تُلزم شركة آبل بتعويض قدره 539 مليون دولار في إعادة المحاكمة بقضية براءات اختراع ضد سامسونغ، لتخيل جانباً من شراسة الصراع المادي بين الشركات المتنافسة على براءات الاختراع.

وآخر أشد قسوة تُساوِم فيه شركات الدواء على حياة الناس مقابل المال على موقع مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بعنوان براءات اختراع الأدوية المنقذة للحياة تؤدي لأزمة صحية عالمية حولت حياة البشر إلى سلعة تجارية.

وأتمنى من كل قلبي أن ينظر الله بعين الرأفة إلى مكتشف البنسلين ألكساندر فلمنغ العالم الزاهد الذي لم يطالب ببراءة اختراع لعقاره، معتبراً إياها عائقاً أخلاقياً أمام البشرية، ومضحياً بثراء فاحش كان على طرف إصبعه بتوقيع بسيط منه، فأنقذ ومازال يُنقذ بعد وفاته ملايين البشر بمضده الحيوي من السل وشتى أنواع الالتهابات البكتيرية.  

أرى بعد استكشافي لقضايا حقوق الملكية الفكرية أن الإسلام له خصوصية فريدة من نوعها على مستوى العالم من البحث العلمي ونشر العلوم وتحصيلها، إذ لا يجوز شرعاً كتمان العلم أو احتكاره، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه، عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: “مَن كتمَ علمًا ألجمَهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ بلجامٍ من نارٍ”.

وبذلك لا يُقدِم غالباً على طلب العلم في البيئة الإسلامية إلا من يتقرب به إلى الله، فيبذل في سبيله وقته وجهده طمعاً في الثواب، لا رياءً ولا طمعاً في دنيا. 

وخلافاً للقيود الزمنية على حقوق الملكية الفكرية في القوانين الوضعية، لا توجد في الإسلام قيود زمنية على ثواب نشر العلم، فهو ثواب ممتد حتى قيام الساعة، فقد أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له”.

وكانت الأوقاف الإسلامية التي أشرت إليها في مقال الوقف الإسلامي بين الماضي والحاضر تتمتع باستقلالية صارمة عن الحكومات وبشرعية مقدسة لا تُمس، فكانت هي الراعي الأساسي لاحتياجات طلاب العلم والعلماء والمدرسين، دون إسراف مُلهٍ أو فاقة مُعطِّلة، يدعمهم كل من ابتغى الأجر والثواب من أفراد المجتمع المسلم دون منة أو استعلاء.

إن هذا الطمع الأخروي الجماعي في المجتمع المسلم من طلاب العلم والعلماء والمدرسين وداعميهم ينسجم مع قوله تعالى في سورة آل عمران “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”.

Ahmad Okbelbab
Ahmad Okbelbab
يَنظُمُ الحروفَ كحبات اللؤلؤ، لكنها سرعان ما تنفرط ليجمعها من جديد بحثاً عن شيء ما، ثم في النهاية يستسلم أمام الكلمات التي تأسره، والمعاني التي تفاجئه.
مقالات ذات صلة

اترك رد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا

الأكثر شعبية